لم يكن تمثال 'شامبليون' هو أول التماثيل المهينة علي مر العصور، ولن يكون آخرها.. لكنه الأكثر وقاحة، والأطول بقاءً، فضلاً عن كونه الوحيد في العالم الذي لم تنتفض له الدولة المساء لها ولشعبها لمدة شارفت علي القرن ونصف. فقد ثارت أزمة عنيفة بين مصر وتركيا عام 1872 بسبب تمثال إبراهيم باشا الذي قام ابنه الخديوي إسماعيل بإسناد صنعه إلي 'الكونت نيودركيك' ناظر مدرسة الفنون والصنائع بباريس، الذي كلف بدوره كل من 'شارل كوردييه' و'هنري جاكمار' بنحته.. وعند الانتهاء من التمثال نحت 'كوردييه' لوحتين مجسمتين لوضعهما علي جانبين متقابلين من الجوانب الأربعة لقاعدة التمثال الرخامية التي صممها المعماري الفرنسي 'بودري'.. وكانت هاتان اللوحتان تجسدان انتصارين ساحقين للجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا علي نظيره التركي، واحداً عام 1832 في معركة 'قونية'، والآخر عام 1839 في معركة 'نزيب'، مما اعتبره الأتراك إهانة لتاريخهم، وإذلالاً لكرامتهم مع أنه لا يصور إلا الحقيقة الموثقة بلا افتئات أو مغالاة.. وبالفعل تدخلت السلطات التركية بمنتهي الحزم لمنع وضع اللوحتين وكان لها ما أرادت، فأخذ 'كوردييه' لوحتيه إلي فرنسا حيث عرضهما عام 1900 في معرض باريس، وبعدها احتفظ بهما في بيته.. وفي 1948 أرادت مصر إعادة اللوحتين إلي مكانهما احتفالاً بذكري مرور مائة عام علي وفاة إبراهيم باشا، فقامت بمخاطبة فرنسا للبحث عن اللوحتين فلم يوجد لهما أي أثر، ولكنهم عثروا عند حفيد 'كوردييه' علي صورتين فوتوغرافيتين لهما، وهما اللتان استعان بهما المثالان المصريان 'أحمد عثمان'، و'منصور فرج' في نحت لوحتين مشابهتين للأصل، وهما اللوحتان الموضوعتان حتي اليوم علي جانبي قاعدة التمثال الموجود بميدان الأوبرا بوسط القاهرة. أزمة أخري وقعت بين قطر واليونان.. ففي عام 2013 قررت قطر إقامة معرض للآثار تحت عنوان 'الألعاب الأوليمبية: الماضي والحاضر' فطلبت من اليونان إعارتها تماثيل أثرية تتناسب مع الغرض، فرحبت السلطات اليونانية بذلك، وسارعت بإرسال أكثر من 700 قطعة أثرية من بينها العديد من التماثيل التي تبرز ملامح جنسية لرياضيين ذكور وهو أمراً مألوفاً لا سيما عند الإغريق، إلا أن القطريين اعتبروا اثنين فقط من بين التماثيل العارية يمثلان عملاً خادشاً لحياء القطريات، مما دفع المسئولين هناك إلي تغطية هذين التمثالين دون غيرهما برداء طويل!! وفي زيارة لوزير الثقافة اليوناني للمعرض فوجئ بالتمثالين المغطيين وطالب برفع تلك الأغطية، فرفض القطريون ذلك لعدم اتساقه مع العادات والتقاليد في بلادهم، فما كان من الوزير اليوناني إلا سحب التمثالين وارسالهما إلي أثينا.. انتصرت المبادئ عندما تمسك الجانبان بموقفيهما رغم احتياج كل منهما للآخر وخاصة اليونان التي تسعي لجذب الاستثمارات القطرية لمساعدتها علي الخروج من الأزمة المالية الطاحنة التي تكاد أن تعصف بها.. فكم من حكومات أقامت الدنيا انتصاراً لشعوبها في مواقف أبسط بكثير من قضية تمثال 'شامبليون' الذي يقف بحذائه علي كرامة المصريين منذ حوالي قرن ونصف!! [email protected]