الإعلان عن الانسحاب العسكري الروسي من سوريا فسره البعض بكونه تراجعًا للدور الروسي فى الملف السوري، وذهب البعض للتشكيك فى عقد صفقة بين الروس والأمريكان لتقسيم سوريا. المتابع للشأن السورى يعلم جيداً أن الموقف الروسي كان واضحاً منذ أن دخلت آلته العسكرية إلى سوريا سبتمبر 2015، وقد حُددت المهمة الروسية في سوريا بأربعة أشهر وها قد انتهت المدة بقليل، وقد استطاعت روسيا تحقيق حزمة من الأهداف الاستراتيجية فبعد أن تيقن القيصر الروسي بوتين إن أهم العوامل التي ساعدت على انهيار الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، أن هذه الإمبراطورية السوفيتية امتلكت أقوى الجيوش البرية في العالم لكنها لم تؤسس لقواعد بحرية أو جوية حول البحار والممرات المائية الدولية بالقدر الكافى أمام النفوذ البحرى الأمريكي، فها هو اليوم يحظي بقاعدة جوية باللاذقية على بعد أميال بحرية قليلة من قاعدة طرطوس البحرية آرث الاتحاد السوفيتي السابق، ولأول مرة عبر التاريخ تمتلك الجمهورية الروسية قاعدة جوية على سواحل المتوسط قبل أن تحظى بقاعدة جوية أخرى في قبرص فور التدخل العسكري في سوريا، وهو ما يعني اننا أمام امبراطورية روسية ناشئة سوف تعلن عن نفسها فى المنطقة الدافئة بالمتوسط ربما تصل فيما بعد حتى شواطىء ليبيا . وللتأكيد الروسي على كسر الاحتكار الأمريكي لسواحل المتوسط، أُطلقت أربع بوارج روسية مرابطة فى عرض بحر قزوين فى 7 أكتوبر2015 عدد 26 صاروخًا عابرًا للقارات من طراز «كاليبر» عبرت مسافة تجاوزت 1500كم وصولاً إلى أهداف فى ريف حلب وإدلب السورية، وفى 8 ديسمبر 2015 أعلن وزير الدفاع الروسي «سيرجي شويجو» عن إطلاق دفعة جديدة من ذات الصواريخ على أهداف سورية من متن الغواصة الروسية «روستوف نادونو» بعد أن دخلت الجزء الشرقي من البحر المتوسط وفي كلتا الحالتين لم يتم اعتراضهم من قبل الأسطول الخامس أو السادس الأمريكي. إذن عمليًا لم يعد الحديث الأن عن كسر احتكار الأمريكان للمتوسط بل بات الحديث عن التفوق البحري الروسي على نظيره الأمريكي، ولعل خبر سقوط طائرتين حربيتين كانتا متجهتين لضرب أهداف سورية من قاعدة انجرليك التركية في أغسطس 2013 على يد الروس وقد تم التعتيم الإعلامي على الحدث، هو ما دفع أوباما للتراجع عن ضرب سوريا فى حينها وخاصة بعد الوصول إلى تفاهمات روسية أمريكية لتفكيك الترسانة الكيميائية لسوريا. أيضًا نجح التدخل العسكري الروسي فى خطوة استباقية في إجهاض المخطط الأمريكي لحشد جيوش تنظيم القاعدة المرابطة فى المنطقة والدفع بها ناحية دول القوقاز من الحدود التركية لضرب موسكو فى خاصرتها الجنوبية في حرب باردة جديدة، ولذلك كان التصريح الأول لبوتين حينما دخلت قواته إلى سوريا أنه قادم للإجهاز على هؤلاء قبل أن يتراصوا له على الحدود الروسية. وعلى صعيد الحرب السورية فمثلما فعلتها مصر واستضافت مؤتمر الحوار السوري - السوري في القاهرة )2014 2015( بين الفرقاء السوريين وكشفت الغطاء السياسي الذي منحه الأمريكان لهؤلاء الإرهابيين كمعارضة معتدلة، أيضًا كشف التدخل العسكري الروسي النقاب عن هذه الجماعات، فهم ليسوا سوى مقاتلي جيش النُصرة التابع للقاعدة وميليشيا أحرار الشام وجيش الإسلام المتشدد بقايا مذبحة حماة عام 1982، وإن كل التيارات المعارضة السورية إما يعملون من الخارج إما انضموا فعليًا إلى هؤلاء الإرهابيين، إذ لا وجود لكيان يُدعى ائتلاف معارضة أو جيش حر فكلها مسميات أطلقوها لتستتر تحتها هذه الجماعات الإجرامية، وإن تنظيم داعش لا وجود حقيقيًا له في سوريا سوى في الرقة ودير الزور وليس بالقوة التي روجوا لها فهو مجرد عنوان أو يافطة كبيرة يدخل تحتها كافة اللاعبين . كما ذهب القيصر الجديد إلى ما هو أبعد حينما قام بضرب معاقل هذه التنظيمات الإرهابية ودمر معظم مخازن الأسلحة السرية