«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد ( 2 )
نشر في الشروق الجديد يوم 24 - 10 - 2010

ملخص ما نُشر: يطوف الراوى مع صديقه فى عالَم الحيوانات بحثا عن حيوانٍ قومى رمزىٍّ للأمة، شأن سائر الأمم، ويتعجب أن يكون «نسر السهوب» هو الحيوان الرمز المعتمد دوليا لبلاده، بينما لا علاقة بيئية ولا تاريخية لهذا النسر بهذه البلاد، فيتجاوزانه ويفتشان عمن يصلح لشغل مكانه، وبعد أن يستعرضا طائفة واسعة من الكائنات، يوشكان على اليأس من العثور على حيوان تنطبق عليه شروط الملاءمة البيئية والتاريخية والسوسيو بوليتيكية للبلاد، وبينما هما فى عتمة الإحباط، يحدث أن ينبلج الأمل!!!!!!
غُلُب حمارك؟
سألت صاحبى وبدلا من أن يجيبنى سأل: وانت حمارك ماغلبش؟
فلم أرد عليه. وامتد بيننا صمت حانق لعجزنا عن الوصول إلى حيوان قومى جدير بتمثيلنا، وفى سماء هذا الصمت تعلّق حمارانا العقليان المغلوبان جامدين فى أفق خيالنا، وفجأة، وكأنما بالتخاطر، لمعت الفكرة فى رأسينا معا، من ناحيتى لمعت الفكرة عندما ومض حمارى المعلق فى سماء الصمت، ولابد أن حمار صاحبى لمع فى اللحظة ذاتها، لأننا على نفَس رجُلٍ واحد، وفى لحظة واحدة صحنا:
ال حُمااااااااااااااااااااار
فحمارنا المصرى مميز جدا وله وجود راسخ فى بيئتنا، من بحرى للصعيد، وهو ليس وقفا على استحماره فى القرى، بل هو يُستحمَر أيضا فى المدن، فيمكن ان تراه يجوب شوارع العاصمة، حتى الراقية منها، مثل المهندسين والزمالك ومعادى السرايات وروكسى والكوربة، يجر عربات الزبالة التى تنهض بالمهمة الحقيقية وإن كانت شركات النظافة ذات الأسماء الشيك تستحمرها وتستحمرنا، وتشاركها فى هذا الاستحمار فواتير المياه الحكومية التى أضافوا إليها رسوم نظافة ندفعها مكرهين، برغم أن الزبالين هم الذين يقومون واقعيا بأمر زبالتنا، وأسطول نقلهم فى هذه المهمة الوطنية الكبرى قوامه الحمار. وليس هذا هو ملمح الظهور الوحيد للحمار فى المدن المصرية ومنها العاصمة، فالحمار له دور مشهود وقضايا رنانة فى المحاكم تحوم حول النوايا العجيبة لتقديم بروتين رخيص من لحمه المكدود للأمة المكلومة، وساندوتشات كفتة وحواوشى تنافس ساندوتشات الفول والفلافل فى أسعارها التى كانت زهيدة، وفى تحبيشتها المشطشطة.
وهو لاعب معروف فى التاريخ المصرى الحديث، ففى الملمات العالمية الكُبرى كانت سلطات الاحتلال البريطانى تصادره مع سائر أفراد عشيرته من العائلة الخيلية، وتجنده، فِردة، ضمن الخدمات اللوجستية خلف خطوط القتال، لجنود الإمبراطورية التى لم تغب عنها أبدا شمس الافترا والغلاسة. حدث هذا فى الحرب العالمية الأولى، والثانية. وطبقا لقوانين الإزاحة والإسقاط النفسيين، والكيد الفولكلورى المصرى الحراق، واليقين فى صبر الحمار المصرى وجَلَده، أسس الفنان المسرحى الكبير زكى طليمات سنة 1930 «جمعية الحمير» فى تحدٍ جرىء وساخر للقصر الملكى وسلطات الاحتلال، لأن سلطات الاحتلال ضغطت على الملك فؤاد لإلغاء معهد المسرح الذى أنشأه زكى طليمات بهدف تأصيل مسرح مصرى لا يعتمد على ترجمة المسرحيات الأجنبية، بل ينهض على نصوص وطنية تعالج الواقع المصرى، وقد أزعج سلطات الاحتلال أن يكون هناك مسرح وطنى لإدراكهم ان المسرح بؤرة تنوير وتثوير للأمة، وهذا مما لا تريده أبدا أى سلطات احتلال أجنبى أو وطنى، كما لا يريده أى قصر ملكى، سواء ملكية دستورية، أو جمهورية ملوكية، وملوكية كلمة تشير إلى الملوخية على سبيل تعظيم هذه الأكله المصرية الأرارية بعد قدحها