قد يتبادر لذهن البعض.. أن عنوان المقال يشير إلى عواطف ومشاعر وأحاسيس ذاتية تجتاح صاحبته.. وهى تتحدث عن حال المسرح والمسرحيين المصريين.. وما آلت إليه فى السنوات الأخيرة من ضعف وهزال.. إن لم يكن السير فى الحذاء ذاته! رغم الأمانى والأحلام التى أعقبت الثورتين.. لكن الحقيقة أن المقال يتجاوز ذلك بكثير.. وهو يحتكم إلى العقل والعقلانية.. ويستند إلى الضمير الشعبى والوطنى العام.. الذى رفض التطبيع مع العدو الإسرائيلى.. هكذا كان.. ولا يزال.. تبعًا لقرارات كافة المؤسسات والنقابات وجمعيات المجتمع المدنى.. منذ اتفاقية «كامب ديفيد» حتى الآن.. إلى أن تعود الأرض الفلسطينية المحتلة إلى أصحابها. المذهل فى الأمر.. أنه فى يوم 6 أكتوبر عام 2016.. وفى قاعة المسرح القومى العريق.. الذى هو عنوان الفن المصرى وبوابته العريضة.. يفاجأ الجميع، من داخل الدار المسرحية.. ومن خارجها الجمهور المصرى العريض.. بأن السفير الإسرائيلى يجلس بكل أريحية فى الصفوف الأمامية ليشاهد العرض المسرحى القديم الجديد.. وكأنه يخرج لسانه للجميع: ها أنا أحتفل بنصر أكتوبر بطريقتى الإسرائيلية الخاصة.. وفى ساحة القومى المصرية! المذهل فى الأمر.. أن مسئولى المسرح.. ارتبكوا.. وصاروا يتخبطون كما لو أن على رؤوسهم الطير.. هل فقدوا صوابهم أم بالأحرى عقولهم؟! المذهل فى الأمر.. أن بطل العرض الفنان الكبير «يحيى الفخرانى» لم يبد أى اعتراض أو حتى تأفف! وإنما اختار أن يسير داخل الجدار لا حتى بحذائه! متجنبًا أن يعلن رأيه.. وأن هذا الشخص غير مرغوب فيه لا سمح الله! اختار أن يحتسبه فردًا من أفراد الجمهور العادى.. جملة اعتراضية أو ليس هذا نوعًا من أنواع التطبيع؟ اقفل القوس من فضلك.. هل كان وجود هذا السفير أمرًا لا يعنيه ولا يعنى الفريق الفنى؟! فبماذا نفسر الأمر: هل هو السلبية المفرطة أو المذلة؟! أم أنه أمر دافع للتطبيع بقوة الأمر الواقع.. والدفع فى شرايين الفن المصرى بما يرفضه ويأباه؟! أم أنه محاولة لجس النبض من قِبل أجهزة الأمن عن مدى تقبل الجمهور لهذا الفعل؟ خاصة أن هذه الأجهزة هى المسئولة عن كل خطوة يخطوها ذاك الشخص خارج عتبة السفارة تأمنيًا على حياته بالأساس!! أم أن مرض المراوغة الذى نعانيه بشدة فى حياتنا العامة قد انتقل إلى خشبة المسرح فاصطبغت به فى حده الأعلى ولا نقول الانتهازية؟! هل وصلنا إلى هذا الهوان.. فى بيتنا.. أو فى وطننا.. وبتنا لا نستطيع أن نأخذ موقفًا واضحًا ومحددًا نعلن فيه رفض الفنانين للزيارة.. بل رفضهم للمشاركة من قِبل هذا الشخص فى الاحتفال بيوم النصر العظيم والمشرف لمصر والعرب فى 6 أكتوبر عام 1973؟! ولمن فقد الذاكرة.. أو أصابها العطب.. وبات يتشكك فى القرار الشعبى العام بعدم التطبيع حتى تُسترد الحقوق الفلسطينية العربية.. أذكره بهذا الموقف الأخير للكيان الإسرائيلى والذى أجبر فيه هيئة «اليونيسكو» على إلغاء مشروع القانون الذى حظى بالموافقة وهو يعلن أن المسجد الأقصى وحائط البراق مكان مقدس للمسلمين.. لم يستمر الأمر يومًا أو بضعة أجزاء من يوم.. وإذ باليونيسكو تلغى القرار وتردد المزاعم الإسرائيلية فى القدس والأقصى.. بعد أن هددها «نتنانياهو» بالويل والثبور وعظائم الأمور.. المقاطعة التى لا تطيق فيها اليونيسكو البعاد عن إسرائيل وأحضانها وعناق ماما أمريكا للاثنين معًا!! ما أطل علينا نهار يوم 10/10/2016 إلا وكان النبأ المؤلم، والخبر المحزن.. رحيل شيخ المسرحيين العراقيين.. الفنان الكبير «يوسف العانى» عن عمر يقترب من ال90 عامًا.. وعن عطاء فنى متنوع استمر ما يقرب من 75 عامًا.. بعد عذابات أسطورية لتمزيق وطنه تفوقت على معاناته فى الغربة من المرض.. رحل فى الغربة.. فى الأردن.. رغم أن روحه ظلت