«التضامن» تقر إضفاء صفة النفع العام على جمعيتين بمحافظتي الشرقية والإسكندرية    قفزة في سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه في بداية اليوم    عيد ميلاد السيسي ال 71، لحظات فارقة في تاريخ مصر (فيديو)    النزاهة أولًا.. الرئيس يرسخ الثقة فى البرلمان الجديد    سعر الذهب في مصر اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025.. استقرار في مستهل التداولات بعد هبوط ملحوظ    السيسي وقرينته يستقبلان رئيس كوريا الجنوبية وحرمه    أسعار الخضروات اليوم الخميس 20 نوفمبر في سوق العبور    لمدة 5 ساعات.. فصل التيار الكهربائي عن 17 قرية وتوابعها بكفر الشيخ اليوم    البنك المركزي يعقد اجتماعه اليوم لبحث سعر الفائدة على الإيداع والإقراض    ترامب يعلن عن لقاء مع زهران ممداني الجمعة في البيت الأبيض    مواجهات قوية في دوري المحترفين المصري اليوم الخميس    شبورة كثيفة تضرب الطرق والزراعية والسريعة.. والأرصاد تحذر من انخفاض مستوى الرؤية    شبورة كثيفة تؤثر على بعض الطرق.. والأرصاد تحذر السائقين من انخفاض الرؤية    موظفة تتهم زميلتها باختطافها فى الجيزة والتحريات تفجر مفاجأة    الاستعلام عن الحالة الصحية لعامل سقط من علو بموقع تحت الإنشاء بالتجمع    شبورة كثيفة وانعدام الرؤية أمام حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    حلقة نقاشية حول "سرد قصص الغارمات" على الشاشة في أيام القاهرة لصناعة السينما    هولندا: ندعم محاسبة مرتكبى الانتهاكات في السودان وإدراجهم بلائحة العقوبات    وزير الصحة يناقش مستجدات العمل بجميع القطاعات خلال الاجتماع الدوري للقيادات    الصحة بقنا تشدد الرقابة.. جولة ليلية تُفاجئ وحدة مدينة العمال    الفراخ البيضاء اليوم "ببلاش".. خزّن واملى الفريزر    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    شوقي حامد يكتب: الزمالك يعاني    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    أضرار التدخين على الأطفال وتأثيره الخطير على صحتهم ونموهم    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    فلسطين.. قصف مدفعي وإطلاق نار من قوات الاحتلال يستهدف جنوب خان يونس    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    المطربة بوسي أمام المحكمة 3 ديسمبر في قضية الشيكات    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد 5
نشر في الشروق الجديد يوم 12 - 11 - 2010


ملاحم الحمير ولحومها
مُلخص ما نُشِر: توالت الذكريات التى تحوم حول الحمار بعد توافق الراوى وصديقه على اختياره حيوانا قوميا رمزيا للبلاد، ومن الذكريات توالدت معلومات واستنتاجات تؤكد أن الحمار كائن فحل ونبيل ولديه قدرات مميزة، لكن هذا كله بدا ضئيلا فى لحظة، أمام تراكمات الحاضر ثقيل التلوث، وفى مواجهة مستقبل غائم تسد أفقه السحب السوداء.
فيتردد الصديقان فى ربط الحمار باختيارهما النهائى!
كان الرجل العظمة، منذ عقود قليلة، تكفيه لمسة سيكوسوماتية من الأمثولة الحمارية ليرمح ويجمح ويفرح ! لكن يبدو أن هذه الأمثولة كلها لم تعد تكفى لنوال التركيز، مهما استحمر البشر، لأن الاستحمار لم يعد يكفى ولا يوفى، أمام كل هذا التشتيت الوطنى فى الحاضر، وشتات الركبان والأذهان فى المستقبل الغائم!