بالتوم المقلى وتحبيشها بالكسبرة، كما تشير إلى العز الذى لا يرتبط حتما بالعزة، وقد نهضت «جمعية الحمير» بمهمة حماية معهد المسرح، ورعاية مشروع ميلاد المسرح المصرى الوطنى، وانضم إليها مفكرون وكتاب كبار منهم الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم. وبعد نجاح جمعية الحمير فى حماية المسرح المصرى، استمر أعضاؤها فى العمل الخيرى، خاصة علاج المرضى غير القادرين، ووصلت الفنانة الكبيرة نادية لطفى إلى مرتبة «الحمار الأكبر» عندما رأست هذه الجمعية التى لا تزال وزارة الشئون الاجتماعية ترفض إشهارها، بزعم عدم لياقة اسمها والألقاب التى تمنحها الجمعية لأعضائها تبعا لمراتبهم فى خدمتها، وهذه الألقاب تبدأ من مرتبة «جحش»، ثم «حمار صغير»، ف«فحمار كبير»، ف«كبير الحمير» وهو لقب رؤساء الجمعيات الفرعية، وفى القمة يكون «الحمار الأكبر» أو الرئيس العام للجمعية، وقد حصل على هذا اللقب الأعلى، غير الجميلة الجريئة نادية لطفى، كل من: زكى طليمات، طبعا، والدكتور محمود محفوظ، وزير الصحة الأسبق، ولا أعرف إن كان للجمعية رئيس حمار أكبر الآن أم لا، لأننى لم أستطع التيقن مما آلت إليه الجمعية فى هذا الزمان الذى تكاثرت فيه الحمير المغشوشة وابتُذلت الحمرنة.
وينبغى أن نذكر لجمعية الحمير الأصلية أنه كانت لها هياكل تنظيمية دقيقة ذات تراتبية هيراركية منضبطة، وتتضمن ألقابا ثانوية داخل المراتب الأساسية، ويحصل عليها كل من يستحق اللقب بجهده وتفانيه لا بقربه من أذنى وفم الحمار الأكبر، هيراركية ليست كحلقة جماعات المنتفعين الفاسدين المستفيدين من فساد السلطة والمحيطين بها والمسبحين طبعا باسمها، بل هيراركية حميرية شفافة، فهناك: «حمار لجام»، يترقى بحسن عمله فيصير «حمار بردعة»، ويُحسن أكثر فيصير «حمار حدوة»!
إذن، الحمار موجود حتى فى حياتنا الثقافية، وهذا يطمئننى إلى وجود مكانة خاصة له فى مكتبتى، فهو بلاتيرو الذى من فضة وشعاع فى كتاب الشاعر الإسبانى الحائز على جائزة نوبل بجدارة عام 1956، خوان رامون خمينيث، «أنا وحمارى»، والذى أمتلك منه نسخا عديدة تذهب معى أو تكون فى انتظارى حيث أكون، ويضم 138 قصيدة يبث فيها الشاعر نجواه لحماره، ساردا عليه شجون وفتون قرية «مَاغير الأندلسية» التى ينتمى إليها كل من الشاعر والحمار، وفى نهاية الكتاب يقدم الشاعر لحماره العزيز الراحل مرثية شعرية من أعذب وأبدع وأعمق وأبسط ما يكون الشعر. والحمار هو ركوبة «سنشو بانثا» الإنسان البسيط تابع فارس طواحين الهواء «دون كيخوته» فى رواية الإسبانى العالمى سرفانتس، والذى أغراه فارس النوايا الطيبة والبصيرة الحمقاء الدون كيخوت بأن يتبعه فى فروسياته الوهمية مقابل أن يمنحه حكم جزيرة ينوى أن يحررها، فى خياله البائس طبعا! كما أن الحمار هو قلب أسطورة «ميداس» عابد الذهب فى الميثولوجيا الإغريقية الذى أنبت له طمعه وعشقه للشيطان الأصفر البراق أذنى حمار وحوّل زوجته وابنته وبساتينه كلها إلى ذهب بلا حياة، فعدم عابد الذهب المستحمر شربة الماء ومذاق الفاكهة ولطافة البنت وبوسة الزوجة. والحمار عند توفيق الحكيم هو الذى قال: «أيها الزمان متى تُنصف لأركب، فأنا جاهل بسيط، وصاحبى جاهل مُركَّب». كما أنه ركوبة السعدنى عمدة الساخرين فى كتابه «حمار من الشرق» الذى منعته بعض أحمرة الرقابات العربية فى أكثر من بلد منكوب بحمير البشر. وهو بطل قصة يوسف إدريس العبقرية «العتب على النظر»، التى يحيلنا بها من ضعف بصر الحمار إلى عمى بصيرة بنى الإنسان.
