عندما قامت ثورة 25 يناير حلمنا بالتغيير وطمحنا لغد أفضل، وتعلقت آمالنا بمجتمع جديد ينبذ الفساد والمفسدين ويفسح المجال للشرفاء لينهضوا به، مجتمع يتواري فيه تجار الشعارات وأصحاب الذمم الخربة ليحل محلهم أصحاب الضمائر والغيورون علي الوطن، مجتمع تراعي فيه قيم العدالة الاجتماعية وإعلاء صوت الحق، حلمنا بحقوق للفقراء والمعدمين والمهمشين في حياة لانقول كريمة ولكن فقط آدمية والفرق بين اللفظين نعلم جميعا انه كبير، حلمنا بمؤسسات تحمي حقوق الشعب وترعي مصالحه وتضع نصب أعينها هدفًا واحدًا ألا وهو الارتقاء بالخدمات المقدمة للناس.. فهل هذه الأحلام تحققت؟ الواقع في وقتنا الحالي يقول عكس ذلك. الرهان علي الوقت هو أبرز عنوان للمتفائلين من أبناء الوطن، الذين يرون أن كل مايحدث من فوضي واضطرابات هو أمر طبيعي باعتبار أن كل ثورات العالم أعقبتها أوضاع مماثلة، وأن التغيير لامحالة مقبل ويكفي في الوقت الراهن الحرية التي أصبح يتمتع بها الشعب وحق المواطن في أن يقول مايشاء وفي أي وقت يشاء، أما المتشائمون فلهم وجهة نظر أخري تري أن المؤشرات لاتبشر بخير مقبل وأن المجتمع يسيرلامحالة إلي حافة الهاوية.. مابين متفائل ومتشائم بشأن مايخبئه لنا المستقبل في جعبته عدنا إلي أرض الواقع لنتلمس أيهما أقرب للحقيقة وأيهما أكثر منطقية. ممارسات تقليدية علي الساحة السياسية كان الدستور والانتخابات البرلمانية وانتخابات الرئاسة هي العناوين الثلاثة التي تشغل بال المتهمين علي اعتبار أن إنجاز أي بند منها يسهم في الاستقرار ويترتب عليها حل كثير من المشكلات العالقة والمتفاقمة التي يعانيها المجتمع، ولأن الانتخابات البرلمانية هي المحطة الأولي التي تؤسس للبناء والتي سيتشكل بموجبها أعضاء اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، فإن هذه الانتخابات تكتسب أهمية قصوي.. ومع أقتراب موعد المرحلة الأولي من انتخابات مجلس الشعب التي ستجري الإثنين المقبل 28نوفمبر، عجت الساحة بالكثير من الأحداث والمفارقات والممارسات التي توجس البعض بشأنها وجعلتهم يرددون عبارة "ماأشبه الليلة بالبارحة"، والمؤشرات هنا كثيرة وأولها الحديث عن استخدام الرشاوي في الدعاية الانتخابية كما كان يحدث في الانتخابات السابقة، أصبح أمرا طبيعيا كما لو كنا لا ننتخب برلمانًا المفروض أنه يعبر عن روح الثورة برلمان يعتمد فيه المرشح علي برنامجه الانتخابي وعلي ثقافته ووعيه بخطورة المرحلة الحالية، التيارات الدينية التي ستخوض الانتخابات بثقلها هذه المرة استخدمت سلاح المال ووظفته بشكل كبير في الدعاية لنفسها وقد أتضح هذا جليا أثناء عيد الأضحي حيث تم توزيع كميات هائلة من اللحوم علي أهالي الدوائر الانتخابية في القاهرة وفي كثير من المحافظات، حيث يقومون بتجميع لحوم الأضاحي من المتبرعين بها ثم يقوم أحد المعروفين بانتمائه الديني في كل حي أو قرية بتوزيعها علي المواطنين، كما تم أيضا توزيع أموال وأقمشة وبطاطين وألعاب أطفال وجميعها وسائل استخدمها كثير من المرشحين وخاصة علي القوائم الفردية، وقد قدر خبراء الاقتصاد جملة ماسينفق من أموال علي الدعاية الانتخابية بخمسة مليارات جنيه، وهو مايشير إلي أن عقلية المرشح مازالت العقلية نفسها التي كانت تتحكم في الانتخابات