5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



41 عاما مضت .. وما زلت تكبر في قبرك - جمال عبد الناصر .. سر الرجل الذي أعاد اكتشاف مصر..فيديو

واحدٌ وأربعون عاماً مضت وما زلت ' تكبر ' في قبرك .. وما زلت ترسل تحاياك لسيدة الحب .. مصر .. حين تخبرك حكايات الليل عما جري، وعما يجري علي أرض المحروسة .
غادرت دنيانا، غير أن قلبك ما زال ينبض .. وهو الذي خطّ بمداده آلاف القصص عن تلك العيون الهاربة من وهج الشمس بحثاً عن ظل خيمة في فضاء الحياة الرحب .
هل يمكن أن يغيب صوتك .. وهو الذي طالما عبّر عن الكادحين .. الذين تسكن في أعينهم أقمار هاربة وشوارع تعزف فيها الرياح ' سيمفونية الآه ' فيلتحفون الجوع ويتوسدون الظمأ؟ !
هل يمكن أن يخفت نبضك .. وهو الذي تصدي دوماً لمن يسفحون العمر علي مذابح ' الخيانة ' و'التفريط ' و'إهدار الوطن'؟ !!
هل يُعقل أن تغمض عيناك .. وهي التي احتضنت في حدقتيها وجوه المعذبين حين تستحم بنهارات الشمس وتغتسل بمصابيح الشوارع الخائفة من وحشة الليل .. وهم يتكئون علي جدران انتظار حلم قد يأتي ، وقد لا يأتي أبداً؟ !!
' 1 '
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي :
الناس صنفان : موتي في حياتهمُ ... وآخرون ببطن الأرض أحياءُ .
وإذا كان جمال عبد الناصر قد فني ب'الجسد ' ، فإنه بقيّ ب ' الأثر ' ، وما زالت أشواق الملايين من المحيط إلي الخليج تتعلق به وبعصره وبصموده وإخلاصه لوطنه ولأمته . وصدق الراحل الكبير فتحي رضوان في كتابه ' 72 شهراً مع عبد الناصر ' حين قال : '.. فعبد الناصر لم يكن رئيس دولة، ولا زعيم حركة، ولا بطل فترة من حياة مصر أو حياة المنطقة الغالية والخطيرة، التي نعيش فيها، وننتسب إليها . بل كان عبد الناصر عهداً بشّر بمبادئ، ودعا إلي حياة جديدة، وخاض حروباً ترامت أبعادها، وتصاعدت آثارها ووصلت إلي أعمق أعماق النفس العربية، في مرحلة من حياة الشعب، والإنسانية كلها،تتهيأ فيها للتغيير والتطور '.
اتساقاً مع مقولة ' تشيكوف ': ' إن كل لحظة من حياتك لها قدرها ' ، هكذا كانت حياة عبد الناصر مفعمة بالثورة والفوران والتحديات، فهي جميعها تشكل حلقات متصلة وصولاً إلي نقطة التقاء قدرية بين ' الرجل ' و'الدور ' ، فناصر تكمن كاريزمته وتاريخيته في أنه أعاد اكتشاف مصر .. الدور الحضاري .. والتقائها بمحيطها العربي ثم الإفريقي فالإسلامي، فضلاً عن التفاعل مع قضايا التحرر الإنساني عالمياً، هذا من ناحية .. ومن ناحية أخري، حوّل ناصر حالة ' التصحر ' الاجتماعي والاقتصادي داخلياً إلي حالة أخري من ' الارتواء ' تأسست علي جناحين : استقلالية القرار السياسي، والتنمية المستقلة . وكان ناصر من القوة والإصرار لتحقيق تلك الاطروحات الطموح بحيث يمكن تشبيهه بقول الشاعر :
فلن يرتاع من خوض السواقي ... فتي قد خاض في البحر الكبير .
وبحسبة رقمية بسيطة .. ووفقاً لتقديرات البنك الدولي ' وهو مؤسسة دولية معادية للتجربة الناصرية ' .. نجد أن معدلات التنمية بين عامي 56 - 1966م تتزايد في المتوسط بما نسبته ' 7٪ ' ، وبلغت ' 4٪ ' بين عامي 67 - 1969م وهي فترة ' اقتصاد الحرب '.. أي في ظل حرب، وحرب استنزاف ' التي اعتبرها العدو الصهيوني الحرب الرابعة وكانت خسائره فيها فادحة ' ، وتوجيه معظم الموارد لصالح المجهود الحربي .. فيما يشبه المعجزة الاقتصادية في ظل قطاع عام قوي نجح في مضاعفة الإنتاج والحفاظ علي مستويات الأسعار بالتزامن مع إعادة تسليح الجيش المصري، وإنشاء قواعد الصواريخ .