لها، وقطع الطرق الرئيسية لخطوط الإمداد والتموين التي تأتيهم من تركيا والأردن في زمن قياسي، ليثبت للعالم بأسره أن قوات التحالف بقيادة أمريكا التي استمرت في قذف هذه التنظيمات الإرهابية في سوريا طيلة عام مضى لم تكن سوى سلسلة أجزاء من أفلام هوليوود العالمية، وبذلك بعد أن تمكن التحالف الثلاثي )قطرتركيا السعودية( من تنظيم صفوفه والتوحد بعد إعلان الاتفاق النووى الإيراني فى يوليو 2015 وتمكنت ميليشياتهم المقاتلة من السيطرة على العديد من المدن والبلدان السورية، قادت الآلة العسكرية الروسية الجيش العربي السورى لدحر هذه الجماعات الإرهابية واستعادة العديد من المدن الاستراتيجية من قبضتهم خاصة فى ريف دمشق وحلب وادلب الشمالية ، وهو ما أدى إلى التفوق العسكرى لسوريا في ميدان المعركة، وبالتالى فالانسحاب العسكري الجزئى من جانب الروس الآن لا يعني الكثير بالنسبة للتفوق السوري على الأرض وخاصة الدعم الروسي المقدم للترسانة العسكرية السورية بدبابات ومدافع ثقيلة من الطراز الحديث التي يمكنها من حزم المعارك المتبقية أمام هؤلاء الإرهابيين، ولا يزال الدعم الجوي الروسى من قاعدة حميميم السورية جاهزة لتغطية الجيش السوري جوًا إذا أقتدى الأمر، خاصةً بعد أن نجح الروس في تحديد إقامة أردوغان داخل حدوده والذى كان طامحاً فى فرض منطقة عازلة آمنة لإقامة دولة تركمانية تقطع جغرافيًا طموح إقامة دولة كردية في الشمال. الانسحاب الجزئى للروس من سوريا والذى لم يُعلن عن سقف زمني لانتهاء كامل الانسحاب «فى خدعة تكتيكية «من القيصر بوتين، تزامن مع تصريحات مستفزة لإبراهيم المعلم الذي أكد فيها أن بشار الأسد خط أحمر وهو ما ينسف عملية التفاوض الجارية برمتها بعد أن وافقت المملكة على مضض أن يكون بشار جزءًا من الحل في المرحلة الانتقالية وبات الاختلاف على توقيت وشكل رحيلة هل مع بداية المرحلة أم في المنتصف؟ الداهية بوتين أراد بقرار الانسحاب أن يحفظ ماء الوجه للطرف الأخر الذى سيجلس أمامه في مفاوضات جينيف3، فدبلوماسيًاً لا يصح أن تكون منتصراً في المعركة ثم تذهب لمائدة المفاوضات ولا تزال آلتك العسكرية مسلطة على من تتفاوض معه. أما المملكة فقد خرجت أيضا من هذا الانسحاب بمكسب سياسي بعد إدراج الجامعة العربية لجماعة حزب الله في لبنان كجماعة إرهابية وبذلك أصبحت الحكومة اللبنانية التى تمثل جماعة نصر الله عدد ثلث اعضائها على المحك، وهو ما يعني موت الجماعة اكلينيكيًا. أيضًا الانسحاب الروسي لا بد أن يقابله انسحاب إيراني من سوريا، وبالتأكيد يعد هذا نصرًا جديدًا في منظومة الصراع العربي الفارسي بالمنطقة، فإيران التي تؤمن وصول إمدادات السلاح إلى حسن نصر الله عبر الخط الواصل من دمشق إلى اللاذقية على الشريط الساحلي للمتوسط ومنه إلى لبنان أصبح وجودها في سوريا غير مرغوب فيه. إذن يمكن القول إن القيصر الروسي استطاع أن يُركع الجميع في سوريا ودق المسمار الأخير في نعش المصداقية الأمريكية، فى إعلان صريح لعالم لن يعود أحادي القطب بعد اليوم، وإن الجميع قد رضخ للموقف الروسي بالذهاب إلى الحلول السياسية على أن يكون بشار جزءًا من الحل، وإن المعركة القادمة هى معركة دبلوماسية تشهد اليوم شدًا وجذبًا داخل أروقة الأممالمتحدة على أسماء المعارضة المطروحة من قبل المملكة من جهة ومن المعارضة المقدمة من موسكووالقاهرة من جهة أخرى. وفي النهاية ستُفرض الحلول التوافقية على الجميع، فبنفس ديناميكية السلاح الروسي الذي تحدى احتكار حلف شمال الأطلسي لخيار التدخل العسكري في المنطقة أصبحت ديناميكية السياسة الروسية لها اليد العليا بعد أن تم استخدام السلاح الروسي كوسيلة لفرض السيطرة على الأجندة الدبلوماسية الدولية، وعلى الدولة المصرية الاستعداد لتسلم الملف السوري فهي الدولة الوحيدة التى لم تلوث أيديها بدماء الشعب السوري. كاتب جيوسياسي