السابقة. استخدام الدين أيضا في الدعاية الانتخابية كان مشهدا آخر حضر وبقوة خلال الفترة الماضية، فقد استغل بعض خطباء المساجد المنابر يوم الجمعة للدعوة إلي اختيار نواب الشعب ممن وصفوهم بمن يعرفون الله ورسوله، والابتعاد عن اختيار العلمانيين والليبراليين ممن لايعرفون الله علي حد تعبير هؤلاء الخطباء. وعلي جانب آخر ظهر مؤشر ثان يكرس لفكرة عدم التغيير، ألا وهو عودة "فلول" الحزب الوطني المنحل للترشح للانتخابات البرلمانية، وقد تفاءلنا خيرا عندما قضت محكمة القضاء الإداري بالدقهلية باستبعاد أعضاء الوطني من قوائم الترشح للانتخابات، إلا أن قرار الإدارية العليا الذي قضي بعدم تنفيذ الحكم أعاد الامور مرة أخري إلي المربع صفر، فأعضاء الوطني الذين أفسدوا الحياة السياسية في السابق يتزاحمون الآن بكل ثقلهم للفوز بمقاعد في برلمان الثورة وهو أمر يثير لكثير من السلبيات، خاصة أن هؤلاء يجيدون لعبة الانتخابات ويعرفون من الوسائل ما يجعل مقعد البرلمان يأتي لهم طائعا. العصبية والقبلية كانت هي الأخري مؤشرًا علي استمرار المعايير ذاتها في اختيار نواب الشعب، فكثير من العائلات في ريف وصعيد مصر تتوارث مقعد البرلمان وهي في ذلك تستخدم نفوذها وصيتها في التأثير علي أهالي الدائرة، وكل معايير اختياره تخضع لاعتبارات تقليدية، بغض النظر عما إذا كان هذا النائب صالحا لأداء دوره من عدمه. هذه المؤشرات جميعا جعلتنا نتساءل هل البرلمان المقبل هو فعلا برلمان الثورة؟ وهل ستختلف تركيبة أعضائه هذه المرة عما كان من قبل؟ أم أن الأمر لايعدو أن يكون نسخة مكررة من برلمان "سيد قراره" ولكن بشكل آخر؟ التغيير يحتاج فترة طويلة حتي يعي الناخب والمرشح معا التطورات التي طرأت علي المجتمع المصري، وفترة الثمانية أشهر التي مرت منذ قيام الثورة ليست كافية لإحداث التغيير في مجتمع سادت فيه مظاهر الفساد منذ مايزيد علي العشرين عاما- هذا ما أكده الدكتور عطيه حسين الأفندي- أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، و أضاف أن المكسب الحقيقي الذي تحقق بفضل ثورة ينايرهو حرية أي مواطن مصري أي أن كان مستواه في التعبير عن رأيه في كل مايحيط به من أحداث وهو أمر كان مستحيلا قبل الثورة، وحتي لو حدثت تجاوزات جراء هذا التعبير فهو أمر مقبول في إطارالحالة الثورية، هذه الحرية التي يتمتع بها المواطن العادي هي الخطوة الأولي نحو التطور الديمقراطي المأمول، وبناء عليه يجب ألا ننتقد مثلا قيام فصيل سياسي بعينه بتوزيع المواد التموينية واللحوم والأقمشة علي الناخبين، ولكن الأجدي من ذلك توعية الناخب بطريقة الاختيار السليم للمرشحين وكيفية المفاضلة بين المتنافسين سواء علي القوائم الفردية أو القوائم الحزبية، وعلينا أن نتخلي عن فكرة الحماية وفرض الوصاية علي الشعب، لأن هذه الفكرة تكرس للتحزب والتصارع بين فئات وطوائف الشعب وبدلا من ذلك يجب علي كل المهتمين بمستقبل البلاد أن يسهموا في نشر الوعي السياسي في الأماكن البعيدة وقري ونجوع محافظات مصر والتي تنتشر الأمية السياسية فيها بمعدلات خطيرة، وعلي كل مهتم في موقعه أن يقوم بدوره في التوعية بالعملية الانتخابية وتأكيد أهمية الاختيار الصحيح، وقد بدأت بنفسي حيث أتحدث مع طلابي في الجامعة عن كل هذه