وفي الفترة ما بين عامي 52 - 1970م، كان التغيير الاجتماعي جذرياً إذ زاد تعداد الشباب بالمدارس والجامعات والمعاهد العليا بنسبة ' 300٪ ' ، بينما كان هناك طبيب واحد لكل خمسة آلاف نسمة قبل عام 1952م أصبح هناك طبيب لكل ألفي نسمة، كما زاد متوسط العمر من ' 43 ' إلي ' 52 ' سنة . وكان عبد الناصر أول حاكم مصري يوسع رقعة وادي النيل إذ زادت مساحة الأرض الزراعية بنسبة ' 15٪ ' ، وبالتالي ولأول مرة سبقت الزيادةُ في الرقعة الزراعية الزيادةَ في عدد السكان . وتقلصت نسبة الأمية من ' 80٪ ' في عام 1952م ' عدد سكان مصر وقتها بلغ 18 مليون نسمة ' إلي ' 50٪ ' في عام 1970م حين توفي عبد الناصر ' عدد السكان وقتئذٍ كان 40 مليون نسمة '.
وقد بدأ عبد الناصر خطواته الوثابة بتطبيق ما يمكن تسميته ' الأبعاد الاجتماعية لحرية المواطن ' عبر إزالة سوءات النظام الملكي بصدور قوانين الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية، ورفع شأن الفلاحين والعمال . وكذلك مطاردة النفوذ الأجنبي المتغلغل في المجتمع المصري بحكم الاحتلال الانجليزي؛ إذ تم تمصير وتأميم التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب، وتم تشييد المشاريع القومية الكبري كالسد العالي ومجمع الألومنيوم وعشرات المصانع، فضلاً عن تأميم قناة السويس . كما تم توسيع رقعة التعليم ثم مجانيته الكاملة، ومجانية العلاج، وتخفيض سن الإدلاء بالصوت الانتخابي إلي سن الثامنة عشرة، وحق الانتخاب للمرأة . وقد تبلورت نظرة ناصر في ربط حرية التعبير بالبعد الاجتماعي بصورة نهائية في عام 1961م بقيام تحالف قوي الشعب العامل وصدور ' القوانين الاشتراكية ' الهادفة إلي منع استغلال الإنسان للإنسان .
' 2 '
كان أثر ثورة يوليو وزعيمها مدوياً في منطقة الشرق الأوسط والعالم ، فقد وحّدت ودعّمت جميع حركات التحرر علي امتداد رقعة الوطن العربي، وأزالت مراكز الاحتلال في الجزائر واليمن والعراق وليبيا، وأزالت كذلك القواعد الأجنبية في السويس، والحبالية بالعراق، والعضم وهويلي بليبيا، وعدن باليمن . كما أصبحت الوحدة العربية حقيقة بعد أن كانت مجرد حلم تجسد في دولة الوحدة مع سوريا ' 58 1961م ' ، والتي تعرضت لسهام الحقد والتربص من الغرب والقوي الرجعية المتحالفة معه ومن العدو الصهيوني .
ودعمت مصر الناصرية بكل قوة حركات التحرر في إفريقيا ' الدائرة الثانية لتحرك مصر نحو العالم بعد الدائرة العربية ' وما زالت عشرات الشوارع في القارة السمراء تحمل اسم عبد الناصر تقديراً لدوره الكبير في تحريرها حيث تنامي دور الأزهر الشريف بالقارة في إيفاد عشرات العلماء والمشايخ ومقاومة بعثات التبشير وتسجيل أعلي نسب الدخول في الإسلام في عهد جمال عبد الناصر في إفريقيا حيث دخل سبعة أفارقة من بين كل عشرة تم تبشيرهم بالإسلام بفضل مكانته الكبيرة في النفوس، فضلاً عن دور شركة النصر للاستيراد والتصدير وما قامت به من أعمال ونشاطات تصب كلها في خانة الاهتمام الكبير بما تحتاجه القارة الإفريقية في جميع المجالات، وكذلك إيفاد مئات الأطباء والمدرسين والمهندسين المصريين إلي كل أنحاء القارة الإفريقية، وكذا بعثات وزارة الري في السودان وأثيوبيا وغيرها من دول حوض النيل .
