هل للحمار قيمة فى حياتنا؟! هذا سؤال قد يحل كمًا زاخرًا من السخرية.. بعد أن طرحة المصريون على أنفسهم منذ أزمنة بعيدة.. حتى صارت إجابته جاهزة.. ونحن نلمسها بعد أن صارت كلمة حمار عندما تلصق بإنسان تعنى تمتع هذا الإنسان بداء الجهل، والإحساس بالدونية.. وعدم التمييز بين الأشياء حلوها ومُرِّها، المفيد منها والضار. انت حمار يا جدع؟! عبارة قد يطلقها المواطن المصرى فى لحظة غضب على رفيق دربه عندما يشك فى مقدرته على الفهم أو الإدراك السليم.. أو أنه غير قادر على التواصل معه.. وربما من هنا أدرك كبار مثقفينا هذا العبء الذى وقع على ذلك الحيوان الذى هو بالطبع الحمار دون سواه من الحيوانات الأخرى.. حتى إننا قرأنا عن حمار الحكيم.. وعن حمار يحيى حقى.. وحمار «سرفنتس».. وغيرهم كثر من الأدباء الذين أخذوا منه رمزية لقوة الاحتمال والصبر والجََلَد منوهين بأن هذا الحيوان يتميز بالوداعة وبالمقدرة على الفهم والتمييز عكس ما هو شائع ومتداول بين عموم الناس والأمثلة عديدة على جحا وحماره!! لكن الرسالة الضمنية التى أتت فى بعض الكتب الدينية والسيرة الشعبية.. لا تظلموا الحمير من فضلكم!! أذكر على سبيل المثال لا الحصر.. دفاعًا حارًا عن الحمار والحمير سمعته وأنا لم أزل بنت العشرين من عمرى.. وقد استغرق محاضرة كاملة كان قد ألقاها علينا الفنان القدير «محمود مرسى» ونحن لم نزل طلبة صغارًا فى أكاديمية الفنون فى سبعينيات القرن الماضى.. كان من المفترض أن يحدثنا عن مدارس الإخراج باعتباره أستاذ مادة الإخراج فإذا به من أول محاضرة يحدثنا عن فضائل «الحمار»! وظل يطوف بنا وعن عمد فى إظهار القدرات الفذة التى يحملها «الحمار» ثم ينتقل بنا للتشريح العضلى والقيم الجمالية لملامح «الحمار» واتساع عينه! وكيف أنه حمل السيد المسيح.. وكم استخدمه الثوار فى تسلق الجبال فى أطراف أمريكا اللاتينية.. وكيف نسىء نحن المصريين له أيَّما إساءة فى تحميله أكثر من طاقته.. وفى ضربه بشكل مبرح حتى نرغمه على ذلك. العجيب أننا ظللنا مشدودين له عبر ساعات طوال لم يغضب أحد ولم يتبرم هل لصغر سننا؟! أم أن الصدمة شلَّت حواسنا وبتنا نسأل: ماذا بعدُ؟! وماذا يريد الأستاذ «محمود مرسى» أن يقوله لنا فى نهاية المطاف؟ المهم أننا خرجنا بعد هذه المحاضرة.. فى سنتنا الأولى.. ونحن نضرب أخماسًا فى أسداس.. كل يفسرها حسب هواه.. وكأنه رمز ثلاثى الأبعاد.. بل أكثر من ذلك.. عابر للحدود الفاصلة بين المعقول واللامعقول.. يلج بنا بحور الممنوعات فى السياسة والمجتمع آنذاك بسهولة ويسر وفى إشارة لشخصيات اعتبارية كبرى دون الوقوع فى المحظور.. أو كما يقال «تحت طائلة القانون».. وفى قول آخر «الاستبداد أو القمع»! وكأن الفنان الأستاذ «محمود مرسى» رغب منذ البداية فى أن يعلمنا كيف السبيل للوثوب تجاه الحريات واقتناصها بأسلوب الرمز والتأويل! ومن هذا الاتجاه دلفنا معه ليحدد فهمنا تجاه التعبير القرآنى «كمثل الحمار يحمل أسفارًا» أى الإنسان الذى قرأ الكثير والكثير من الكتب.. لكنه لم يتثقفها ولم تتغلغل بعد رياح التغيير والعقلانية فى جوابحه.. وتسكن وجدانه.. أو ليس هذا ما ينطبق على ما نراه فى صورة سلفيى هذا العصر والأوان اليوم.. وهم يرجموننا بفتاوى ضالة وأحكام غاشمة تخاصم العصر وصحيح الدين؟! نعم إن صورة السلفى هذا تتكافأ مع صورة المثقف الجامد والانتهازى.. أو المثقف «الكشكول» الذى يعيد ما قرأه فى الأوراق الصفراء على مسامعنا وكأنه يقرأ من كتاب فى حصة المحفوظات الرشيدة! وكل همه أن يجرجرنا إلى الخلف.. ويئد شعلة الاجتهاد والتنوير.. لنعيش مثله.. كالخفافيش فى عصور من الظلمات! وإذا ما عُدنا للحديث عن «الحمار» حقًا باعتباره دابة نافعة ومفيدة للفلاح المصرى منذ آلاف السنين.. تعينه فى حرث الأرض وجمع المحصول حتى يومنا هذا رغم دخول الميكنة بقوة فى حياة الفلاح.. أضيف إلى هذا أن «الحمار» فى المنظور القريب.. سنراه أشبه بالسلعة التى سيتهاتف عليها الجميع.. من حيث تربيتها والإكثار منها.. بل وإنشاء حظائر كبرى لرعايتها.. بعد أن أعلنت الصين رغبتها فى شراء 10 آلاف حمار دفعة أولى.. الأمر الذى ستتبعه دفعات قادمة.. خاصة إذا ما عرفنا أن الصين تعتنى بجلود الحمير وتعتبرها مادة أساسية لصناعة الجلود لديها.. بل أجود الجلود! إذن صار للحمار المصرى شأن وسعر فى حياتنا الراهنة دون رمز أو تأويل.. فماذا عسانا فاعلون؟.. هل سنتبادل الاتهامات والتشويهات التى كثرت فى حياتنا من أصحاب الذمم البالية.. حيث الغش المستشرى فى ذبح الحمير وبيع لحومها فى الأسواق على اعتبار أنها لحم «عجَّالى» أو «بتلو» رغم أنه ممنوع بفتوى راسخة وقديمة من قِبل الأزهر الشريف.. هل سنغرق فى شبر ماء؟! أم أن الأمر سيتوجب أن تقوم وزارة الزراعة بتحفيز الفلاح على تربية الحمير.. بجانب إنشاء مزارع كبرى للتربية.. مع إقامة مصانع خاصة لتصدير جلود الحمير التى ترغب فيها الصين.. أما لحم الحمير فمن الممكن فتح أسواق جديدة.. وليكن فى إفريقيا كغذاء للحيوانات على سبيل المثال.. بعد.. نعم صار للحمار ثمن وشأن.. فى حياتنا الراهنة.. يُباع ويُشترى ويُصدَّر.. ويجلب معه عملة صعبة.. فهل سيصبح ذلك حافزًا حقيقيًا للاستثمار فى مجالى الزراعة والصناعة.. أم أننا سنرتدى ذاك الجلد القديم والشائع كما جاء على لسان «محمد مرسى» الرئيس المعزول عندما وصف نفسه بأن «جلده سميك» لا يتأثر بشىء من المتغيرات الضرورية والحيوية الحساسة.. فى كتابة واضحة عن وضعية الحمار القديم!!