ممدوح إسماعيل عميدًا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة    القومي للبحوث يعزز التعاون العربي في مجالات البحث والتطوير والابتكار    ترامب يطالب BBC بتعويض بقيمة مليار دولار على خلفية تحريف خطاب الكابيتول    ترامب يطالب مراقبي الحركة الجوية بالعودة للعمل بسبب حالات إلغاء الرحلات    الزمالك بين المطرقة والسندان: قضايا بالجملة وتهديد بملايين الدولارات    لجان الرقابة بوزارة الرياضة تصل لمحافظة كفر الشيخ    إحالة 10 أشخاص متهمين باستغلال الأطفال في أعمال التسول للمحاكمة    تهتك في الرئة وكسر بالجمجمة، تفاصيل التقرير الطبي للراحل إسماعيل الليثي (فيديو)    تفاصيل سقوط شابين أثناء هروبهما من قوة أمنية بالدقهلية    القاهرة السينمائي يعلن القائمة النهائية لبرنامج الكلاسيكيات المصرية المرممة بالدورة ال46    بيان كريم محمود عبد العزيز يبرئ دينا الشربينى من التسبب فى طلاقه: محدش كان سبب    أحمد التايب ل هنا ماسبيرو: مشاركتك الانتخابية تجسد إرادتك في بناء مستقبل أفضل لبلادك    فيديو.. سيد علي نقلا عن الفنان محمد صبحي: حالته الصحية تشهد تحسنا معقولا    «هنو» فى افتتاح مهرجان «فريج» بالدوحة    وكيل صحة القليوبية يتفقد مستشفى الحميات ويتابع تسليم مستشفى طوخ الجديدة    تبرع ثم استرداد.. القصة الكاملة وراء أموال هشام نصر في الزمالك    ضبط لحوم دواجن في حملة تموينية بشبرا الخيمة    ترامب يصدر عفوا عن شخصيات متهمة بالتورط في محاولة إلغاء نتائج انتخابات الرئاسة 2020    نقيب موسيقيي المنيا يكشف اللحظات الأخيرة من حياة المطرب الراحل إسماعيل الليثي    وزارة السياحة والآثار تُلزم المدارس والحجوزات المسبقة لزيارة المتحف المصري بالقاهرة    العراق يرفض تدخل إيران في الانتخابات البرلمانية ويؤكد سيادة قراره الداخلي    الأمم المتحدة: إسرائيل بدأت في السماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة    قريبًا.. الذكاء الصناعي يقتحم مجالات النقل واللوجستيات    المستشارة أمل عمار: المرأة الفلسطينية لم يُقهرها الجوع ولا الحصار    وزير الصحة يستقبل نظيره اللاتفي لتعزيز التعاون في مجالات الرعاية الصحية    وزير التموين: توافر السلع الأساسية بالأسواق وتكثيف الرقابة لضمان استقرار الأسعار    أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد وستارمر يبحثان الأوضاع في غزة    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    مدرب منتخب ناشئي اليد يكشف كواليس إنجاز المونديال: الجيل الجديد لا يعرف المستحيل    ابدأ من الصبح.. خطوات بسيطة لتحسين جودة النوم    طريقة عمل الكشرى المصرى.. حضري ألذ طبق علي طريقة المحلات الشعبي (المكونات والخطوات )    فيلم عائشة لا تستطيع الطيران يمثل مصر في المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش السينمائي    في أول زيارة ل«الشرع».. بدء مباحثات ترامب والرئيس السوري في واشنطن    نماذج ملهمة.. قصص نجاح تثري فعاليات الدائرة المستديرة للمشروع الوطني للقراءة    العمل تسلم 36 عقد توظيف للشباب في مجال الزراعة بالأردن    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    تأجيل محاكمة 23 متهمًا ب خلية اللجان النوعية بمدينة نصر لجلسة 26 يناير    انتخابات مجلس النواب 2025.. إقبال كثيف من الناخبين على اللجان الانتخابية بأبو سمبل    علاء إبراهيم: ناصر ماهر أتظلم بعدم الانضمام