كما دعم ناصر حركات التحرر في أمريكا اللاتينية وآسيا ودول العالم الثالث عموماً، فضلاً عن اختراق النظام الدولي ثنائي القطب ، الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945م ' الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من جانب، والاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية من جانب آخر ' ، عبر إنشاء ' الكتلة الثالثة ' المعروفة بدول عدم الانحياز مع قرنائه من زعماء الهند ' نهرو ' ويوغسلافيا ' تيتو ' وغيرهما . وكما حدث في إفريقيا، ما زالت أسماء الشوارع الرئيسة في دول أمريكا اللاتينية تحمل اسم ناصر .
' 3 '
علي قدر إعجابي الكبير بالشاعر الإسباني الأشهر ' لوركا ' ، إلا أنني لم أستطع أن أفهم عبارته البليغة : أريدهم أن يدلوني أين يوجد ذلك الطريق الذي يفضي إلي هذا القائد الذي كبلته أغلال الموت .. إلا عندما قرأت تلك العبارات الكاشفة التي قالها عبد الناصر في أحد الأيام :' إنني أفخر دائما بأنني واحد من أهالي بني مُر وأفخر أكثر من هذا بأنني من عائلة فقيرة نشأت في بني مُر، وأنا أقول هذا لأسجل أن جمال عبدالناصر نشأ من عائلة فقيرة، وأعاهدكم بأن جمال عبدالناصر سيستمر حتي يموت فقيراً في هذا الوطن ' .. والمؤكد أنه قد كان علي عهده إذ عاش ومات فقيراً .
فلم تخدشه شهوة إلي مال أو ترف . وعلي حد تعبير رفيق دربه الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ' في الحوار الذي أجراه معه الصحفي اللبناني الكبير طلال سلمان بمجلة ' الصياد ' في 1971 / 6 / 10 ' فإن عبد الناصر كان يرفض ان يخرج، ويعتذر عن عدم قبول كل الدعوات التي توجه إليه، فإذا ما سألته او أبديت دهشتي قال لي ببساطة : أعرف سلفا ما الذي سأجده بانتظاري . من بإمكانه أن يدعو رئيس الجمهورية غير الاغنياء؟ وأنا لا أحب صحبة هؤلاء ولا أريدهم ان يتخذوا من دعوتي ستارا لأسباب ثرائهم أو تبريرا لإسرافهم الفظيع بينما الاكثرية الساحقة من شعبي لا تكاد تجد قوت يومها '.
وقد ذكر المرحوم خالد عبد الناصر نجل الزعيم، والذي شاءت إرادة الله أن يغادر دنيانا مؤخراً وفي الشهر نفسه الذي توفي فيه والده، أكثر من مرة أنه كان أحياناً يركب السيارة إلي جوار أبيه، وحين يجدان طفلا يمشي علي قدميه وثيابه مهملة، كان عبد الناصر يتألم كثيرا ويسرح بعيداً ويقول له : ' شايف يا خالد .. إمتي دول يبقوا زيك؟ !'.
وقد روي السيد سامي شرف في حوار صحفي أن ابنتي الزعيم هدي ومني قد طلبتا منه يوماً شراء فستانين جديدين لأنهما مدعوتان لحضور حفل عيد ميلاد صديقة لهما، وحتي لا تذهبا إلي الحفلة بالفساتين ذاتها التي ذهبتا بها إلي حفلات سابقة كانت تضم الصديقات أنفسهن، لكن عبدالناصر الأب قال لهما : إن عائلتهما ليست عائلة غنية بحيث تلبسان في كل حفلة فستانا جديدا وأن والدهما إنسان فقير . ولم يكتف عبد الناصر بذلك، بل إنه في اليوم التالي كلف سكرتيره محمد أحمد أن يصطحب بناته وأبناءه جميعا إلي أحد البيوت القديمة بالدرب الأحمر، يشاهد أولاده هذا البيت ويعرفون أنه ذلك البيت الذي عاش فيه والدهم الزعيم في صغره .
