تقارير إسرائيلية: نحو 100 صاروخ إيراني أصابت مواقع في تل أبيب وحيفا والقدس    65 شهيدًا في غزة بينهم 26 في مراكز المساعدات خلال 24 ساعة    الصواريخ الإيرانية تحرق محطة كهرباء حيفا (فيديو)    قوات الحرس الثورى الإيرانى تُسقط 3 طائرات إسرائيلية فى زنجان وسنندج    عادل عقل: تعادل بالميراس وبورتو يشعل مجموعة الأهلى.. وفوز كبير للبايرن بمونديال الأندية    بعد 4 هزائم متتالية.. أمريكا تستعيد الانتصارات بالفوز على ترينداد وتوباجو بالكأس الذهبية    مدرب بورتو: التعادل أمام بالميراس نتيجة عادلة.. وكنت واثقا من تألق كلاوديو راموس    وسائل إعلام إسرائيلية: عدة مواقع في تل أبيب تعرضت لدمار كبير    أحمد السقا يرد على تهنئة نجله بعيد الأب.. ماذا قال؟    ميدو يتوقع خروج الهلال مبكرا من كأس العالم للأندية    «بكاء واعتذار».. تقرير يكشف تفاصيل ما حدث في أزمة تريزيجيه داخل الأهلي    ارتفاع قتلى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى 16 قتيلا    الشروق تجيب.. لماذا يتصدر الأهلي مجموعته بعد الجولة الأولى في المونديال؟    خلال عودته من الديوان العام للاستراحة.. المحافظ يتجول بدراجة هوائية بشوارع قنا    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مجموعة الأهلي.. نتيجة مباراة بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 16 يونيو 2025    مراجعة اللغة الفرنسية الصف الثالث الثانوي 2025 الجزء الثاني «PDF»    انكسار حدة الموجة شديدة الحرارة.. الأرصاد تعلن مفاجأة بشأن طقس الساعات المقبلة    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    نجوى كرم تطلق ألبوم «حالة طوارئ» وسط تفاعل واسع وجمهور مترقب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    أحمد سعد يشعل حفل الجامعة الأمريكية، ويحيي الأوائل    وفاة تلميذ متأثرًا بإصابته بلدغة ثعبان في قنا    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    زيادة جديدة ب 400 للجنيه.. أسعار الذهب اليوم الإثنين بالصاغة وعيار 21 الآن بالمصنعية    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأثنين 16 يونيو 2025    صرف الخبز البلدي المدعم للمصطافين في عدد من المحافظات    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    إيران تبلغ الوسطاء رفضها التفاوض على وقف إطلاق النار مع إسرائيل    رصاص في قلب الليل.. أسرار مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    مصرع طفلتين في حريق بمنزل أسرتهما بالزقازيق    ضبط موظف تحرش براقصة أرجنتينية في العجوزة والأمن يفحص    شركة مياه الشرب بكفر الشيخ تُصلح كسرين في خط مياه الشرب    رجال الأعمال المصريين الأفارقة تطلق أكبر خريطة استثمارية شاملة لدعم التعاون الاقتصادي مع إفريقيا    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    وزير الثقافة يشيد ب"كارمن": معالجة جريئة ورؤية فنية راقية    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    يسرا: «فراق أمي قاطع فيّا لحد النهارده».. وزوجها يبكي صالح سليم (فيديو)    حدث بالفن | وفاة نجل صلاح الشرنوبي وموقف محرج ل باسكال مشعلاني والفنانين في مباراة الأهلي    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    غرفة الصناعات المعدنية: من الوارد خفض إمدادات الغاز لمصانع الحديد (فيديو)    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد 5

ملاحم الحمير ولحومها مُلخص ما نُشِر: توالت الذكريات التى تحوم حول الحمار بعد توافق الراوى وصديقه على اختياره حيوانا قوميا رمزيا للبلاد، ومن الذكريات توالدت معلومات واستنتاجات تؤكد أن الحمار كائن فحل ونبيل ولديه قدرات مميزة، لكن هذا كله بدا ضئيلا فى لحظة، أمام تراكمات الحاضر ثقيل التلوث، وفى مواجهة مستقبل غائم تسد أفقه السحب السوداء.
فيتردد الصديقان فى ربط الحمار باختيارهما النهائى!
