يوماً ما ستنقضي الأحداث الرامية وتعود الحياة إلي نهجها المتواصل والمعهود، وربما ستتحسن ظروفها فنلعن الظلام الذي رضينا به لسنوات طويلة ، و ربما يحدث العكس فنعود لنرجو عودة أيام الماضي في محاولة بائسة نتمني فيها عودة عقارب الساعة إلي الوراء، وفي تلك اللحظات المستقبلية فقط يمكننا أن نحكم علي الأيام التي نحياها الآن وأن يكون حكمنا وقتها محايداً ونزيهاً، فالحماسة والمؤثرات المحيطة والآراء المتضاربة تقف عائقاً في طريق التوصيف الصحيح لدرجة أن هناك اختلافا حتي حول توصيف ما يحدث الآن في مصر، فالبعض يري أنها ثورة شعبية أسقطت النظام الفاسد ، والبعض الآخر مازال يعيش في عهد انتهي ،و يراها مجرد انتفاضة شبابية كانت من أجل الإصلاح و هي مجرد " فورة" علي حد وصف رئيس وزراء سابق و سرعان ما سيعود الحال لما كان عليه ، لكن أياً كانت الأحداث وكان وصفها فإن هذه الفترة ستبقي أكثر الفترات خطورة في تاريخ مصر الحديث ، كونها مرحلة مفصلية في عملية التغيير ، وهذا ببساطة لأننا وللأسف الشديد قد إستطاعنا أن نسقط الرئيس ونخلعه من علي كرسي العرش الذي طن أنه مخلد عليه و سيرثه من بعده ابنه و احفاده ، لكننا لم نستطع حتي كتابة هذه السطور في إسقاط النظام ، فمازال الكثير والكثير من فلول الحزب الوطني في المناصب القيادية و يمسكون بجزء كبير من مقاليد الأمور . فالانتخابات علي الأبواب .. وإذ بنا نري الكثير من أعضاء الحزب الوطني المنحل يخوضون المنافسة في إنتخابات برلمان الثورة ، كيف نسمح لمن أفسدوا الحياة السياسية ، بل وكل مناحي الحياة في مصر بأن يعودوا مرة أخري كي يكملوا مسيرة الفساد ؟! ، يطمح الشعب إلي مجلس جديد منتخب بدماء جديدة و فكر جديد ، و كذلك يطمح الشعب إلي دستور جديد بلا عورات أو نقائص فإذا بوثيقة حاكمة للدستور حتي قبل أن يتم انتخاب البرلمان الذي سيخلق نواة الجنة التأسيسية لصياغة الدستور الجديد ! ، نطمح إلي الأمن ، وإلي العدالة ، و نهفو إلي الحرية ، فإذا بكل شئ يبقي كما هو .. دون تغيير يُذكر ! عدم التغيير و الإصرار علي الإبقاء علي الكثير من الأوضاع علي حالها كما كانت في عهد النظام البائد يولد لدي الكثير من الناس شعوراً داخليا بأن الثورة هي من أفسدت الحياة بدلاً من أن تصلحها ، وهو ما يخلق شعوراً مضاداً للثورة لدي البعض ، هذا الشعور المضاد هو ما يطمح إليه الفلول ، فبالنسبة لمذاق الثورة فهي فلسفة أو بالأحري شعور يمكننا من استصاغة الأحداث نفسها لنصنع من ذلك مواقفنا ونشكل أفكارنا حيال ما يحدث ، ففي كتابه 'البذور والجذور والتمر' يقول المفكر الأستاذ/ عبد الوهاب المسيري: "إن سيدة أمريكية أخبرته عندما زارته في منزله أن لحم الدجاج يعتبر أقل أنواع الدجاج جودة ولذلك فهو أرخص أنواع اللحوم"، وأضاف المسيري: لقد أصبح مذاق الدجاج رخيصاً في فمي أنا الذي كنت أجده لذيذاً للغاية. في الواقع لقد بدأت أشعر بحالة من الارتباك حيال ما يحدث في مصر، فوتيرة الأحداث المتسارعة أفقدتني القدرة علي التفكير حيال الأوضاع فأصبح موقفي متأرجحاً بين فريقين انقسم بينهما معظم أبناء الوطن ، انتخابات أولا أو الدستور أولا ، مدنية أو دينية ، حكم مدني أو حكم عسكري ، وغيرها من الانقسامات ، وفي كل محاولة للوقوف إلي طرف دون الآخر كنت أجدني أعود للانضمام الجانب الآخر بعد حين وذلك في ظل حالة من التشتت وعدم المعرفة ، لقد بدأت أفقد طعم الأحداث مع مرور الوقت ، لا أقول إني مللت من مطالبة الناس بمطالبهم بقدر ما أقول إنني بدأت أشعر بالخوف من مستقبل مجهول تنتظرنا فيه فاتورة الخسائر التي أصابت الوطن ، كان أخرها ما سمعته من وسائل إعلام تؤكد أنه قد تتعرض الدولة للافلاس بعد 6 أشهر إذا لم تستأنف عملية الانتاج و يتم إيجاد سبل جديدة للاستثمار و زيادة موارد خزينة الدولة ، كم أتمني أن تعود الروح الطيبة الجميلة التي كانت في الميدان بيننا نحن المصريين و أن نستغلها في الانتاج و البناء و الاصلاح ، كم أتمني أن تبقي روح الثورة متقدة كي تضئ لنا معالم الطريق في المستقبل كلما ضللنا سبيلنا في وسط تلك الخلافات و النزعات الحزبية و الفكرية المشتعلة ألان ، لكن يبقي شيء واحد مطئمن هو أنه لا مذاق لهذا الخوف الآن .. طالما لم يأت المستقبل بعد !