حماس: أنس الشريف أيقونة الحقيقة وشاهد المجاعة في غزة    حامد حمدان ينعى مراسل الجزيرة أنس الشريف    بقوة 6.1 درجة.. مقتل شخص وإصابة 29 آخرين في زلزال غرب تركيا    الرئيس الأوكراني: نحن نفهم نية روسيا في محاولة خداع أمريكا ولن نسمح بهذا    محافظ الفيوم يكرم أوائل الثانوية والأزهرية والدبلومات الفنية    مأساة ضحيتي الشاطبي .. رحلة مصيف تنتهي أسفل عجلات ميكروباص    محافظ سوهاج يبحث تطوير النظام المالي والتحول الرقمي بالمحافظة    محافظ سوهاج يتابع معدلات الإنجاز في ملف تقنين أراضي أملاك الدولة    وصية الصحفى الفلسطينى أنس الشريف: أوصيكم بفلسطين درة تاج المسلمين    المعارضة الإسرائيلية: نتنياهو فشل فى تحقيق أهداف الحرب لمدة 22 شهرًا    هاني رمزي: ريبيرو يقلق جماهير الأهلي    برشلونة يمطر شباك كومو في كأس خوان جامبر    ملف يلا كورة.. نهاية الجولة الأولى بالدوري.. وصول ألفينا.. واعتذار حسام حسن    منافس المصري المحتمل.. الاتحاد الليبي يتأهل إلى الكونفدرالية الأفريقية    خلال ساعات.. تقليل الاغتراب 2025 تنسيق المرحلة الأولى والثانية «الموعد والرابط وضوابط التحويل»    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 11 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    هتقعد معاكي لأطول مدة.. أفضل طريقة لحفظ الورقيات في الثلاجة    يحسن وظائف الكبد ويخفض الكوليسترول بالدم، فوائد عصير الدوم    ياسر ريان: مصطفى شوبير رتمه بطئ والدبيس أفضل من شكري    ماس كهربائي.. إخماد حريق محدود داخل كنيسة قرية أبوان بالمنيا    النفطي: معلول إضافة للصفاقسي والجزيري يمتلك شخصية مصطفى محمد    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل الصحفي أنس الشريف في غارة على غزة    الإسكندرية السينمائي يطلق استفتاء جماهيري لاختيار أفضل فيلم سياسي مصري    لارا ترامب تتفاعل مع محمد رمضان لتصبح أحد متابعيه على السوشيال ميديا    يوسف الحسيني: اجتماع الرئيس بقيادات الهئيات الإعلامية يفتح آفاقًا جديدة للإعلام    تكريم اسم الفنان لطفي لبيب والإعلامي عمرو الليثي بمهرجان إبداع للشباب- (25 صورة)    فرصة ذهبية لطلاب الإعدادية.. تخفيض الحد الأدنى للالتحاق بالثانوي بدمياط    تتطلب مهارات.. وزير العمل: حريصون على توفير فرص عمل للشباب في الخارج    برشلونة يكتسح كومو بخماسية ويتوج بكأس خوان جامبر    "تضامن سوهاج" تكرم 47 رائدة اجتماعية وتمنحهن شهادات تقدير    موظفو طيران في بروكسل يطالبون بعدم استئناف الرحلات لإسرائيل    «لا يجب التنكيل بالمخطئين».. المسلماني: الرئيس طلب الاستعانة بكل الكوادر الإعلامية    الداخلية تضبط طالبا يستعرض بدراجة بخارية    قرار هام بشأن البلوجر مونلي صديق سوزي الأردنية بتهمة نشر فديوهات خادشة    السيطرة على حريق داخل مخزن مواد غذائية فى الزيتون دون إصابات.. صور    إخلاء سبيل طالب طعن زميله في شبرا الخيمة    اتهامات لمحامي بالاعتداء الجنسي على 4 أطفال بالدقهلية    المسلماني: الرئيس لا يريد شعبًا مغيبًا وجاهلًا (فيديو)    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات الأخرى ببداية تعاملات الإثنين 11 أغسطس 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 11 أغسطس 2025    عيار 21 الآن في الصاغة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 11 أغسطس بعد الزيادة الأخيرة (تفاصيل)    4 أبراج «بيحققوا النجاح بسهولة»: يتمتعون بالإصرار والقوة ويتحملون المسؤولية    كشافين في القرى للبحث عن أم كلثوم