الامور التي سيتحدد بناء عليها مصير هذا البلد. ويشير الأفندي إلي أن الناخب يجب عليه ألا يدع فصيلا بعينه يسيطر علي البرلمان المقبل، وأن يحرص علي توزيع الأصوات بين القوي والأحزاب السياسية حتي نتمكن من تكوين برلمان يعبر عن الاتجاهات المختلفة وأن يكون متوازنا حتي يستطيع القيام بدوره الرقابي والتشريعي دون أن يجره البعض في هذا الاتجاه أو ذاك كل حسب هواه السياسي. ويؤكد أن البرلمان المقبل سيكون مختلفا عما قبل، فلن يستطيع الوزير أن يتخلف أثناء مناقشة الاستجواب ولن يرسل أحد مساعديه أو وكلاءه للرد، ولن نجد وزيرًا يقضي وقته في التسلي بالألعاب علي هاتفه المحمول، ولن نجد من يتسلي بتناول 'قزقزة' اللب ولن نجد أيضا النائب الذي يقف بجوار الوزير منتظرا تأشيرته، إلي آخر كل هذه الأمور التي كانت تحدث من وزراء النظام السابق، ولكن هذا البرلمان سيكون مختلفا أيضا في تركيبة أعضائه فمن المتوقع أن تحصل التيارات الدينية علي النسبة الكبري وليست الأغلبية وذلك علي اعتبار انهم يخاطبون الناس علي وتر الدين وهو عنصر مؤثر علي غالبية المصريين، كما أنهم تتوفر لديهم القدرة المالية والخبرة يالانتخابات وكل هذه العوامل ترجح كفتهم، لكننا لانتمني أن يسيطر عدد كبير منهم علي البرلمان. ويشير إلي أن رجال الأعمال لن يكونوا ممثلين مثلما سبق وعلي الرغم من أن بعض أقطاب الفساد في الحزب المنحل مرشحون في بعض الدوائر، ولكنهم ليسوا الكثافة العددية ذاتها كما كان في السابق. ويختتم الأفندي قوله أنا -بصفته مصريًا- متفائل بأن الغد سيكون أفضل وأستبعد نظرية المؤامرة فيما يحدث الآن من فوضي ولكني ارجع الأمر إلي كون الشعب عاني القهر علي مدي ثلاثين عاما وعندما تنفس الحرية مارسها حسب وعيه، وكما يقول الكاتب البريطاني رويرت فيسك مصر أثناء مبارك مستقرة موتا، وأنا أقول إن الميت عندما يفيق سيكون مضطربا ثم يعود لطبيعته. التغيير المتوقع وإذا كان الدكتور الأفندي يعتبر أن التغيير لن يكون جذريا وإنما تدريجيا، فإن الدكتور مازن حسن أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة يتفق مع الرأي نفسه ويقول إن الانتخابات المقبلة لن تشهد طفرة كبري كما هو متوقع، وأن الممارسات السلبية التاريخية التي كانت سمة العملية الانتخابية في الدورات السابقة، مثل استخدام المال السياسي أو العنف أو التصويت القبلي، لن تختفي بين عشية وضحاها، فتلك الممارسات متعلقة بثقافة مجتمعية تكرست خلال سنوات طويلة ويحتاج تغييرها إلي أكثر من عملية انتخابية علي مدار عدد من السنوات لكي تبدأ في الانحسار سواء من قبل المرشحين أو من قبل الناخبين. ويؤكد انه في أي ديمقراطية جديدة لن يكون هناك تحول جذري في خلال بضعة أشهر ويجب ألا نكون مفرطين في التفاؤل في هذا الشأن بأن البرلمان سيكون مختلفا كليا، لأن الأمور متعلقة بالمكون الثقافي، أما عن تركيبة البرلمان المقبل فيقول الدكتور حسن إنه من الصعب توقعها في الوقت الراهن لأنه لا توجد استطلاعات رأي فيها درجة من المصداقية لكن الاحتمال الأكبر أن يكون هناك استقطاب علي محورين: أولهما التيار الديني والثاني المحور المدني الليبرالي وهذا في حد ذاته يمثل خطورة لأنه في هذه الحالة يصبح الحصول علي أغلبية لاتخاذ قرار في غاية الصعوبة.