لمنتخب مصر    البنك المركزي: ارتفاع المعدل السنوي للتضخم الأساسي إلى 12.1% بنهاية أكتوبر 2025    الاتحاد الأفريقي يدعو لتحرك دولي عاجل بشأن تدهور الوضع الأمني في مالي    كشف هوية الصياد الغريق في حادث مركب بورسعيد    بعد 3 ساعات.. أهالي الشلاتين أمام اللجان للإدلاء بأصواتهم    بالصور| سيدات البحيرة تشارك في اليوم الأول من انتخابات مجلس النواب 2025    بث فيديو الاحتفال بالعيد القومي وذكرى المعركة الجوية بالمنصورة في جميع مدارس الدقهلية    وزير النقل التركي: نعمل على استعادة وتشغيل خطوط النقل الرورو بين مصر وتركيا    هبة عصام من الوادي الجديد: تجهيز كل لجان الاقتراع بالخدمات اللوجستية لضمان بيئة منظمة للناخبين    ماذا يحتاج منتخب مصر للناشئين للتأهل إلى الدور القادم من كأس العالم    حالة الطقس اليوم الاثنين 10-11-2025 وتوقعات درجات الحرارة في القاهرة والمحافظات    تأجيل محاكمة «المتهمان» بقتل تاجر ذهب برشيد لجلسة 16 ديسمبر    الرعاية الصحية: لدينا فرصة للاستفادة من 11 مليون وافد في توسيع التأمين الطبي الخاص    وزارة الصحة: تدريبات لتعزيز خدمات برنامج الشباك الواحد لمرضى الإدمان والفيروسات    جامعة قناة السويس تحصد 3 برونزيات في رفع الأثقال بمسابقة التضامن الإسلامي بالرياض    وزير الزراعة: بدء الموسم الشتوى وإجراءات مشددة لوصول الأسمدة لمستحقيها    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    شيكابالا عن خسارة السوبر: مشكلة الزمالك ليست الفلوس فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية العربية في زمن الربيع الخادع..
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 09 - 04 - 2015

الديمقراطية!.. تكاد هذه المفردة، لاسيما بعد أن صارت تطفو فوق سيول الدماء، تصبح من المقدسات، التي من المحرم علينا أن نخضعها إلي اختبار الشك، بل إنها أصبحت من المقدسات، لكنني مع ذلك سأسأل: هل الشرق الأوسط بحاجة إلي الديمقراطية الآن..؟
وإني أدرك، وأنا بكامل قواي العقلية، حجم الحماقة التي أرتكبها وأنا أطرح هذا السؤال، وأدرك حجم الأحكام الجاهزة التي سأُنعت بها، فهكذا دوماً كانت تواجه محاولات الاقتراب من المقدّسات..
لست أخفي علي القراء الكرام أن ما يؤرقني، وربما يؤرق عشرات الآلاف من أمثالي، يتبلور في خيبة الظن ب'الديمقراطية' التي بقينا طوال عقود نحلم بها وندعو إليها. المعضلة تتلخص في الكيفية التي ابتلعت بها أنماط التخلف والرجعية المشروع الديمقراطي، حتي صارت الديمقراطية شيئاً يستحق التعامل بحذر، بل وحتي بخوف!
إنها حال تخص عالم الشرق الأوسط المضطرب علي نحو خاص، فهي لا تنطبق علي الكتل البشرية الكبري كأوروبا أو الهند وباكستان، بيد أنها تنطبق علي العالم العربي الذي كما يبدو أنه قد ابتلع جرعة أكبر مما ينبغي من الديمقراطية، كي تفقد الجماهير توازنها ورؤيتها، وكي يفتح المشروع الديمقراطي الأغطية من علي ما كانت الشعوب في الشرق الأوسط تخفيه من أمراض متنوعة، ومنها سيادة روح القبلية والطائفية والنزوع إلي الثأر والانتقام وما خفي من نوازع الفساد وسرقة المال العام والعمل للصالح الخاص، للأسف.
والحق، فإن رصداً بسيطاً لما يجري اليوم في الشقيقة مصر وفي العراق وفيما يسمي بدول 'الربيع العربي'، تعسفاً، إنما يدل علي أن سابق الأوضاع اللا ديمقراطية كانت تلف تعقيداً شائكاً خطيراً بقي ينتظر 'صافرة الديمقراطية' كي ينطلق نحو الفوضي والعمي، أحياناً.