والشعراوي.. المسلماني يكشف توجيهات الرئيس    اجتماع مديري الثقافة والتربية والتعليم لتعزيز الأنشطة الثقافية والتعليمية بين الطلاب    ويزو تحكي أسرار "مسرح مصر": «أشرف عبدالباقي كان بيأكلنا ويصرف علينا من جيبه»    94 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال تداولات جلسة بداية الأسبوع    خالد الغندور: التوأم يوصي فتوح بالالتزام للمشاركة مع الزمالك    فوائد اليانسون، يهدئ المعدة ويعالج نزلات البرد والإنفلونزا ويقوي المناعة    المنوفية تُطلق عيادات الدعم النفسي بخمس وحدات رعاية أساسية | صور    مدير الرعاية الصحية بالأقصر يتابع أعمال التطوير في المجمع الدولي ومستشفى الكرنك    أمين الفتوى: لا يجوز كتابة كل ما يملك الإنسان لبناته لأنه بذلك يعطل أحكام الميراث    أمين الفتوى يوضح: المال الموهوب من الأب في حياته لا يدخل في الميراث    حكم الدردشة مع صحابي بالموبايل في الحمام؟.. أمينة الفتوى تجيب    هل يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق في منزل الزوجية؟.. أمينة الفتوى تجيب    اتحاد عمال الجيزة يضع خطته للتأهيل والتدريب المهني    موعد إجازة المولد النبوى الشريف 2025 للقطاعين العام والخاص    الشوربجي يشكر الرئيس السيسي على زيادة بدل التدريب والتكنولوجيا للصحفيين    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد ( 2 )
نشر في الشروق الجديد يوم 24 - 10 - 2010

ملخص ما نُشر: يطوف الراوى مع صديقه فى عالَم الحيوانات بحثا عن حيوانٍ قومى رمزىٍّ للأمة، شأن سائر الأمم، ويتعجب أن يكون «نسر السهوب» هو الحيوان الرمز المعتمد دوليا لبلاده، بينما لا علاقة بيئية ولا تاريخية لهذا النسر بهذه البلاد، فيتجاوزانه ويفتشان عمن يصلح لشغل مكانه، وبعد أن يستعرضا طائفة واسعة من الكائنات، يوشكان على اليأس من العثور على حيوان تنطبق عليه شروط الملاءمة البيئية والتاريخية والسوسيو بوليتيكية للبلاد، وبينما هما فى عتمة الإحباط، يحدث أن ينبلج الأمل!!!!!!
غُلُب حمارك؟
سألت صاحبى وبدلا من أن يجيبنى سأل: وانت حمارك ماغلبش؟
فلم أرد عليه. وامتد بيننا صمت حانق لعجزنا عن الوصول إلى حيوان قومى جدير بتمثيلنا، وفى سماء هذا الصمت تعلّق حمارانا العقليان المغلوبان جامدين فى أفق خيالنا، وفجأة، وكأنما بالتخاطر، لمعت الفكرة فى رأسينا معا، من ناحيتى لمعت الفكرة عندما ومض حمارى المعلق فى سماء الصمت، ولابد أن حمار صاحبى لمع فى اللحظة ذاتها، لأننا على نفَس رجُلٍ واحد، وفى لحظة واحدة صحنا:
ال حُمااااااااااااااااااااار
فحمارنا المصرى مميز جدا وله وجود راسخ فى بيئتنا، من بحرى للصعيد، وهو ليس وقفا على استحماره فى القرى، بل هو يُستحمَر أيضا فى المدن، فيمكن ان تراه يجوب شوارع العاصمة، حتى الراقية منها، مثل المهندسين والزمالك ومعادى السرايات وروكسى والكوربة، يجر عربات الزبالة التى تنهض بالمهمة الحقيقية وإن كانت شركات النظافة ذات الأسماء الشيك تستحمرها وتستحمرنا، وتشاركها فى هذا الاستحمار فواتير المياه الحكومية التى أضافوا إليها رسوم نظافة ندفعها مكرهين، برغم أن الزبالين هم الذين يقومون واقعيا بأمر زبالتنا، وأسطول نقلهم فى هذه المهمة الوطنية الكبرى قوامه الحمار. وليس هذا هو ملمح الظهور الوحيد للحمار فى المدن المصرية ومنها العاصمة، فالحمار له دور مشهود وقضايا رنانة فى المحاكم تحوم حول النوايا العجيبة لتقديم بروتين رخيص من لحمه المكدود للأمة المكلومة، وساندوتشات كفتة وحواوشى تنافس ساندوتشات الفول والفلافل فى أسعارها التى كانت زهيدة، وفى تحبيشتها المشطشطة.
