لقد تشرفت بأداء الخدمة العسكرية.. وعلى مدى سنة كاملة كنت قريبًا جدًا ممن يسمونهم «العساكر ».. بل كنت لمدة عام كامل واحدًا منهم.. ولأننى عملت صحفيًا أثناء دراستى الجامعية.. كنت أتابع بدقة ما يجرى داخل وحدتى.. أرصد تصرفات الضباط وضباط الصف والجنود؛ لأكتشف حجم التضليل والكذب الذى سمعته عن الخدمة فى القوات المسلحة .. أو كما كنا نقول ونسمع: «حكم النفس على النفس». بمجرد أن ترتدى البدلة العسكرية تجد من يلقنك بعضًا من العقيدة العسكرية المصرية، فتجد قائدك يقول بصوت عال: «شرفك.. سلاحك.. مهماتك»، فى إشارة واضحة لما يجب أن تحافظ عليه أثناء خدمتك العسكرية. تجده يقول بنبرة واثقة وحاسمة تملؤك عزة وقوة وشموخًا: «إذا ارتفعت الأيدى تساوت الرُتب».. «إذا حافظت على كرامتك.. ستنجح فى مهمتك التى ارتديت البدلة العسكرية من أجلها وهى الحفاظ على كرامة مصر». مازال صوته يتردد فى أذنى رغم مرور سنوات طويلة.. وهو يعلن ما يشبه الدستور الذى يجب أن يلتزم به الجندى طوال فترة خدمته بالقوات المسلحة: فتجده يقول: «الجيش أفراد منتخبون من الشعب».. «تعامل مع أفراد الشعب باحترام واقتضاب».. «عدوك خارج حدود مصر».. «عدوك إسرائيل». مفاهيم كثيرة يتعلمها المجندون ويؤمن بها كل من يرتدى البدلة العسكرية، بداية من الريفى البسيط الذى لا يتجاوز عمره 18 عامًا حتى من يضع على كتفيه أعلى الرتب العسكرية. كانت كتيبتى التى انضممت إليها من حملة المؤهلات العليا.. لكننى التقيت فى أيامى الأولى بمركز التدريب بمجند من كتيبة أخرى، «عسكرى عادة» غير متعلم كان يعمل ماسحًا للأحذية واسمه «بلية».. دارت بيننا حوارات كثيرة، خاصة عندما عرفت أنه من «الدرب الأحمر» وأنا من «عابدين». كان «بلية» يتفاخر أمامنا بأنه يعرف الضباط وأمناء الشرطة فى قسم الدرب الأحمر، فهو يمر عليهم من يوم لآخر لتلميع أحذيتهم.. كان «بلية» نموذجًا للمواطن البسيط، المستكين.. لا يهتم كثيرًا بكرامته.. أو ربما لم يكن يعرف أن ما يرويه لنا من حكايات عن علاقته بهؤلاء الضباط فى القسم، وكيف كان يقضى لهم ولأهل بيوتهم طلباتهم.. يسىء إليه وينتقص من كرامته. كنت أسأل نفسى: هل يفهم «بلية» ما يتم تلقينه لنا؟!.. هل يستوعب ما يردده ضباط الصف على مسامعنا من عينة: «تعامل مع أفراد الشعب باحترام واقتضاب»؟!.. هل فهم مثلا ما كانوا يقصدونه عندما يرددون: «عدوك خارج الحدود»؟!.. وهل يمكن أن يتحول «بلية» إلى جندى يستطيع الدفاع عن تراب وطنه.. أو يستعد للموت من أجل مصر؟!. كانوا يقولون لنا دومًا: «الجيش مصنع الرجال».. وكنت أقول لنفسى: «لو نجحوا مع «بلية» تبقى معجزة». فى نهاية مركز التدريب وقبل أن يتم توزيعنا على وحداتنا، كان «بلية» الجندى مختلفًا تمامًا عن «بلية» القديم.. كلما تحدثنا معه عن قسم شرطة الدرب الأحمر تهرَّب من الحديث.. حتى إنه لم يعد يحب أن نناديه باسمه الحركى «بلية».. لقد أدرك أن ما كان يحكيه لنا عن علاقته بضباط القسم ويعتبره مدعاة للفخر.. يسىء إليه.. ولا يتناسب مع كونه مجندًا فى القوات المسلحة. فى مرة.. قلت لأحد الضباط ممن كنت أشعر بود عندما أتحدث معه: أنا مندهش.. «بلية» تغير تمامًا وفى أسابيع قليلة.. فقال لى: بلية فى «المدنية» كان يحمل فرشاة وشغلته تلميع الأحذية.. أما هنا فيحمل السلاح ومهمته حماية البلد.. هل سمعته وهو يُعرِّف نفسه أثناء الطابور: جندى مقاتل محمد السيد.. فكيف لا يعتز بنفسه؟!. حقًا.. الجيش مصنع الرجال؛ أشياء تجد نفسك مؤمنًا بها بمجرد أن ترتدى البدلة العسكرية.. تعمل على أساسها ووفقًا لها، وتموت من أجلها.