كان الرجل العظمة، منذ عقود قليلة، تكفيه لمسة سيكوسوماتية من الأمثولة الحمارية ليرمح ويجمح ويفرح ! لكن يبدو أن هذه الأمثولة كلها لم تعد تكفى لنوال التركيز، مهما استحمر البشر، لأن الاستحمار لم يعد يكفى ولا يوفى، أمام كل هذا التشتيت الوطنى فى الحاضر، وشتات الركبان والأذهان فى المستقبل الغائم!
فهل نستبعد الحمار؟
سؤال وقف بنا، صاحبى وأنا، موقف الحيرة، حتى كدنا نقطع بعدم نجاعة حمارنا ماديا ومعنويا وسيكو سوماتيا فيما نحن فيه، وبالتالى عدم صلاحيته ليكون حيوانا قوميا رمزيا لأمتنا، لكن شعاعا من ضوء التاريخ أتانا من بعيد، يردُّنا إلى مفخرة أن جدودنا كانوا أول بشر يدجنون الحمار البنى الرمادى منذ ستة آلاف عام على ظهر الكوكب الأزرق، وفى أرض النوبة المصرية على وجه التحديد، أرض ألطف المصريين، الذين أغرقت بيوتهم وحقولهم ومراتع صباهم مياه البحيرة، ولم ينالوا مما تبقى على شطآنها ولو شبرا على سبيل التعويض والاعتذار والشكر والامتنان من كل المصريين. شكر كان واجبا لمن ضحوا ببيوتهم البسيطة الجميلة وحياتهم النقية الساحرة، التى باتت غابرة فى بضع سنين، وإن كان أدباء النوبة الرائعون لم يفلتوها، كما فى رواية «معتوق الخير» الملحمية المدهشة، للأديب الكبير بحق، حجاج أدول.
المياه غمرت أرض النوبيين المصريين لتشرب الأمة وترتوى وتروى من مشروع أثبتت السنين العجاف أنه كان رؤية ثاقبة أنصفتها عوادى الأيام، وبرغم كل آثاره البيئية الجانبية، كان ضروريا، ضرورة الجراحات الاضطرارية الكبرى فى جسم الطبيعة والبيئة، الجراحات المؤلمة والمحفوفة بالمخاطر، والمنقذة من مخاطر هددتنا، وسيزيد تهديدها أكثر كما يتبدى جليا مما يتفاقم عند ظهرنا، فى السودان، وفى بلدان حوض النيل، جنوبنا الذى أهمله مماليك هذا الزمان لانشغالهم بهبرات أرض الشمال وخطفات أرض الجنوب، وآخرها تلك التى حول بحيرة السد، والتى كان أولى بتعميرها أهل النوبة المغدورة!
فى الجنوب المصرى، منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد، تم تدجين الحمار الأفريقى البرى البنى الرمادى ذى الشريط الغامق حول كتفيه. وبعد ستة آلاف سنة صار أحفاد أحفاد هذا الحمار المصرى المُدجَّن يجوبون شوارع مدن الزبالة وذكرى أيام الحرية والبرارى الخوالى تطوق منابت أعناقهم. يَجُرُّون عربات الزبالين ذات الصناديق من خرق وكرتون وصفيح بين الأبراج السكنية الشاهقة. بينما تسرق عائد كدهم شركات الأسماء المتفرنجة الرنانة بعد أن دس المماليك الجدد أنوفهم فى أكوام بزنس الزبالة فصارت شوارعنا مقالب للزبالة وتحولوا هم إلى مليارديرتت! خط درامى ساخر مواز تماما لدراما أحفاد أحفاد مروضى ومدجنى جدود جدود هذه الحمير البنية الرمادية المُطوَّقة. أول الأحمرة المدجنة فى التاريخ!
«وأول أحمرة فى أعمق وأشهر أساطير التاريخ»، قال صاحبى، فبرقت فى ذاكرتى الأسطورة التى برقت فى ذهنه. أسطورة أساطير ذاك الزمان. أسطورة حرب مصرية مصرية استمرت 29 عاما، فكانت أطول معركة فى تاريخ البشر. أم المعارك بحق، وأم الملاحم.. ربما!