فهل نستبعد الحمار؟
سؤال وقف بنا، صاحبى وأنا، موقف الحيرة، حتى كدنا نقطع بعدم نجاعة حمارنا ماديا ومعنويا وسيكو سوماتيا فيما نحن فيه، وبالتالى عدم صلاحيته ليكون حيوانا قوميا رمزيا لأمتنا، لكن شعاعا من ضوء التاريخ أتانا من بعيد، يردُّنا إلى مفخرة أن جدودنا كانوا أول بشر يدجنون الحمار البنى الرمادى منذ ستة آلاف عام على ظهر الكوكب الأزرق، وفى أرض النوبة المصرية على وجه التحديد، أرض ألطف المصريين، الذين أغرقت بيوتهم وحقولهم ومراتع صباهم مياه البحيرة، ولم ينالوا مما تبقى على شطآنها ولو شبرا على سبيل التعويض والاعتذار والشكر والامتنان من كل المصريين. شكر كان واجبا لمن ضحوا ببيوتهم البسيطة الجميلة وحياتهم النقية الساحرة، التى باتت غابرة فى بضع سنين، وإن كان أدباء النوبة الرائعون لم يفلتوها، كما فى رواية «معتوق الخير» الملحمية المدهشة، للأديب الكبير بحق، حجاج أدول.
المياه غمرت أرض النوبيين المصريين لتشرب الأمة وترتوى وتروى من مشروع أثبتت السنين العجاف أنه كان رؤية ثاقبة أنصفتها عوادى الأيام، وبرغم كل آثاره البيئية الجانبية، كان ضروريا، ضرورة الجراحات الاضطرارية الكبرى فى جسم الطبيعة والبيئة، الجراحات المؤلمة والمحفوفة بالمخاطر، والمنقذة من مخاطر هددتنا، وسيزيد تهديدها أكثر كما يتبدى جليا مما يتفاقم عند ظهرنا، فى السودان، وفى بلدان حوض النيل، جنوبنا الذى أهمله مماليك هذا الزمان لانشغالهم بهبرات أرض الشمال وخطفات أرض الجنوب، وآخرها تلك التى حول بحيرة السد، والتى كان أولى بتعميرها أهل النوبة المغدورة!
فى الجنوب المصرى، منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد، تم تدجين الحمار الأفريقى البرى البنى الرمادى ذى الشريط الغامق حول كتفيه. وبعد ستة آلاف سنة صار أحفاد أحفاد هذا الحمار المصرى المُدجَّن يجوبون شوارع مدن الزبالة وذكرى أيام الحرية والبرارى الخوالى تطوق منابت أعناقهم. يَجُرُّون عربات الزبالين ذات الصناديق من خرق وكرتون وصفيح بين الأبراج السكنية الشاهقة. بينما تسرق عائد كدهم شركات الأسماء المتفرنجة الرنانة بعد أن دس المماليك الجدد أنوفهم فى أكوام بزنس الزبالة فصارت شوارعنا مقالب للزبالة وتحولوا هم إلى مليارديرتت! خط درامى ساخر مواز تماما لدراما أحفاد أحفاد مروضى ومدجنى جدود جدود هذه الحمير البنية الرمادية المُطوَّقة. أول الأحمرة المدجنة فى التاريخ!
«وأول أحمرة فى أعمق وأشهر أساطير التاريخ»، قال صاحبى، فبرقت فى ذاكرتى الأسطورة التى برقت فى ذهنه. أسطورة أساطير ذاك الزمان. أسطورة حرب مصرية مصرية استمرت 29 عاما، فكانت أطول معركة فى تاريخ البشر. أم المعارك بحق، وأم الملاحم.. ربما!
والحمد الله، الحمد لله الذى لا يُحمد على مكروه سواه، فتاريخنا هو فجر التاريخ البشرى، كما يؤكد معظم من بحثوا موضوع الحضارة من أهل الغرب، وهو ماتلقفناه نحن أسلاف المصريين القدماء، وهللنا وطبلنا وزمرنا لعراقة جذورنا، وتركنا فى حومة التطبيل والتزمير آثار هؤلاء الأسلاف ينهبها من يستخرجونها، بل ينهبون الكثير من هؤلاء الأسلاف أنفسهم، حاملين فى بطون المراكب المتجهة إلى الغرب مومياوات أسلافنا وقرابينهم، والكثير من إبداعاتهم وحليهم وتمائمهم، وربما يكون مانهبوه خيرا لنا ولأسلافنا، فقد حافظوا عليه فى متاحف باذخة أنيقة، وراحوا يستخرجون منه ما يدل على أننا أبناء أصل، بينما نحن كأننا لا أصول لنا، يسمى فلاحونا بقايا آثار القدماء فى تلال قراهم «مساخيط»، ومن يعوزه عمود من خشب أو حديد يصلب به سقف داره، يسارع ليدحرج عمودا فرعونيا أو مسلة ليرفع بها سقف هذه الدار، أما نبش مقابر الأسلاف لسرقة الآثار غير المُكتشفة، وأما اختلاس كثير من الآثار المكتشفة التى يهربها بعض من علية القوم، فهو حديث يصعب الخوض فيه.
