لا أدري.. لماذا صرنا «نتناطح» باللكمات.. نتصارع، ونتشنج، ونطلق المقذوفات النارية من حلوقنا ككائنات اسطورية دون ضابط أو رابط.. وكأننا بتنا وأصبحنا كائنات غريبة.. شائهة واستثنائية.. ضاقت بها مساحة الحركة، والتفكير، والتدبر! فصارت تلعن الآخر المختلف.. تصب عليه جام غضبها.. بل وجام سخطها.. في محاولة لنفيه وإقصائه من المشهد الاجتماعي علي اتساعه.. وكأن في ذلك.. طريق السلامة لا الندامة.. وهو الفهم المعكوس والمضاد لجوهر الحقائق والمعطيات!. أما عن فضيلة الحوار.. فقد صارت مقصية، أو ملغية من قاموس الحاضر.. إذ كيف لها أن توجد، وتنتعش في غياب التسامح، بل وتغييب العقل وإعطائه اجازة مفتوحة مع ارتفاع منسوب التعصب.. وعقيدة العواطف والاتهامات الجاهزة.. نعم صار الجو العام مشحونًا بالروح المتعالية علي الآخر.. والتي تفرق بين الأخ وأخيه علي الأرضية الوطنية!. لعل هذه المقدمة.. جاءت ضرورية.. وهي تعكس حالة من حالات الاستقطاب القصوي.. نراها متجلية ومجسدة في الفيلم المدهش «اشتباك» للأخوين محمد وخالد دياب.. الذي أثار الكثير من الجدل، والكثير من الأسئلة، التي تصب، وتشير إلي تلك التصنيفات، والانقسامات والتجمعات التي تموج بها الساحة المجتمعية. فما أحوجنا إلي «مجهر» أو «ميكروسكوب» من نوع خاص، يكشف لنا ما يعتمل في قلب المجتمع المصري بالصوت والصورة والحركة والإيماءة.. وكيف يؤجج فريق ضد آخر.. ويعلو صوت فصيل علي فصيل مختلف.. هكذا رأينا ذلك مجسدًا في فيلم «اشتباك» رغم أن صناعه كتبوا عنوانه «clash» وترجمتها «صدام».. وهناك فرق بين الاشتباك والصدام.. لكن علي أية حال.. عندما عرض في مهرجان كان السينمائي لهذا العام.. نال الاعجاب من الكثيرين.. ومنهم الممثل العالمي «توم هانكس» الذي أبدي إعجابه الشديد في تويتة قال فيها «سيحطم قلب من يشاهده، لكنه سينير له الطريق». أغلب الظن.. أن أحداث الفيلم تأتي في أعقاب ثورة 30 يونيو.. فرغم أنه ليست هناك دلالات محددة.. إلا أن حالة الفوران.. والهرج والمرج لجماعة الإخوان.. والتظاهرات والصخب الذي يموج به الشارع والميادين والساحات.. وحالة الاستنفار الأمني الشديد، والذي دفع بالأمن أن يزج بعدد من الشخصيات جزافًا داخل سيارة الأمن المركزي.. في محاولة للسيطرة علي الشارع.. وأحداث الفيلم في معظمها تدور داخل هذه السيارة.. حيث يتراكم في صندوقها الذي لا تزيد مساحته علي أمتار معدودة.. عدد كبير من المتظاهرين قد يتجاوز ال30.. في هذه الأعداد العشوائية.. نري «نيللي كريم» وهي تمثل الأم التي تصر علي مصاحبة زوجها وطفلها صادق عبدالعزيز «أحمد داش» داخل الصندوق.. والأسرة بكاملها ليست لها ميول سياسية أو نشاط حزبي!!. وداخل الصندوق أيضا شيخ حسن يعانى المرض وتصاحبه ابنته «مى الغيطى» المتعاطفان مع الأخوان.. وفى مقابل هاتين الأسرتين.. هناك مجموعة كبيرة منتسبة للإخوان المسلمين وقد نظموا أنفسهم فى التو واللحظة.. وعملوا ما يشبه خلية تنظيمية لها رئيس ثم هناك حرفيون أو شباب العشوائيات ومنهم «أحمد مالك».. ثم صحفى يحمل الجنسية الأمريكية «هانى عادل» وبرفقته مصور صحفى.. ومجموعة من الشخصيات متنوعة.. تكره الإخوان وتناصبهم العداء، وكما يقول المصريون لا لسبب محدد.. ولكن لله فى الله!!. الفرقاء مستنفرون ضد بعضهم البعض.. نرصد حالة القبض العشوائى.. المساحة داخل الصندوق ضيقة.. التنفس صار صعبًا بعد تكاثر الأعداء.. النافذتان أو الثقبان لا يكفيان.. وبالتالى فتح باب الصندوق.. إنهم يحتاجون إلى جرعة ماء.. الأوامر ممنوعة.. وعندما يتجرأ «شاويش» على الاستجابة.. يزج به داخل الصندوق ومن المفارقة أن الأم «نيللى كريم» تكتشف أنه «مسيحى» عندما تنقلب بهم السيارة فترى الصليب على ذراعه.. فتغطيه بانسانية بالغة حتى تحميه من عدوانية الإخوان!!. داخل الصندوق.. يشتد الغضب.. ويعلو الصخب.. والصياح للخروج.. فإذا بالأمن يلجأ لرش الجميع بالمياه الغزيرة.. فإذا بالمحتجزين يتضامون فى هذا القهر.. بعد أن تساووا فى الهلع العام والمفاجئ.. ومن هنا تتقاطر الأفعال الانسانية المرطبة للوضع العام المحتقن.. وكأنها قطرات الندى المصفى.. بردًا وسلامًا على الجميع.. نعم تعلو الانسانية وتتفتح.. وتتراجع العدوانية والتعصب، والاستقطاب.. وفي جو من التسامح والتضامن يساعد الجميع الفتاة التى ترغب فى دخول الحمام بأن يصنعوا لها سدًا بشريًا.. بعد أن كادت تصاب بصدمة عصبية! وهم يذرفون الدمع عندما اندفع والدها الشيخ العليل.. ليقذف بنفسه خارج الصندوق رافضًا الأوامر.. فإذا برصاصة طائشة تطيح بحياته! ثم إذا فى وقت الضيق الشديد.. يخرج صوت واحد من الإخوان.. ليغنى أغنية عاطفية.. ولمن؟! وللعجب للمطربة اللبنانية اليسا «أجمل احساس فى الكون انك تعشق بجنون».. وقد جاءت من المفارقات الحادة التى جلبت الضحك.. لكنه ضحك كالبكاء.. لأنه إذا كان بمقدور هؤلاء البشر أن يتعايشوا بسلام، وتسامح ومحبة فلماذا لا يفعلوها؟! هل لأن بينهم من يتاجر فى الدين ويبغى السلطة؟! هل لسطوة الأمن وانخفاض سقف الحريات؟ هل للإرث الطويل من القهر والاستلاب الذى تربت عليه تلك الفصائل المتصارعة وانصاعوا إليه متسلحين؟! حقيقة إن الفيلم لم يجاوب على مثل تلك الأسئلة، وغيرها، التى أطلقها فى قلوب وعقول من شاهده.. لكنه اكتفى بالكشف عن حالة الاستقطاب وحدتها، وعدم التسامح، وازدراء الآخر لمجرد الاختلاف فى العقيدة والدين والتوجه.. وقد يكفيه أنه أدان هذا الوضع الشائه وعراها من داخل الصندوق.. ويكفيه أيضًا أنه أعلى من البعد الإنسانى الرحب الذى غمرنا وجسد لنا حالة من الاستنارة والمتعة.. وقد تجاوزنا بهما تلك النهاية المفتوحة للفيلم على الفوضى!! لأن من سيكتب النهاية السعيدة حقًا هو الجمهور العريض عندما تنتابه حالة الصحوة والتمسك بالحوار والاعتراف بالآخر المختلف الذى يقاسمنا الصندوق.. نعم إن صندوق الوطن يتسع لجميع أبنائه.. رغم كيد المتنطعين! . ملحوظة أخيرة اشتباك.. انتاج فرنسى، مصرى، ألمانى، إماراتى.. لكن البعض.. اشتبك معه أو بالأحرى تصادم معه لا لشىء.. إلا لأن منتجه المصرى «معز مسعود» داعية إسلامى.. وهو من الدعاة الجدد.. أوليس هذا نوع من «التنطع» فى غير موضع؟!.