أما عزيز نيسين الكاتب التركى الساخر فقد فسر نهيق الحمار تفسيرا يدعو للتأمل والتساؤل: إن كنا وصلنا إلى مرحلة النهيق أم أننا على حافتها، فيحكى نيسين أن الحمار عندما كان حرا كانت له لغة بها مفردات وجمل ومعانى، وكان يرعى فى البرية فشم رائحة الذئب، لكنه حتى لا ينقطع عن الأكل ظل يكذب على نفسه «لا، هذا ليس ذئبا» وكان الذئب يقترب أكثر، وصاحبنا يكرر «لا، هذا ليس ذئبا»، وعندما وثب عليه الذئب ناهشا لحمه، أضاع الذعر لغة الحمار كلها، فلم يخرج من فمه الكبير ومن بين أسنانه الضخمة غيرالنهيق. نهيق. نهيق. نهيق. هل أسمع أصداء نهيق حمار الكاتب التركى الساخر؟ أم تراه إرهاص نهيقنا، بينما ذئاب كثيرة تقترب منا ونحن منكفئون على قشر الفول وتبن الحياة، نواصل خداع أنفسنا بأنفسنا وبمعيَّة خادعينا، وهل هناك أوضح من ذئب المخاطر النووية المتلفع بستار الحلم النووى للسائرين نياما والمحترقين فى القطارات البائسة والمسارح المقفولة بالبلاهة، والذى لن يكون إلا كابوسا تحت ناموسية عشوائيتنا وغوغائيتنا الكحلية، والذى يتحمس للمشاركة فى تمويله بنك فرنسى شهير لايخفى عشقه لمدام «أريفا»، إمبراطورة الصناعات النووية الفرنسية، الأم الأصلية لمفاعل ديمونة الصهيونى، والتى تسوِّق لعنة بضائعها بإغراء فحول العالم الثالث عشر المستفحلين على شعوبهم المُستعمَرة، استعمارا جديدا، أو المُستحمَرة، استحمارا قديما.. يتجدد!
وتظل إساءة الحمار لنفسه أهون كثيرا من إساءتنا لأنفسنا وأساءتنا له، فهو كائن عظيم لم نعرفه حسن المعرفة، أقول هذا لأنه أتيح لى مبكرا جدا جدا أن أتعرف على بعض من عظمته الممهورة وإن تكن منكورة، والتى أضاءت لى جانبا أساسيا من عظمة حيوية الحياة وإن كره المتنطعون، والمستعمون، والمدعون، والذين يخبئون عيونهم بأيديهم ويتلصصون على هذه العظمة خلال فُرج أصابعهم، أو يعربد داخلهم ما يصطنعون التعامى عنه بعد أن يكون تشوه فى لخبطات نفوسهم العسرة، وها هى الحكاية أحكيها برغم توقعى لتربصات النطاعة التى تكاثرت هذه الأيام والتى هى وجه التسلط الشعبى المناظر لاستبداد السلطة، والنطاعة من الفعل تنطَّع أى غالى فى الشىء وتكلَّف فيه، ومنها النطع الذى هو رقعة من الجلد كثيرا ما كان يُقتل عليها المحكوم بالإعدام، وهو قرين سيف السياف فى الممالك العربية ومقصلة قطع الرءوس فى هوجة الثورة الفرنسية.. الهمجية!.
كنت صبيا صغيرا فى أول سنوات المدرسة، فى السادسة، بل السادسة وبضعة أشهر، ولم أفهم تماما ما كان يقال عن وظيفة هذه الحفرة فى الوسعاية أمام بيتنا وورشة أبى والتى كانوا يسمونها «مَنزَل الفَرَس». لم تكن حفرة عميقة، بل مجرد وهدة من الأرض مستديرة، قطرها نحو مترين ونصف وعمقها أكثر قليلا من نصف المتر، والهبوط إليها ليس بحواف حادة بل بتدرج ناعم. تقع فى أقصى الجزء الشمالى من الأرض الخلاء أمام شارعنا والتى كانت معروفة فى المدينة بين أفراد ومُشجعى فرق الكرة الشراب فى الأحياء الشعبية باسم «ملعب المخزنجى»، وهى لم تكن ملك أبى ولم تكن ملعبا رسميا، بل مجرد أرض خلاء منبسطة بمساحة ملعب أوليمبى من التراب! وتتسع لأربع أو خمس مباريات كبرى للكرة الشراب تقام فى وقت واحد، ويشارك فيها نجوم الأحياء المجاورة وحتى البعيدة فى مباريات حامية وحاشدة الجماهير، على مراهنات لا تتعدى الخمسة جنيهات او تقف عند حدود أكلة ساندوتشات يحظى بها الفريق الفائز والحَكَم على حساب الخاسر، ويتراوح مستوى السندوتشات بين الفول والفلافل ويرتفع حتى يصل إلى ساندوتشات الكفتة من كبابجى المحمدى أو كبابجى الكسبانى الذى كان صاحبه جزارا وفتوة وبطل كمال أجسام عملاقا بقلب طفل.