نحن أبناء أصول، وأصولنا ترجع إلى فجر التاريخ، وفجر التاريخ هذا مسألة لا تقنعنى أبدا، فمما رأيت وقرأت وعاينت، صار عندى قناعة أن فجر التاريخ البشرى، الذى يوقفه على مصر القديمة علماء المصريات، الإيجبتولوجى، أو القفطولوجى، نسبة إلى قفط التى كانت حاضرة من حواضر هذه الحضارة.. فجر التاريخ هذا الذى زعموا أنه وُلِد عندنا، وصرنا نتباهى به كما تتباهى قرعة الحاضر بشعر ابنة أختها الفرعونية، فجر التاريخ هذا وإن لم يكن كاذبا، إلا أنه كان فجرا بين أكثر من فجر أشرق على الدنيا فى عديد من بقاع العالم بعد انتهاء العصر الحجرى، وبعد ذبول حقبة الإنسان الصياد وجامع الطعام البرى مع بزوغ عصر الزراعة، قبل 13 ألف سنة، كما تؤكد القياسات الزمنية بالأشعة الكربونية لآثار حضارات زراعية عديدة، فى الهلال الخصيب القريب، والصين، وأمريكا الوسطى، وشبه القارة الهندية، وحتى فى حضارة الشاونا على أرض زيمبابوى، التى يكابر ديكتاتورها موجابى بالقول عنها «إنها لى» أو «زيمبابوى بتاعتى»، وهو ليس عجبة بين الدكتاتوريين، وإن كان تميَّز بينهم بالتناحة والكلاحة والجرأة فى التعبير عما فى داخله، بينما يعبر الآخرون عما أفصح عنه، لا بالأقوال، بل بالأفعال والأنجال!.
حضارات متعددة أشرقت على ظهر كوكبنا كان لكل منها فجر يقارب فجر حضارتنا المصرية القديمة، أما العنصر الغائب عنها جميعا، وكان حاضرا عندنا بقوة تاريخية، فهو الحمار. نعم الحمار!
فى بحثنا، صاحبى وأنا، عن حيواننا القومى المُقترَح، فى أحشاء تاريخنا المصرى القديم، وجدنا الحمار حاضرا بجلاء، بل رأيناه يحلق فى سماء تلك الحضارة كما يدرج على أرضها. فعلى الأرض الطيبة وبين الناس العاديين، كان الحمار طيبا وعاديا، قوة بدائية غير ضارة، بل نافعة لهؤلاء الناس وهذه الأرض. أما فى الطبقات العُلى، فقد أُقحِم الحمار فى صراع لم يكن له فيه ذيل ولا حافر، وهو صراع الصراعات فى تاريخ الملوك الفراعين الآلهة، لأنه صراع أسطورة الملك الإله «ست»، وأخيه النقيض، الملك الإله، الأشهر، «أوزيريس».
فى البدء لم يكن الحمار غير أحد أفراد السيكيوريتى على أبواب ممتلكات السيد «ست»، الذى اتخذ من الحمير حراسا لمخازنه وخزائنه. وهى وجهة نظر لا تخلو من خباثة سِتاوية مبكرة، فماذا يفعل أفراد سيكيورتى هذه الأيام غير أنهم يمثلون رمزا معنويا لتعطيل زوار مؤسسات النخبة، ومنتجعات الأثرياء، لا شىء غير المنظر، بدليل أن قاتل فتاتى حى الندى فى مدينة الشيخ زايد، وهو نوع جديد من القتلة بالصدفة، الذين يذهبون ليسرقوا لأول مرة فى حياتهم المخنوقة، فيتورطون فى جنايات قتل، ويُعدَمون!