والحمد الله، الحمد لله الذى لا يُحمد على مكروه سواه، فتاريخنا هو فجر التاريخ البشرى، كما يؤكد معظم من بحثوا موضوع الحضارة من أهل الغرب، وهو ماتلقفناه نحن أسلاف المصريين القدماء، وهللنا وطبلنا وزمرنا لعراقة جذورنا، وتركنا فى حومة التطبيل والتزمير آثار هؤلاء الأسلاف ينهبها من يستخرجونها، بل ينهبون الكثير من هؤلاء الأسلاف أنفسهم، حاملين فى بطون المراكب المتجهة إلى الغرب مومياوات أسلافنا وقرابينهم، والكثير من إبداعاتهم وحليهم وتمائمهم، وربما يكون مانهبوه خيرا لنا ولأسلافنا، فقد حافظوا عليه فى متاحف باذخة أنيقة، وراحوا يستخرجون منه ما يدل على أننا أبناء أصل، بينما نحن كأننا لا أصول لنا، يسمى فلاحونا بقايا آثار القدماء فى تلال قراهم «مساخيط»، ومن يعوزه عمود من خشب أو حديد يصلب به سقف داره، يسارع ليدحرج عمودا فرعونيا أو مسلة ليرفع بها سقف هذه الدار، أما نبش مقابر الأسلاف لسرقة الآثار غير المُكتشفة، وأما اختلاس كثير من الآثار المكتشفة التى يهربها بعض من علية القوم، فهو حديث يصعب الخوض فيه.
نحن أبناء أصول، وأصولنا ترجع إلى فجر التاريخ، وفجر التاريخ هذا مسألة لا تقنعنى أبدا، فمما رأيت وقرأت وعاينت، صار عندى قناعة أن فجر التاريخ البشرى، الذى يوقفه على مصر القديمة علماء المصريات، الإيجبتولوجى، أو القفطولوجى، نسبة إلى قفط التى كانت حاضرة من حواضر هذه الحضارة.. فجر التاريخ هذا الذى زعموا أنه وُلِد عندنا، وصرنا نتباهى به كما تتباهى قرعة الحاضر بشعر ابنة أختها الفرعونية، فجر التاريخ هذا وإن لم يكن كاذبا، إلا أنه كان فجرا بين أكثر من فجر أشرق على الدنيا فى عديد من بقاع العالم بعد انتهاء العصر الحجرى، وبعد ذبول حقبة الإنسان الصياد وجامع الطعام البرى مع بزوغ عصر الزراعة، قبل 13 ألف سنة، كما تؤكد القياسات الزمنية بالأشعة الكربونية لآثار حضارات زراعية عديدة، فى الهلال الخصيب القريب، والصين، وأمريكا الوسطى، وشبه القارة الهندية، وحتى فى حضارة الشاونا على أرض زيمبابوى، التى يكابر ديكتاتورها موجابى بالقول عنها «إنها لى» أو «زيمبابوى بتاعتى»، وهو ليس عجبة بين الدكتاتوريين، وإن كان تميَّز بينهم بالتناحة والكلاحة والجرأة فى التعبير عما فى داخله، بينما يعبر الآخرون عما أفصح عنه، لا بالأقوال، بل بالأفعال والأنجال!.
حضارات متعددة أشرقت على ظهر كوكبنا كان لكل منها فجر يقارب فجر حضارتنا المصرية القديمة، أما العنصر الغائب عنها جميعا، وكان حاضرا عندنا بقوة تاريخية، فهو الحمار. نعم الحمار!
فى بحثنا، صاحبى وأنا، عن حيواننا القومى المُقترَح، فى أحشاء تاريخنا المصرى القديم، وجدنا الحمار حاضرا بجلاء، بل رأيناه يحلق فى سماء تلك الحضارة كما يدرج على أرضها. فعلى الأرض الطيبة وبين الناس العاديين، كان الحمار طيبا وعاديا، قوة بدائية غير ضارة، بل نافعة لهؤلاء الناس وهذه الأرض. أما فى الطبقات العُلى، فقد أُقحِم الحمار فى صراع لم يكن له فيه ذيل ولا حافر، وهو صراع الصراعات فى تاريخ الملوك الفراعين الآلهة، لأنه صراع أسطورة الملك الإله «ست»، وأخيه النقيض، الملك الإله، الأشهر، «أوزيريس».