وهو لاعب معروف فى التاريخ المصرى الحديث، ففى الملمات العالمية الكُبرى كانت سلطات الاحتلال البريطانى تصادره مع سائر أفراد عشيرته من العائلة الخيلية، وتجنده، فِردة، ضمن الخدمات اللوجستية خلف خطوط القتال، لجنود الإمبراطورية التى لم تغب عنها أبدا شمس الافترا والغلاسة. حدث هذا فى الحرب العالمية الأولى، والثانية. وطبقا لقوانين الإزاحة والإسقاط النفسيين، والكيد الفولكلورى المصرى الحراق، واليقين فى صبر الحمار المصرى وجَلَده، أسس الفنان المسرحى الكبير زكى طليمات سنة 1930 «جمعية الحمير» فى تحدٍ جرىء وساخر للقصر الملكى وسلطات الاحتلال، لأن سلطات الاحتلال ضغطت على الملك فؤاد لإلغاء معهد المسرح الذى أنشأه زكى طليمات بهدف تأصيل مسرح مصرى لا يعتمد على ترجمة المسرحيات الأجنبية، بل ينهض على نصوص وطنية تعالج الواقع المصرى، وقد أزعج سلطات الاحتلال أن يكون هناك مسرح وطنى لإدراكهم ان المسرح بؤرة تنوير وتثوير للأمة، وهذا مما لا تريده أبدا أى سلطات احتلال أجنبى أو وطنى، كما لا يريده أى قصر ملكى، سواء ملكية دستورية، أو جمهورية ملوكية، وملوكية كلمة تشير إلى الملوخية على سبيل تعظيم هذه الأكله المصرية الأرارية بعد قدحها بالتوم المقلى وتحبيشها بالكسبرة، كما تشير إلى العز الذى لا يرتبط حتما بالعزة، وقد نهضت «جمعية الحمير» بمهمة حماية معهد المسرح، ورعاية مشروع ميلاد المسرح المصرى الوطنى، وانضم إليها مفكرون وكتاب كبار منهم الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم. وبعد نجاح جمعية الحمير فى حماية المسرح المصرى، استمر أعضاؤها فى العمل الخيرى، خاصة علاج المرضى غير القادرين، ووصلت الفنانة الكبيرة نادية لطفى إلى مرتبة «الحمار الأكبر» عندما رأست هذه الجمعية التى لا تزال وزارة الشئون الاجتماعية ترفض إشهارها، بزعم عدم لياقة اسمها والألقاب التى تمنحها الجمعية لأعضائها تبعا لمراتبهم فى خدمتها، وهذه الألقاب تبدأ من مرتبة «جحش»، ثم «حمار صغير»، ف«فحمار كبير»، ف«كبير الحمير» وهو لقب رؤساء الجمعيات الفرعية، وفى القمة يكون «الحمار الأكبر» أو الرئيس العام للجمعية، وقد حصل على هذا اللقب الأعلى، غير الجميلة الجريئة نادية لطفى، كل من: زكى طليمات، طبعا، والدكتور محمود محفوظ، وزير الصحة الأسبق، ولا أعرف إن كان للجمعية رئيس حمار أكبر الآن أم لا، لأننى لم أستطع التيقن مما آلت إليه الجمعية فى هذا الزمان الذى تكاثرت فيه الحمير المغشوشة وابتُذلت الحمرنة.