هذا القاتل بالصدفة، وبرغم وجود البوابات وأفراد الأمن فى «اليونيفورم»، إلى جوار الإنتركمات وكاميرات المراقبة، استطاع أن يتسلق السور ويهبط إلى حديقة الفيللا كيفما اتفق، وتسلل داخل الفيللا كيفما اتفق، وقتل البنتين اللتين شرشحتهما صحافة كيفما اتفق، كيفما اتفق، وحصل على موبايل أعطاه لصاحبه بدلا من الموبايل الذى كسره له كيفما اتفق، وغنم ربعمائة جنيه، ويقال مائتين وخمسين، دفع منها خمسين جنيها لسائق الميكروباص ليوصله إلى بيت أسرته فى روض الفرج آخر الليل كيفما اتفق، وقاد إليه الشرطة فيما بعد من خلال التليفون، الذى غنمه من غزوة حى الندى، وكيفما اتفق!
إذن كان الحمار فرد أمن فى فجر التاريخ، ومن المؤكد أنه كان لا يكلف السيكوباتى «ست» غير أكلُه، وأكل الحمار قليل كما يعرف خبراء استحمار الحمير، فالمسكين الذى اعتاد على العطاء كثيرا والأخذ أقل ما يكون، لو أكل كثيرا لايصاب بالتخمة، بل تلتهب حوافره! لهذا قنع فى خدمة ست مقابل حفنة تبن أو حشَّة برسيم وشربة من ماء النيل، مقابل أن يُشكِّل مع فرقة من أقرانه رمزا لسطوة وأبهة «ست».
لكن عندما وقعت الواقعة بين «ست» السفلى، وأوزيريس العلوى، صب العوام لعنتهم على رءوس الحمير، تماما كمن يترك الحمار ويتشطر على البردعة، واتخذ هؤلاء العوام من الحمير أضاحى للتعزيم ضد شرور ست، الذى قتل أخاه أوزيريس. وهى حالة إزاحة نفسية غريبة، ربما كان مبعثها ضيق العوام بشىء من إزعاج نهيق الحمير أو رفساتهم عندما كانوا يقتربون عفوا أو فضولا من أبواب ممتلكات «ست» التى تمددت، بل برطعت، من مصر العليا، وحتى السفلى، وإلى أسفل سافلين.
لكن فى بُعد فلسفى أعمق من غوغائية العوام، وفى بعض المشاهد على جدران المعابد الفرعونية، رسموا الحمار رمز الإله ست يحاور القط رمز الإله أوزيريس. وهى محاورة قال العارفون بها إنها دالة على تبادل الكلمة السرية فى تكامل أركان الحياة، بين ما هو أرضى سفلى يمثله ست، وعلوى سماوى يمثله أوزيريس. أى تكامل ثنائية النور والظلام، والبناء والتدمير، والوادى والصحراء.
الموضوع إذن كبير، والحمار ليس مجرد حمار مما نعرف أبدا، وهذا أمر لا يجوز المرور به مرور حمير السباخ الريفية، أو حمير الزبالة المدينية، بل يقتضى العودة إلى الأصول، أصول تاريخنا الأقدم.
ولنبدأ ب«ست»، فقد كان ست يُمثَّل بحمار منتصب الذيل، ربما كناية عن التأهب، أى تأهب؟! بعد ذلك تم تجسيده فى شكل إنسان له رأس حمار يعتليه التاج المزدوج، ويمسك بعنخ فى يده اليمنى، و«واس» فى يده اليسرى، وهما رمزان يمثلان الحياة والسعادة على التوالى.
كان ست فى المعتقد الفروعونى هو «الفائق السطوة»، «مدمر الضياء»، «قاتل أوزيريس»، «والمقطِّع إربا»، ممثل الظلمات، ومصر العليا بصحرائها الجدباء ذات الجبال القاحلة. إنه رب الصحارى، وعدو التوازن بين القطرين!