وبعكسه، كيف يمكن للمرء القادر علي قراءة التاريخ بوضوح، أي دون أن تشوه الدموع ناظريه ليري الحروف بوضوح علي ما فات من مآس وآلام وكفاح من أجل الحريات والديمقراطية، نقول كيف يمكن تفسير ما يجري في مصر الحبيبة من فوضي شارفت أشد المخاطر؟ وكيف يمكن أن نفسر ما جري ويجري في العراق؟ هل كانت الطاقات المتوحشة فقط في انتظار إعلان الديمقراطية كي تكسر الأغلال والسلاسل لتطلق ما تختزنه في دواخلها من عناصر الفوضي الشيطانية الحبيسة والمختزنة في الفانوس السحري؟
للمرء أن يتأمل بتأنِ ووضوح رؤيا، متسائلاً: أي من دولنا في الشرق الأوسط حققت الديمقراطية بالطرق الإعجازية 'أي بين ليلة وضحاها' عن طريق التمردات أو الاحتلال الأجنبي أو الارتزاق من الأجنبي؟ أقول أي من هذه الدول والشعوب الشرق أوسطية تحيا اليوم ديمقراطية حقة من النمط الذي يحياه البريطانيون أو الفرنسيون أو حتي الهنود؟
الجواب، بطبيعة الحال، هو، لا توجد أية ديمقراطية شرق أوسطية يمكن أن تقارن بالديمقراطيات الأوروبية الغربية أو الأمريكية أو حتي الآسيوية. وعلة ذلك تكمن في أن الديمقراطية تشترط مسبقاً التعامل مع الشعوب علي أساس المواطنة الحقة فقط، وليس علي أسس أخري، كالطبقة الاجتماعية، أو العائلة أو الانحدار القبلي، أو الطائفة أو الجنس!
بإمكاني الإتيان بمئات التصريحات لرؤساء وملوك ومسؤولين عرب، تمتدح الديمقراطية، وتجد فيها الحل الأهم لبناء الدولة الحديثة، وبإمكاني أيضاً الاستدلال بمئات الوقائع والأحداث التي تؤكد أن هؤلاء يتحدثون عن الديمقراطية عندما يجدون فائدة بين طياتها لنظام الحكم القائم في بلدانهم، إلا أن الأمور سرعان ما تنقلب رأساً علي عقب في أول خضة يتعرضون لها، والفرق يبرز هنا بين الحاكم والمحكوم، فالمحكوم كما يري أرسطو طاليس 'مدني بطبعه'، والحاكم الذي يتحدث باستمرار بالديمقراطية، تكتشف في نهاية المطاف أو منتصف الطريق، أنه من الحكام الذين قال عنهم العالم الاجتماعي 'د.علي الوردي' 'جميع السلاطين الذين يدعون إلي طاعتهم، وصلوا إلي الحكم عن طريق تحريك الفتنة وتفريق الكلمة'.
أما النموذج الآخر فيمكن وصفه بالحكام الذين أقنعوا شعوبهم، بأنهم يمارسون الابتزاز والسرقة والهيمنة ليجلبوا الثروات لهم، وهذا الأساس الذي تعتمده نظم الاستعمار القديم والحديث، وإلا كيف يقنعون ملايين الجنود والضباط للذهاب إلي دول وقارات تبعد عنهم آلاف الأميال، وهذا ينطبق علي التجارب الأسبانية والبرتغالية والرومانية والبريطانية والفرنسية وغيرها من التجارب الاستعمارية وفي العصر الحديث الأمريكية.
وإذا تحدثنا عن مئات الوقائع والأدلة التي يتباهي بها رؤساء ووزراء ومنظرون للديمقراطية، فلا نحتاج إلي الكثير من الجهد والعناء، فمجرد جمع بياناتهم وخطبهم، التي غالباً ما يتفاعل معها الجمهور 'المدني'، ويصفق لها بحماس، باعتبارها البوابة الأولي والأهم للتطور والتقدم والضمانة لحماية الناس من الانتهاكات التي قد تطول حقوقهم، وبدون أدني شك أن الوعي في هذه النقطة بالذات يؤدي دورا مؤثراً، وبسبب قناعة بعض النخب بعدم وجود أرضية حقيقية لكل الوعود والكلام الذي يصفق له الناس، فإن التشكيك الذي قد يرقي إلي درجة عدم القناعة أسس ل'المعارضة' ذات التوجه الثقافي والفكري، وهو الأكثر تأثيراً علي المدي البعيد من كل المعارضات السياسية ذات النزعة المصلحية، التي تبني معارضتها بغرض الوصول إلي الحكم، وليس هناك هدف يتعلق ببناء الدول الحديثة، بما فيها احترام الإنسان.
ونأتي علي الوقائع والأحداث التي تدلل علي أن الديمقراطية ليست بأكثر من رداء يتحدث به الحكام عندما يكون مناسباً للفصل الذي يعيشون، فإذا كان شتاء فإنه يكون سميكاً، وإذا كان صيفاً فهو الفضفاض الطري. وأعتقد بأن أكثر دولة تحدثت في خطابها الجمعي عن الديمقراطية خلال العقود الماضية هي الولايات المتحدة، فظهرت الأدبيات السياسية التي تبرز أهمية الديمقراطية في بناء الأمم والمجتمعات، ووظفت مؤسسة إعلامية عملاقة هي 'هوليوود' للإنتاج السينمائي لتسويق النموذج الأمريكي في الديمقراطية، وزرعت قناعات واسعة لدي الرأي العام العالمي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان..