وينبغى أن نذكر لجمعية الحمير الأصلية أنه كانت لها هياكل تنظيمية دقيقة ذات تراتبية هيراركية منضبطة، وتتضمن ألقابا ثانوية داخل المراتب الأساسية، ويحصل عليها كل من يستحق اللقب بجهده وتفانيه لا بقربه من أذنى وفم الحمار الأكبر، هيراركية ليست كحلقة جماعات المنتفعين الفاسدين المستفيدين من فساد السلطة والمحيطين بها والمسبحين طبعا باسمها، بل هيراركية حميرية شفافة، فهناك: «حمار لجام»، يترقى بحسن عمله فيصير «حمار بردعة»، ويُحسن أكثر فيصير «حمار حدوة»!
إذن، الحمار موجود حتى فى حياتنا الثقافية، وهذا يطمئننى إلى وجود مكانة خاصة له فى مكتبتى، فهو بلاتيرو الذى من فضة وشعاع فى كتاب الشاعر الإسبانى الحائز على جائزة نوبل بجدارة عام 1956، خوان رامون خمينيث، «أنا وحمارى»، والذى أمتلك منه نسخا عديدة تذهب معى أو تكون فى انتظارى حيث أكون، ويضم 138 قصيدة يبث فيها الشاعر نجواه لحماره، ساردا عليه شجون وفتون قرية «مَاغير الأندلسية» التى ينتمى إليها كل من الشاعر والحمار، وفى نهاية الكتاب يقدم الشاعر لحماره العزيز الراحل مرثية شعرية من أعذب وأبدع وأعمق وأبسط ما يكون الشعر. والحمار هو ركوبة «سنشو بانثا» الإنسان البسيط تابع فارس طواحين الهواء «دون كيخوته» فى رواية الإسبانى العالمى سرفانتس، والذى أغراه فارس النوايا الطيبة والبصيرة الحمقاء الدون كيخوت بأن يتبعه فى فروسياته الوهمية مقابل أن يمنحه حكم جزيرة ينوى أن يحررها، فى خياله البائس طبعا! كما أن الحمار هو قلب أسطورة «ميداس» عابد الذهب فى الميثولوجيا الإغريقية الذى أنبت له طمعه وعشقه للشيطان الأصفر البراق أذنى حمار وحوّل زوجته وابنته وبساتينه كلها إلى ذهب بلا حياة، فعدم عابد الذهب المستحمر شربة الماء ومذاق الفاكهة ولطافة البنت وبوسة الزوجة. والحمار عند توفيق الحكيم هو الذى قال: «أيها الزمان متى تُنصف لأركب، فأنا جاهل بسيط، وصاحبى جاهل مُركَّب». كما أنه ركوبة السعدنى عمدة الساخرين فى كتابه «حمار من الشرق» الذى منعته بعض أحمرة الرقابات العربية فى أكثر من بلد منكوب بحمير البشر. وهو بطل قصة يوسف إدريس العبقرية «العتب على النظر»، التى يحيلنا بها من ضعف بصر الحمار إلى عمى بصيرة بنى الإنسان.
أما عزيز نيسين الكاتب التركى الساخر فقد فسر نهيق الحمار تفسيرا يدعو للتأمل والتساؤل: إن كنا وصلنا إلى مرحلة النهيق أم أننا على حافتها، فيحكى نيسين أن الحمار عندما كان حرا كانت له لغة بها مفردات وجمل ومعانى، وكان يرعى فى البرية فشم رائحة الذئب، لكنه حتى لا ينقطع عن الأكل ظل يكذب على نفسه «لا، هذا ليس ذئبا» وكان الذئب يقترب أكثر، وصاحبنا يكرر «لا، هذا ليس ذئبا»، وعندما وثب عليه الذئب ناهشا لحمه، أضاع الذعر لغة الحمار كلها، فلم يخرج من فمه الكبير ومن بين أسنانه الضخمة غيرالنهيق. نهيق. نهيق. نهيق. هل أسمع أصداء نهيق حمار الكاتب التركى الساخر؟ أم تراه إرهاص نهيقنا، بينما ذئاب كثيرة تقترب منا ونحن منكفئون على قشر الفول وتبن الحياة، نواصل خداع أنفسنا بأنفسنا وبمعيَّة خادعينا، وهل هناك أوضح من ذئب المخاطر النووية المتلفع بستار الحلم النووى للسائرين نياما والمحترقين فى القطارات البائسة والمسارح المقفولة بالبلاهة، والذى لن يكون إلا كابوسا تحت ناموسية عشوائيتنا وغوغائيتنا الكحلية، والذى يتحمس للمشاركة فى تمويله بنك فرنسى شهير لايخفى عشقه لمدام «أريفا»، إمبراطورة الصناعات النووية الفرنسية، الأم الأصلية لمفاعل ديمونة الصهيونى، والتى تسوِّق لعنة بضائعها بإغراء فحول العالم الثالث عشر المستفحلين على شعوبهم المُستعمَرة، استعمارا جديدا، أو المُستحمَرة، استحمارا قديما.. يتجدد!