ابن حرام، جاء من نزوة بين «جب» و«نوت»، أى الأرض والسماء، برغم أن نوت كانت زوجة لأتوم رع، كبير عموم آلهة مصر القديمة، الذى يحمل على رأسه الصقرى قرص الشمس ويتجسد فى صورة بشر سوى سماوى، لكن السماوية نوت طق فى دماغها أن تتذوَّق طعم الأرض، فجاء ست ثمرة الوليمة الآثمة، خرج إلى الوجود عارم القوة، طويل جميل أحمر البشرة فاتح العينين حاقدا، وكان حقده على أخيه اوزيريس أعمى الغيرة، ومظلم القلب، فأوزيريس كان ابن الزواج الشرعى بين نوت وآتوم رع، لهذا حق له أن يرتقى حلالا بلالا عرش مملكة «الأمنت» المصرية القديمة. وكيف لابن حرام أن يُقدِّر لابن الحلال استحقاقه؟
لم ير «ست» إلا أنه الأخ الأجدر، ومن ثم هو أولى بعرش المملكة التى كانت عاصمتها «أمنت» فى دلتا مصر، فى محافظة الشرقية الحالية شمالى مدينة فاقوس بالقرب من بلدات فنتير وتل الضبعة، وهى ليست ضبعة الساحل الشمالى التى تصارع عليها ضباع هبر أراضى الدولة من ناحية، وتُجار المخاطر النووية من ناحية أخرى، وفاز الأخيرون، بينما كان أولى بالضبعة أن تطرد كل ضباع الاستثمار الأعمى والاستحمار النووى، وتحتضن فى رحابها مدينة شمسية تمنحنا طاقة آمنة ونظيفة، طاقة الشمس التى تقع الضبعة على رأس أغنى أحزمتها الشمسية على وجه البسيطة، والتى يحلم الأوربيون بأن تتباسط معهم دول شمال أفريقيا فتمنحهم شيئا من حق استغلال هذا الحقل باستثمارات تُقدَّر ب400 مليار يورو، لإنتاج طاقة تكفى أوروبا وتفيض بعد أن تغرب شمس النفط أو تتوهج لدرجة إحراق القلوب والجيوب.
كان أولى بالضبعة، التى ليست تلك القريبة من عاصمة مملكة الأمنت الداثرة، أن تكون مزرعة ومركز أبحاث للطاقة الشمسية، التى هى طاقة إنقاذ المستقبل، والتى يعمل على تطويرها أناس لديهم الشمس تسطع أقل مما لدينا بكثير، بكثير جدا، لكن يبدون أن «ست» المدمِّر، لم يمت بعد، ولا تزال ذراريه اللئيمة تبيع للنيام الكوابيس السوداء باعتبارهها أحلاما وردية!
بقوة المقت الرهيبة المتأججة بالنار السوداء كما نار الانفجارات والحرائق النووية فى نفس «مدمر الضياء»، راح «ست» يجتذب إليه شراذم الأوليجاركية الفرعونية من جماعات المنتفعين الذين أفقدهم أوزيريس الحقانى منافعهم وامتيازاتهم الفاجرة. وبفرقة الشر هذه راح ست يحاول الإطاحة بأوزيريس الملك. فما دخل الحمير بذلك كله؟
يبدو أن الحمير لم يرتح قلبها الطيب الكبير وعيونها الواسعة الجميلة لهذا الصراع المنذر بالشر، فراحت تتطلع للحظات التهدئة من خلف ظهر الشرير، وظهرت مشاهد للحمار المفترض أنه يمثل ست، وهو يتحاور مع القط ممثل أوزيريس، فماذا كان بينهما؟ يقول العارفون بألغاز الإيجبتولوجى أو القفطولوجى أو علم المصريات، إنهما كانا يتبادلان كلمة سر توازن الدنيا، وأسلوب تعايشها ما بين الضياء والظلمة، وهى الكلمة التى لو كان المتوفى أحسن الإنصات لها فى حياته، لصارت واسطة براءته من الآثام أمام محكمة أوزيريس بعد الموت!