كما كان ناصر صارماً مع أهله وحساساً في استخدام اسمه لأي غرض لهم حتي إنه قال يوماً لشقيقه الليثي عبد الناصر إنه لا مانع أن يتحسن المستوي المادي لأهله بشرط أن يكون ذلك مع نمو المستوي الاقتصادي للبلد كلها، وبشرط أن تعتمدوا علي أنفسكم ، لأنه لا تمييز لكم عن بقية الناس، وإذا ثبت أن هناك منكم من يستغل اسمي ' مش حا أرحمه '. ويكفي أن نعرف أن أخاه مصطفي عبد الناصر حين تخرج في الثانوية العامة وأراد الالتحاق بالكلية الحربية،رفض عبد الناصر استثناءه للدخول حيث كان أكبر بعدة أيام فقط من السن المحددة للقبول، والمثير أن مصطفي توجه لاختبارات دخول كلية الشرطة ورسب فيها، وهو أخو الرئيس !!.
' 4 '
ولأن ' الفضل ما شهد به الأعداء ' ، علي حد وصف الشاعر، نستطيع أن نعرف جيداً ' قيمة ' و'قامة ' جمال عبد الناصر حين نقرأ ما قاله عنه أعداؤه بعد وفاته، فقد قال ' ديفيد بن جوريون ' أول رئيس وزراء إسرائيلي عنه : ' كان لليهود عدوان تاريخيا هما فرعون في القديم، وهتلر في الحديث، ولكن عبد الناصر فاق الاثنين معاً في عدائه لنا، لقد خضنا الحروب من أجل التخلص منه حتي أتي الموت وخلصنا منه '. فيما قال عنه ' مناحم بيجن ': ' إن وفاة عبد الناصر، تعني وفاة عدو مر، إنه كان أخطر عدو لإسرائيل . إن إسرائيل لهذا السبب لا تستطيع أن تشارك في الحديث الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدراته وحنكته وزعامتة '. أما ' حاييم بارليف ' رئيس الأركان الإسرائيلي فقد قال : ' بوفاة جمال عبد الناصر أصبح المستقبل مشرقا أمام إسرائيل وعاد العرب فرقاء كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزماتية '.
ويذكر ' هنري كيسنجر ' وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في مذكراته أنه شعر بالسعادة البالغة لنبأ وفاة ناصر لأن وجوده بسياسته الراديكالية المعادية للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط كان يمثل أكبر عائق لتنفيذ الأهداف الأمريكية في المنطقة الأهم عالمياً لها . ويحلل ' كيسنجر ' أوضاع المنطقة عقب وفاة الزعيم، بحيث يصل إلي أن الوقت أصبح مناسباً للوصول إلي ' حل أمريكي ' للصراع بين مصر وإسرائيل، وأن يتضمن ثلاثة شروط : طرد النفوذ السوفيتي من المنطقة كلها ' وهو ما قام به السادات بالفعل !!' جعل مصر ضعيفة غير قادرة علي التأثير بأي نفوذ علي الإطلاق في العالم العربي ' وهو ما حققه بالفعل المخلوع حسني مبارك !!' أن تظهر التجربة الثورية التي قادها عبد الناصر في مظهر التجربة الفاشلة ' وهو الأمر الذي فشل فشلاً ذريعاً رغم كل تلك السنوات الطويلة من محاولات الهدم، والدليل .. هذا الحنين الجارف لعبد الناصر والمستمر حتي اليوم، والذي زاد وهجه بعد ثورة 25 يناير المجيدة '.
' 5 '
منذ عدة سنوات أصدر عبد الحميد صالح حمدان عن ' عالم الكتب ' كتاباً مهماً تحت عنوان : ' العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة ' حيث جمع فيه مذكرات المفكر العبقري الراحل جمال حمدان صاحب العمل الفذ ' شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان ' ، ومما جاء فيه من كلمات مفكرنا الراحل أن الناصرية ' بوصلة مصر الطبيعية ' مع احتفاظ كل مصري بحقه المطلق في رفض عبد الناصر لأن المصري ' ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها '.
كما كتب د . حمدان أن جمال عبد الناصر ' أول وللأسف آخر ' حاكم يعرف جغرافية مصر السياسية وأن ' الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون ... أنت مصري إذن أنت ناصري ... حتي لو انفصلنا عنه ' عبد الناصر ' أو رفضناه كشخص أو كإنجاز . وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج علي الناصرية ولو أراد إلا وخرج علي المصرية أي كان خائنا ' لأن الناصرية في رأي جمال حمدان ' قدر مصر الذي لا يملك مصري الهروب منه '.
وأخيراً .. لا أجد تعبيراً عن الشوق لناصر .. الإنسان والزعيم .. أجمل مما قاله أبو الطيب المتنبي :
مضي الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلي في العيون من الغمض .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.