وتظل إساءة الحمار لنفسه أهون كثيرا من إساءتنا لأنفسنا وأساءتنا له، فهو كائن عظيم لم نعرفه حسن المعرفة، أقول هذا لأنه أتيح لى مبكرا جدا جدا أن أتعرف على بعض من عظمته الممهورة وإن تكن منكورة، والتى أضاءت لى جانبا أساسيا من عظمة حيوية الحياة وإن كره المتنطعون، والمستعمون، والمدعون، والذين يخبئون عيونهم بأيديهم ويتلصصون على هذه العظمة خلال فُرج أصابعهم، أو يعربد داخلهم ما يصطنعون التعامى عنه بعد أن يكون تشوه فى لخبطات نفوسهم العسرة، وها هى الحكاية أحكيها برغم توقعى لتربصات النطاعة التى تكاثرت هذه الأيام والتى هى وجه التسلط الشعبى المناظر لاستبداد السلطة، والنطاعة من الفعل تنطَّع أى غالى فى الشىء وتكلَّف فيه، ومنها النطع الذى هو رقعة من الجلد كثيرا ما كان يُقتل عليها المحكوم بالإعدام، وهو قرين سيف السياف فى الممالك العربية ومقصلة قطع الرءوس فى هوجة الثورة الفرنسية.. الهمجية!.
كنت صبيا صغيرا فى أول سنوات المدرسة، فى السادسة، بل السادسة وبضعة أشهر، ولم أفهم تماما ما كان يقال عن وظيفة هذه الحفرة فى الوسعاية أمام بيتنا وورشة أبى والتى كانوا يسمونها «مَنزَل الفَرَس». لم تكن حفرة عميقة، بل مجرد وهدة من الأرض مستديرة، قطرها نحو مترين ونصف وعمقها أكثر قليلا من نصف المتر، والهبوط إليها ليس بحواف حادة بل بتدرج ناعم. تقع فى أقصى الجزء الشمالى من الأرض الخلاء أمام شارعنا والتى كانت معروفة فى المدينة بين أفراد ومُشجعى فرق الكرة الشراب فى الأحياء الشعبية باسم «ملعب المخزنجى»، وهى لم تكن ملك أبى ولم تكن ملعبا رسميا، بل مجرد أرض خلاء منبسطة بمساحة ملعب أوليمبى من التراب! وتتسع لأربع أو خمس مباريات كبرى للكرة الشراب تقام فى وقت واحد، ويشارك فيها نجوم الأحياء المجاورة وحتى البعيدة فى مباريات حامية وحاشدة الجماهير، على مراهنات لا تتعدى الخمسة جنيهات او تقف عند حدود أكلة ساندوتشات يحظى بها الفريق الفائز والحَكَم على حساب الخاسر، ويتراوح مستوى السندوتشات بين الفول والفلافل ويرتفع حتى يصل إلى ساندوتشات الكفتة من كبابجى المحمدى أو كبابجى الكسبانى الذى كان صاحبه جزارا وفتوة وبطل كمال أجسام عملاقا بقلب طفل.