فى البدء لم يكن الحمار غير أحد أفراد السيكيوريتى على أبواب ممتلكات السيد «ست»، الذى اتخذ من الحمير حراسا لمخازنه وخزائنه. وهى وجهة نظر لا تخلو من خباثة سِتاوية مبكرة، فماذا يفعل أفراد سيكيورتى هذه الأيام غير أنهم يمثلون رمزا معنويا لتعطيل زوار مؤسسات النخبة، ومنتجعات الأثرياء، لا شىء غير المنظر، بدليل أن قاتل فتاتى حى الندى فى مدينة الشيخ زايد، وهو نوع جديد من القتلة بالصدفة، الذين يذهبون ليسرقوا لأول مرة فى حياتهم المخنوقة، فيتورطون فى جنايات قتل، ويُعدَمون!
هذا القاتل بالصدفة، وبرغم وجود البوابات وأفراد الأمن فى «اليونيفورم»، إلى جوار الإنتركمات وكاميرات المراقبة، استطاع أن يتسلق السور ويهبط إلى حديقة الفيللا كيفما اتفق، وتسلل داخل الفيللا كيفما اتفق، وقتل البنتين اللتين شرشحتهما صحافة كيفما اتفق، كيفما اتفق، وحصل على موبايل أعطاه لصاحبه بدلا من الموبايل الذى كسره له كيفما اتفق، وغنم ربعمائة جنيه، ويقال مائتين وخمسين، دفع منها خمسين جنيها لسائق الميكروباص ليوصله إلى بيت أسرته فى روض الفرج آخر الليل كيفما اتفق، وقاد إليه الشرطة فيما بعد من خلال التليفون، الذى غنمه من غزوة حى الندى، وكيفما اتفق!
إذن كان الحمار فرد أمن فى فجر التاريخ، ومن المؤكد أنه كان لا يكلف السيكوباتى «ست» غير أكلُه، وأكل الحمار قليل كما يعرف خبراء استحمار الحمير، فالمسكين الذى اعتاد على العطاء كثيرا والأخذ أقل ما يكون، لو أكل كثيرا لايصاب بالتخمة، بل تلتهب حوافره! لهذا قنع فى خدمة ست مقابل حفنة تبن أو حشَّة برسيم وشربة من ماء النيل، مقابل أن يُشكِّل مع فرقة من أقرانه رمزا لسطوة وأبهة «ست».
لكن عندما وقعت الواقعة بين «ست» السفلى، وأوزيريس العلوى، صب العوام لعنتهم على رءوس الحمير، تماما كمن يترك الحمار ويتشطر على البردعة، واتخذ هؤلاء العوام من الحمير أضاحى للتعزيم ضد شرور ست، الذى قتل أخاه أوزيريس. وهى حالة إزاحة نفسية غريبة، ربما كان مبعثها ضيق العوام بشىء من إزعاج نهيق الحمير أو رفساتهم عندما كانوا يقتربون عفوا أو فضولا من أبواب ممتلكات «ست» التى تمددت، بل برطعت، من مصر العليا، وحتى السفلى، وإلى أسفل سافلين.
لكن فى بُعد فلسفى أعمق من غوغائية العوام، وفى بعض المشاهد على جدران المعابد الفرعونية، رسموا الحمار رمز الإله ست يحاور القط رمز الإله أوزيريس. وهى محاورة قال العارفون بها إنها دالة على تبادل الكلمة السرية فى تكامل أركان الحياة، بين ما هو أرضى سفلى يمثله ست، وعلوى سماوى يمثله أوزيريس. أى تكامل ثنائية النور والظلام، والبناء والتدمير، والوادى والصحراء.
الموضوع إذن كبير، والحمار ليس مجرد حمار مما نعرف أبدا، وهذا أمر لا يجوز المرور به مرور حمير السباخ الريفية، أو حمير الزبالة المدينية، بل يقتضى العودة إلى الأصول، أصول تاريخنا الأقدم.
ولنبدأ ب«ست»، فقد كان ست يُمثَّل بحمار منتصب الذيل، ربما كناية عن التأهب، أى تأهب؟! بعد ذلك تم تجسيده فى شكل إنسان له رأس حمار يعتليه التاج المزدوج، ويمسك بعنخ فى يده اليمنى، و«واس» فى يده اليسرى، وهما رمزان يمثلان الحياة والسعادة على التوالى.