اكتسبت الأرض الخلاء اسمها الشعبى من وجود ورشة أبى عند حدها الجنوبى كأوضح مَعْلم موجود فى المكان حينها، ولعل أبى اختار أن يبنى ورشته، وفوقها بيتنا فى هذا المكان، ليتسنى له استقبال عدد أكبر من السيارات يشتغل بتجديدها أسطوات الورشة والصبيان الذين كان يبلغ عددهم فى بعض الأحيان خمسة عشر نفرا، وكانت السيارات تصل إلى مثل هذا العدد أحيانا، وبعضها «ترلات نقل» عملاقة بمقطورات ضخمة كانت الواحدة منها تشغل مساحة خمس او ست سيارات من سيارات الركوب. كانت ورشة أبى وفوقها بيتنا فى هذا المكان بطرف المنصورة الجنوبى قرب المقابر، والتى كانت بدورها ملمحا يؤكد انفتاح وكوزموبوليتانية وتسامح المدينة الصغيرة التى كانت جميلة ويزيدها تسامحها جمالا، فهناك مقابر للروم الكاثوليك، وأخرى للأرثوذوكس، وثالثة لليهود، إضافة لمقابر المسلمين والأقباط. مصريون ويونان وإيطاليون وأرمن كانوا يأتون لهذا المكان ليرقدوا فى سلام رقدتهم الأخيرة، أو يأتى الأحياء منهم لتشييع الراحلين أو للزيارة.
كان اللعب يجرى بينما مواكب تشييع الموتى تشق طريقها نحو المقابر، وبعيدا عن أوقات التشييع وأخمسة الزيارة، ثمة حياة حراقة كانت تشب نيرانها فى أكناف المقابر المهجورة، بل فى ظلال أضرحة لأولياء مجهولين وأحواش مدافن باذخة قديمة يتم فتحها مقابل رشوات زهيدة لحراس المقابر. كان سكون الموت يجاور همسات وشهقات العشاق. وكنا نتسلى بترويع هؤلاء العشاق حتى نخرجهم من ذُرى نشواتهم مفزوعين، عندما ننطلق بإنشاد جماعى مفاجئ يقبض على العاشقين فى عز العناق: «سيب النعجه ياخاروف/ سيبها واطلع ع السطوح». ثم نجرى ضاحكين خائفين بينما يطاردنا العاشق الذى جُن جنونه وتحول إلى شيطان أحمر، أو بُنى محمر. هكذا كنا نراه!
وكان حضورى لزلزال مركزه «منزل الفرس» سببا لمغادرتى النهائية لجوقة العيال منشدى لحن الخروف والسطوح...
صباح شتوى بارد.. جمع غفير من رجال غرباء فى ملابس بلدية وأسطوات ورشتنا والصبيان وعيال الحتة، أحاطوا الحفرة بزحمة صاخبة، وفى الحفرة أنزلوا فرسا عالية جميلة فتية يمسك بخطمها شخص هبط معها إلى الحفرة، وعلى الحافة المرتفعة خارج الحفرة أوقفوا حمارا كبيرا متوترا يردف الفرس المتململة، وكان هناك شخص يحرك الحمار ليكون محوره مضبوطا على محور يمر بنقطة تنصيف كفل الفرس، والفرس كانت تزحزح نفسها بخفر متجاوبة مع دفعات يدى مشرف الحفرة، والذى كان يتجاوب مع توجيهات مهندس ضبط المحاور فى الأعالى ومع صيحات الخبراء بين المشاهدين: «يمين شوية. حبة شمال. لقدام لقدام. لأ ارجع تانى. كده تمام». تمام تمام تمام، وشب الحمار المتوهج معتليا الصهوة اللهفى شاهرا سلاحه العظيم، فصدرت عن جمهرة الحضور صيحة تعظيم «هاااااه». كان شيئا مهولا، هول خروج كل هذه الأداة العظيمة من الغمد المتواضع المضياف. وهوب هوب هوب، كانت الصيحات تتسارع تسارع إيقاع الاشتباك النارى، ثم حدث الانفجار العظيم مصحوبا بالتصفيق وتهليل الحضور. وكان الطوفان يفيض. وثمة بخار يتصاعد من جسم الحمار والفرس ويحيط بهما، فكأنهما فى هالة من حكاية مسحورة.
علت الوجوه ملامح نشوة ومرح. وكثرت الغمزات والكنايات التى لم أكن أفهمها لهذا نسيتها.
أما الذى لم أنسه أبدا، فكان رد فعل الفرس بعد هذه الزلزلة، وما كان من الحمار...
( فاصل، وفى الجمعة القادمة، أيضا، نواصل )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.