إنها لمحة الطِيبة فى الحمار، الصبورالحمول، الساعى للخير، حتى مع جلاديه وقاهريه ومستغليه، وهو لم يكتف بحوار التسامح هذا، بل إنه عندما تلبسه ست، كان يدفع من يتلبسه ليعاون حورس، رمز الخير والعدل، لمساعدة البشر فى ارتقائهم الدرج الصاعد نحو السماء.
لكن هذا الصنيع لم يعجب البعض، فراحوا ينفخون أبواق الشر لتوقظ عويل المعارك. وقد كان، فبعد محاولة فاشلة لِسِت فى اغتيال أخيه، حرَّم عليه أوزيريس دخول قصره، لكن الفاجر ست لم يقبل بهذا التحريم، فثار ثورة كبرى جنَّد فيها لسانه الذرب وعباراته الغوغائية الحنجورية، فاستمال جزءا من السكان، وانشقت المملكة إلى قسمين، شرقى أبقى على وفائه لأوزيريس، وغربى، كما كل غرب، تقريبا لا يأتى منه ما يسر القلب! انساق وراء الشرير.
هجم غرب مصر على شرقها، وأشعل ست الحرائق فى كل مكان، ودمر القرى والمدن، وقتل من رفضوا مسايرته، وهرب من نجوا إلى الجبل يحتمون به، وينادون أوزيريس فى هلع : «أوزيرييييييييييس. أوزيرييييييييس»، واستجاب أوزيريس للوعة النداء، خرج عن صمته الذى لاذ به، وعن صبره الذى مد حباله كثيرا كثيرا لأخيه المتشيطن، وصاح صيحة الحرب التى لامفر منها، وتجابه الجيشان، تجابه الإخوان، تجابه شِقا الأمة الواحدة، فى حرب دامية استمرت تسعة وعشرين عاما، مقدار دورة كاملة من دورات كوكب زحل، ربما لهذا لا نزال نسمع عندما يشتر الشر من يهدد: «والله لاخليها زُحل». ومع انتهاء هذه الدورة الزُحلية، انتصر جيش أوزيريس على أتباع ست الذين لم يكونوا أبدا مؤمنين بعدالة قضيتهم، بل كانوا محض منافقين وطامعين فى المكاسب والمنافع بمعية الشرير.
ولُّوا الأدبار، وقبضت عليهم قوات ابن الحلال من أدبارهم، ووقع ابن الحرام زعيمهم فى الأسر. ومن جديد عاد معدن أوزيريس النفيس الطيب يتألق كما قرص الشمس فوق رأس أبيه، فلم يصغ لصيحات الحشود المُطالبة بإعدام ست، بل نحى خنجره جانبا متذكرا أن هذا فى النهاية هو ابن البطن التى أنجبته، وأطفأ عطش الحشود المتحرقة للشرب من دم ست، بنحر كثير من الثيران والكباش بديلا وأضحية. لكن الشرير لم يزايله شره: عاد ست يستحمر الحمير، وتَخَالس حتى قتل أوزيريس وقطَّعه إربا إربا وبعثر الإرب فى كل أرجاء الوادى وحوض النهر. لكن الزوجة الوفية إيزيس لم تستسلم لفقد زوجها، فراحت تجمع أشلاءه قطعة قطعة وتعيد تركيبها حتى اكتمل وعاد، وإن كانت كثير من المصادر التاريخية المؤدّبة سكتت عن أن هناك قطعة ظلت مفقودة من جسد أوزيريس، ويترتب على فقدها علامات استفهام كثيرة تخص الوليد حورس، لكننى سأكون مؤدبا أيضا، وأسكت!
سأسكت عن فجوة هذا التاريخ، لأعود إلى ماقبل التاريخ، وأمضى إلى سطح التاريخ، وأختبر مقولة فوكوياما عن «نهاية التاريخ»، هل يمكن تطبيقها على الحمير؟ وإذا ما أمكن تطبيقها، هل تظل الحمير صالحة لما رشحناه لها؟
(فاصل، وفى الجمعة القادمة، إن أحيانا المولى، نواصل)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.