وإذا أردنا أن نوسع دائرة الأمثلة التي تؤكد كذب الديمقراطية في الممارسة وأنها تحتل الواجهة في الشعارات فقط، فإن دول أوروبا قد سارعت إلي خلع لباس الديمقراطية التي طالما تباهت به بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ووضعت جميع العرب والمسلمين في قائمة المجرمين والقتلة، وشمل ذلك بطبيعة الحال الحاصلين علي جنسية تلك الدول، وقد يكون أولادهم لا يتكلمون حتي لغة بلدانهم، فتم إطلاق أجهزة المخابرات في كل الدول الأوروبية وأمريكا وكندا والدول العاملة في دائرة استخباراتهم للتعاون فيما بينها لمضايقة الجاليات العربية والمسلمة، كما أن ذلك لا يستثني المسيحيين الوافدين من الدول العربية والإسلامية.
إن ما يؤلم هنا ليس فقط ما حلّ بالعراق، وفلسطين وليبيا وتونس واليمن وسورية علي سبيل المثال، ولكن ما نقرؤه يومياً من قصص مضللة تقلب حقيقة ما حدث فتحول الضحية إلي قاتل، والقاتل إلي ‹›ديمقراطي›› ساع إلي حياة أفضل لهؤلاء الذين يدمر حياتهم ومستقبل أوطانهم وأطفالهم!
المشكلة اليوم هي أن لغتنا وقيمنا وأفكارنا قد أصبحت أداة بيد الآخر للتعبير عنا نحن العرب، وعما يرتكبه ضدها في ديارنا، بينما نجلس نحن متفرجين متلقين لأخبارنا منه، ومطلعين علي عذاباتنا من وجهة نظره، وعلي قيمنا من خلال رؤيته المليئة بالكراهية العنصرية لها. والخطورة هنا، هي أن نستمر في هذا الوضع السلبي إلي حد الاضمحلال، وإلي أن لا يبقي شيء منا يشير إلي حقيقة واقعنا، بل تبقي القصة التي كتبها الغزاة عنا، وتندثر قصصنا نحن العرب تحت وطأة الإنتاج الفني، واللغوي، والسياسي، الذي تنتجه الجهات المدججة بالكراهية ضد المسلمين، التي تروّج نفسها بأنها ‹›ديمقراطية›› وقادمة لتحرير الشعوب من ربقة التخلف والاستبداد!
فبالإضافة إلي وصف كلّ ما يجري أمام أعيننا بلغة كاذبة لا تمتّ إلي الحقيقة بصلة، يعمد المستعمرون اليوم إلي توجيه ضربة قاسية للغتنا وثقافتنا وكل ما نعتز به من إرثنا بدعوي الحداثة والتحضّر وغسل أدمغة البعض من أبناء جلدتنا ليتحولوا إلي جلادين للذات ومروجين للكراهية الغربية ضد العرب.
من جهة أخري، يبدو التوجه الاقتصادي للحكومات الجديدة لدول الربيع العربي، نسخة طبق الأصل عن سابقاتها في تقديس النيوليبراليية، والارتهان لصندوق النقد الدولي، وهو ما وجد فيه الغرب فرصة أخري لاستمرار عملية النهب المنظم، وإن كان اليوم يتستر بستار القروض وإعادة الإعمار، ما يعني استمرار، بل وزيادة، ارتباط الاقتصاد الوطني للخارج سواء كان عربياً أم أجنبياً، الأمر الذي يمنع بدوره قيام ديمقراطية حقيقية، حيث لا ولن يسمح الغرب بها في دول تابعة، كي لا يخرج حاكم منتخب بحق، ليطالب بثرواته الوطنية وحقه في اختيار الطريق الاقتصادي المناسب، بعيداً عن وصفات الخراب العالمية، كما لن يسمح المال الخليجي بذلك لأسبابه الوجودية المعروفة، وبالنتيجة لا ديمقراطية حقيقية دون استقلال اقتصادي ناجز، والعكس صحيح أيضاً.
فلا السوق السياسية المنفتحة والقادرة علي المنافسة هي الديمقراطية، ولا اقتصاد السوق يشكل في حد ذاته مجتمعاً صناعياً، بل إن في وسعنا القول، في الحالتين، إن النظام المنفتح سياسياً واقتصادياً شرط ضروري من شروط الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، لكنه غير كاف.