مزروعة فى وطنه العراق.. إنه فنان عراقى بامتياز.. وعروبى بامتياز أيضًا.. مارس كل أنواع الفنون: سينما ومسرح وتليفزيون وإذاعة.. من كتابة وتمثيل للمسرح إلى كتابات نقدية ونظرية.. تقلد أعلى المناصب الإدارية الفنية.. أسس فرقة الفن الحديث عام 1952.. وجاء مسرحه من رحم الحرب العالمية الثانية.. مجددًا، مستنيرًا، تحديثيًا، مطالبًا بالاستقلال الوطنى.. من أشهر أعماله التى فاقت المائة «بغداد الأزل بين الجد والهزل» «الإنسان الطيب» عرضت فى الثمانينيات فى المسرح القومى المصرى.. لاقت ترحيبًا واستحسانًا كبيرًا.. تمتع «العانى» بنزوع إنسان عالٍ.. نذكر له أنه صاحب مصطلح «الضحك الحلال».. وهو القادر على تأكيد رسالة المسرح الجاد لا التجارى أو الاستهلاك.. ولعله فى دوره فى مسرحية برخت الشهيرة «بونيتلا وتابعه ماتى» قد حقق هذه المعادلة بمهارة وتميز لافت. عندما يقولون عنه.. رحيل فنان الشعب العراقى.. فهم محقون لأن رصيده يعزز تلك المكانة.. وينتزعها لحسابه الخاص.. فهو لم يكن مسرحيًا عاديًا.. وإنما فوق العادة.. بعد أن التحق بمرتبة المفكرين المسرحيين.. ولهذا يتساءل فى مرارة وحسرة بعد غزو أمريكا للعراق.. وهو يشارك فى آخر مهرجان مسرحى أقيم فى سوريا عام 2010 مهرجان دمشق المسرحى: لماذا نأكل لحمنا؟ المسرح يعنى أن تكون حيًا.. لكننا أمة تموت! المسرح يؤكد غريزة البقاء.. حفظ الذات.. الأمة اليونانية القديمة أثبتت وجودها بالمسرح.. لكنه لدينا للأسف الشديد سبب للحزن والتشرد والتبة! ما يقتلنا هو الفلسفة التسلطية التى تتعالى علينا.. ولذا يسكن «داركولا» بيننا! إن صرخته الأخيرة تتلخص فى الخطر الداهم من الإسلام السياسى والمتاجرين بالدين إذ يقول: لا تفترسوا المسرح حتى لا يلجأ الحكام الدنيويون إلى الوحى، فتقوى شوكتهم.. ويزيدوا من عدد الأفكاك المفترسة. فى 12/10/2016 تستمر مسيرة الأحزان المسرحية.. ويفاجأ العالم برحيل الكاتب والممثل المسرحى الإيطالى الساخر «داريو فو» حامل نوبل لعام 1997.. وبينما العالم ينتظر إعلان جائزة نوبل فى الآداب لهذا العام.. والتى نالها الشاعر والمغنى الأمريكى «بوب ديلان» لتصبح أيضًا مفاجأة للجميع.. فلأول مرة يحصل عليها مغنٍ.. لكن ينسى البعض أو يتناسى أنه شاعر بالأساس! وعلى أى حال فإن رحيل «داريو» يعد خسارة كبيرة للمسرح ولليسار فى إيطاليا، فكم أذاق الساسة لسعات نارية.. وسخريات مريرة.. لكنهم لم يعصفوا به ولا بمسرحه!! رحلة عامرة بالإبداع، والعطاء الفنى المتنوع.. والاشتباك مع الواقع.. ومحاولة تغييره إلى الأفضل والأكثر جمالاً وعدلاً وحرية.. ولهذا يعد من أكثر المسرحيين الذين قُدِّمت أعمالهم على خشبات المسارح العالمية.. من مسرحياته الشهيرة «موت فوضوى» و«ماريجاونا والدتى هى الأفضل».. و«الشاذ ذو الرأسين» التى وجهها ضد حكم رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق «بيرلسكونى» عام 2003 ونالت شهرة واسعة.. ولا غرابة أن ينعيه رئيس وزراء إيطاليا الحالى «ماثيو وينزى» الذى نال من سخريته الكثير.. ينعيه بعبارات دالة على مناخ الحريات والديمقراطية فهو يقول: «خسرت إيطاليا «داريو» وهو واحد من أبرز أعلام المسرح والثقافة والحياة فى بلادنا.. وأعماله الساخرة هى إرث إيطالى كبير.. نخاطب به العالم». والسؤال: متى ستسطع فى سمائنا العربية مثل تلك الحريات؟ متى ننهض ونفيق لنذود عن مسرحنا الذى لا ينفصل عن وطنيتنا وعروبتنا؟ رحل «العانى» فى الغربة.. ودُفن سرًا فى بلده الأصلى العراق!! وجاءنا السفير الإسرائيلى.. فأصابنا البكم.. وولينا الأدبار.. وتخبطنا وتبادلنا الاتهامات.. وتاهت منا الخطى الواثقة، الواضحة، المحددة.. وسطع فيها مواقف «البيّن بيّن» التى تزيد الأحزان.. حزنًا مضاعفًا!!