كان ست فى المعتقد الفروعونى هو «الفائق السطوة»، «مدمر الضياء»، «قاتل أوزيريس»، «والمقطِّع إربا»، ممثل الظلمات، ومصر العليا بصحرائها الجدباء ذات الجبال القاحلة. إنه رب الصحارى، وعدو التوازن بين القطرين!
ابن حرام، جاء من نزوة بين «جب» و«نوت»، أى الأرض والسماء، برغم أن نوت كانت زوجة لأتوم رع، كبير عموم آلهة مصر القديمة، الذى يحمل على رأسه الصقرى قرص الشمس ويتجسد فى صورة بشر سوى سماوى، لكن السماوية نوت طق فى دماغها أن تتذوَّق طعم الأرض، فجاء ست ثمرة الوليمة الآثمة، خرج إلى الوجود عارم القوة، طويل جميل أحمر البشرة فاتح العينين حاقدا، وكان حقده على أخيه اوزيريس أعمى الغيرة، ومظلم القلب، فأوزيريس كان ابن الزواج الشرعى بين نوت وآتوم رع، لهذا حق له أن يرتقى حلالا بلالا عرش مملكة «الأمنت» المصرية القديمة. وكيف لابن حرام أن يُقدِّر لابن الحلال استحقاقه؟
لم ير «ست» إلا أنه الأخ الأجدر، ومن ثم هو أولى بعرش المملكة التى كانت عاصمتها «أمنت» فى دلتا مصر، فى محافظة الشرقية الحالية شمالى مدينة فاقوس بالقرب من بلدات فنتير وتل الضبعة، وهى ليست ضبعة الساحل الشمالى التى تصارع عليها ضباع هبر أراضى الدولة من ناحية، وتُجار المخاطر النووية من ناحية أخرى، وفاز الأخيرون، بينما كان أولى بالضبعة أن تطرد كل ضباع الاستثمار الأعمى والاستحمار النووى، وتحتضن فى رحابها مدينة شمسية تمنحنا طاقة آمنة ونظيفة، طاقة الشمس التى تقع الضبعة على رأس أغنى أحزمتها الشمسية على وجه البسيطة، والتى يحلم الأوربيون بأن تتباسط معهم دول شمال أفريقيا فتمنحهم شيئا من حق استغلال هذا الحقل باستثمارات تُقدَّر ب400 مليار يورو، لإنتاج طاقة تكفى أوروبا وتفيض بعد أن تغرب شمس النفط أو تتوهج لدرجة إحراق القلوب والجيوب.
كان أولى بالضبعة، التى ليست تلك القريبة من عاصمة مملكة الأمنت الداثرة، أن تكون مزرعة ومركز أبحاث للطاقة الشمسية، التى هى طاقة إنقاذ المستقبل، والتى يعمل على تطويرها أناس لديهم الشمس تسطع أقل مما لدينا بكثير، بكثير جدا، لكن يبدون أن «ست» المدمِّر، لم يمت بعد، ولا تزال ذراريه اللئيمة تبيع للنيام الكوابيس السوداء باعتبارهها أحلاما وردية!
بقوة المقت الرهيبة المتأججة بالنار السوداء كما نار الانفجارات والحرائق النووية فى نفس «مدمر الضياء»، راح «ست» يجتذب إليه شراذم الأوليجاركية الفرعونية من جماعات المنتفعين الذين أفقدهم أوزيريس الحقانى منافعهم وامتيازاتهم الفاجرة. وبفرقة الشر هذه راح ست يحاول الإطاحة بأوزيريس الملك. فما دخل الحمير بذلك كله؟
يبدو أن الحمير لم يرتح قلبها الطيب الكبير وعيونها الواسعة الجميلة لهذا الصراع المنذر بالشر، فراحت تتطلع للحظات التهدئة من خلف ظهر الشرير، وظهرت مشاهد للحمار المفترض أنه يمثل ست، وهو يتحاور مع القط ممثل أوزيريس، فماذا كان بينهما؟ يقول العارفون بألغاز الإيجبتولوجى أو القفطولوجى أو علم المصريات، إنهما كانا يتبادلان كلمة سر توازن الدنيا، وأسلوب تعايشها ما بين الضياء والظلمة، وهى الكلمة التى لو كان المتوفى أحسن الإنصات لها فى حياته، لصارت واسطة براءته من الآثام أمام محكمة أوزيريس بعد الموت!