اكتسبت الأرض الخلاء اسمها الشعبى من وجود ورشة أبى عند حدها الجنوبى كأوضح مَعْلم موجود فى المكان حينها، ولعل أبى اختار أن يبنى ورشته، وفوقها بيتنا فى هذا المكان، ليتسنى له استقبال عدد أكبر من السيارات يشتغل بتجديدها أسطوات الورشة والصبيان الذين كان يبلغ عددهم فى بعض الأحيان خمسة عشر نفرا، وكانت السيارات تصل إلى مثل هذا العدد أحيانا، وبعضها «ترلات نقل» عملاقة بمقطورات ضخمة كانت الواحدة منها تشغل مساحة خمس او ست سيارات من سيارات الركوب. كانت ورشة أبى وفوقها بيتنا فى هذا المكان بطرف المنصورة الجنوبى قرب المقابر، والتى كانت بدورها ملمحا يؤكد انفتاح وكوزموبوليتانية وتسامح المدينة الصغيرة التى كانت جميلة ويزيدها تسامحها جمالا، فهناك مقابر للروم الكاثوليك، وأخرى للأرثوذوكس، وثالثة لليهود، إضافة لمقابر المسلمين والأقباط. مصريون ويونان وإيطاليون وأرمن كانوا يأتون لهذا المكان ليرقدوا فى سلام رقدتهم الأخيرة، أو يأتى الأحياء منهم لتشييع الراحلين أو للزيارة.
كان اللعب يجرى بينما مواكب تشييع الموتى تشق طريقها نحو المقابر، وبعيدا عن أوقات التشييع وأخمسة الزيارة، ثمة حياة حراقة كانت تشب نيرانها فى أكناف المقابر المهجورة، بل فى ظلال أضرحة لأولياء مجهولين وأحواش مدافن باذخة قديمة يتم فتحها مقابل رشوات زهيدة لحراس المقابر. كان سكون الموت يجاور همسات وشهقات العشاق. وكنا نتسلى بترويع هؤلاء العشاق حتى نخرجهم من ذُرى نشواتهم مفزوعين، عندما ننطلق بإنشاد جماعى مفاجئ يقبض على العاشقين فى عز العناق: «سيب النعجه ياخاروف/ سيبها واطلع ع السطوح». ثم نجرى ضاحكين خائفين بينما يطاردنا العاشق الذى جُن جنونه وتحول إلى شيطان أحمر، أو بُنى محمر. هكذا كنا نراه!
وكان حضورى لزلزال مركزه «منزل الفرس» سببا لمغادرتى النهائية لجوقة العيال منشدى لحن الخروف والسطوح...
صباح شتوى بارد.. جمع غفير من رجال غرباء فى ملابس بلدية وأسطوات ورشتنا والصبيان وعيال الحتة، أحاطوا الحفرة بزحمة صاخبة، وفى الحفرة أنزلوا فرسا عالية جميلة فتية يمسك بخطمها شخص هبط معها إلى الحفرة، وعلى الحافة المرتفعة خارج الحفرة أوقفوا حمارا كبيرا متوترا يردف الفرس المتململة، وكان هناك شخص يحرك الحمار ليكون محوره مضبوطا على محور يمر بنقطة تنصيف كفل الفرس، والفرس كانت تزحزح نفسها بخفر متجاوبة مع دفعات يدى مشرف الحفرة، والذى كان يتجاوب مع توجيهات مهندس ضبط المحاور فى الأعالى ومع صيحات الخبراء بين المشاهدين: «يمين شوية. حبة شمال. لقدام لقدام. لأ ارجع تانى. كده تمام». تمام تمام تمام، وشب الحمار المتوهج معتليا الصهوة اللهفى شاهرا سلاحه العظيم، فصدرت عن جمهرة الحضور صيحة تعظيم «هاااااه». كان شيئا مهولا، هول خروج كل هذه الأداة العظيمة من الغمد المتواضع المضياف. وهوب هوب هوب، كانت الصيحات تتسارع تسارع إيقاع الاشتباك النارى، ثم حدث الانفجار العظيم مصحوبا بالتصفيق وتهليل الحضور. وكان الطوفان يفيض. وثمة بخار يتصاعد من جسم الحمار والفرس ويحيط بهما، فكأنهما فى هالة من حكاية مسحورة.
علت الوجوه ملامح نشوة ومرح. وكثرت الغمزات والكنايات التى لم أكن أفهمها لهذا نسيتها.
أما الذى لم أنسه أبدا، فكان رد فعل الفرس بعد هذه الزلزلة، وما كان من الحمار...
( فاصل، وفى الجمعة القادمة، أيضا، نواصل )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.