إنها لمحة الطِيبة فى الحمار، الصبورالحمول، الساعى للخير، حتى مع جلاديه وقاهريه ومستغليه، وهو لم يكتف بحوار التسامح هذا، بل إنه عندما تلبسه ست، كان يدفع من يتلبسه ليعاون حورس، رمز الخير والعدل، لمساعدة البشر فى ارتقائهم الدرج الصاعد نحو السماء.
لكن هذا الصنيع لم يعجب البعض، فراحوا ينفخون أبواق الشر لتوقظ عويل المعارك. وقد كان، فبعد محاولة فاشلة لِسِت فى اغتيال أخيه، حرَّم عليه أوزيريس دخول قصره، لكن الفاجر ست لم يقبل بهذا التحريم، فثار ثورة كبرى جنَّد فيها لسانه الذرب وعباراته الغوغائية الحنجورية، فاستمال جزءا من السكان، وانشقت المملكة إلى قسمين، شرقى أبقى على وفائه لأوزيريس، وغربى، كما كل غرب، تقريبا لا يأتى منه ما يسر القلب! انساق وراء الشرير.
هجم غرب مصر على شرقها، وأشعل ست الحرائق فى كل مكان، ودمر القرى والمدن، وقتل من رفضوا مسايرته، وهرب من نجوا إلى الجبل يحتمون به، وينادون أوزيريس فى هلع : «أوزيرييييييييييس. أوزيرييييييييس»، واستجاب أوزيريس للوعة النداء، خرج عن صمته الذى لاذ به، وعن صبره الذى مد حباله كثيرا كثيرا لأخيه المتشيطن، وصاح صيحة الحرب التى لامفر منها، وتجابه الجيشان، تجابه الإخوان، تجابه شِقا الأمة الواحدة، فى حرب دامية استمرت تسعة وعشرين عاما، مقدار دورة كاملة من دورات كوكب زحل، ربما لهذا لا نزال نسمع عندما يشتر الشر من يهدد: «والله لاخليها زُحل». ومع انتهاء هذه الدورة الزُحلية، انتصر جيش أوزيريس على أتباع ست الذين لم يكونوا أبدا مؤمنين بعدالة قضيتهم، بل كانوا محض منافقين وطامعين فى المكاسب والمنافع بمعية الشرير.
ولُّوا الأدبار، وقبضت عليهم قوات ابن الحلال من أدبارهم، ووقع ابن الحرام زعيمهم فى الأسر. ومن جديد عاد معدن أوزيريس النفيس الطيب يتألق كما قرص الشمس فوق رأس أبيه، فلم يصغ لصيحات الحشود المُطالبة بإعدام ست، بل نحى خنجره جانبا متذكرا أن هذا فى النهاية هو ابن البطن التى أنجبته، وأطفأ عطش الحشود المتحرقة للشرب من دم ست، بنحر كثير من الثيران والكباش بديلا وأضحية. لكن الشرير لم يزايله شره: عاد ست يستحمر الحمير، وتَخَالس حتى قتل أوزيريس وقطَّعه إربا إربا وبعثر الإرب فى كل أرجاء الوادى وحوض النهر. لكن الزوجة الوفية إيزيس لم تستسلم لفقد زوجها، فراحت تجمع أشلاءه قطعة قطعة وتعيد تركيبها حتى اكتمل وعاد، وإن كانت كثير من المصادر التاريخية المؤدّبة سكتت عن أن هناك قطعة ظلت مفقودة من جسد أوزيريس، ويترتب على فقدها علامات استفهام كثيرة تخص الوليد حورس، لكننى سأكون مؤدبا أيضا، وأسكت!
سأسكت عن فجوة هذا التاريخ، لأعود إلى ماقبل التاريخ، وأمضى إلى سطح التاريخ، وأختبر مقولة فوكوياما عن «نهاية التاريخ»، هل يمكن تطبيقها على الحمير؟ وإذا ما أمكن تطبيقها، هل تظل الحمير صالحة لما رشحناه لها؟
(فاصل، وفى الجمعة القادمة، إن أحيانا المولى، نواصل)
جريدة الشروق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.