صحيح أن لا وجود لديمقراطية من دون حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، ومن دون تعددية سياسية، ومن دون حرية تعبير، لكننا لا نستطيع الكلام عن ديمقراطية إذا كان الناخبون لا يملكون إلا الاختيار بين جناحين من أجنحة الأوليغارشية أو الجيش و/أو جهاز الدولة، لأن العولمة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تتساهل تجاه انضمام دول مختلفة لاقتصاد السوق، منها دول تسلطية، ومنها دول ذات أنظمة تسلطية آخذة بالتفكك، ومنها دول ذات أنظمة تمكن تسميتها ديمقراطية، أي أن المحكومين فيها يختارون بملء إرادتهم وحريتهم من يمثلهم من الحاكمين.
وهنا أحاول الربط بين الغياب السياسي التام للدول العربية علي المستوي الدولي، إلا حين تحتاجهم متطلبات العلاقات العامة الأمريكية، وبين التغييب الرسمي المتعمد للغة والتراث والثقافة..
فإذا لم يكن الإنسان نتاج لغته وثقافته ومكونات حضارته فماذا يكون..؟!
وإذا لم تكن الديمقراطية تهدف إلي رفع مستوي حياة الإنسان وإسعاده والارتقاء بكلّ أوجه حياته فماذا تكون..؟
إن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يترسخ في العالم العربي، إلا إذا قام المجتمع المدني بدوره الفاعل في عملية التحول، وهذا يتطلب من الحكومات العربية، أن تتخذ خطوات جادة لجهة إعطاء تكوينات ومنظمات المجتمع المدني الضمانات الدستورية والقانونية لكي تعمل بحرية وفعالية، ويمكن أن يتحقق ذلك كله من خلال فتح قنوات الحوار المباشر والمنظم، وبناء جسور الثقة والاحترام المتبادل، بيد أن التفاوض بشأن هذه الحقوق لا يعتمد فقط علي مدي قبول من يمتلكون السلطة، ولكنه يعتمد كذلك علي ضرورة تقوية التنظيمات الشعبية والاتحادات المهنية، لتمارس ضغوطاً قوية علي النظام القائم من أجل تأمين حقوقها في حرية التعبير والتنظيم.
يشكل هذا الشرط الأساسي الآنف الذكر منظومة متكاملة ملزمة وضرورية لخلق نظام ديمقراطي جديد، إذ يمكن تدعيم ذلك النظام في ظل ثقافة سياسية ديمقراطية ومدنية تعم المجتمع، كما يمكن تكريسه قانونياً من خلال إقرار دستور ديمقراطي عصري ينص تفصيلاً علي العناصر السابقة وآليات تحقيقها في الممارسة السياسية.
ومن الضروري التأكيد علي أنه لا توجد وصفة سحرية جاهزة لنجاح عملية التحول الديمقراطي، لكن بالنسبة لتجربة دول الربيع العربي التي تعيش مرحلة الانتقال نحو بناء نظام ديمقراطي جديد، من المفيد جدّاً استلهام العديد من الدروس التي يمكن تعلمها عربياً من تجارب الانتقال الناجحة علي الصعيد العالمي، وقد تمثلت أهم شروط ومقومات النجاح في: الحفاظ علي الوحدة الوطنية وترسيخها ما يحول دون حدوث انقسامات وصراعات داخلية خلال مرحلة الانتقال، ولاسيما نبذ ومحاربة العنف السياسي، وحسن تصميم المرحلة الانتقالية وإدارتها من خلال التوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسين علي خريطة طريق واضحة لتأسيس نظام ديمقراطي.
بما يعنيه ذلك من التوافق علي صيغة النظام السياسي المستهدف، ومراحل الانتقال، والترتيبات المؤسسية والإجرائية الأكثر ملاءمة لظروف وخصوصيات الدولة والمجتمع، منعاً لإعادة إنتاج الاستبداد، أو إعادة استبدال ديكتاتورية سابقة بديكتاتورية دينية جديدة.
ومن الشروط الناجحة أيضا لتحقيق عملية التحول الديمقراطي الراسخة: إصلاح أجهزة الدولة ومؤسساتها 'ولاسيما الأمنية منها' علي النحو الذي يعزز قدرتها علي القيام بوظائفها وبخاصة فيما يتعلق باحتكار حق الاستخدام المشروع للعنف والسلاح، وتقديم السلع والخدمات العامة للمواطنين، وتحقيق العدالة الانتقالية، فضلا عن تدعيم دور المجتمع المدني، وتعزيز الطلب المجتمعي علي الديمقراطية ونشر ثقافتها في المجتمع.
فلا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، وإعادة صياغة العلاقات بين الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني مع المؤسسة الأمنية، والمؤسسة العسكرية، بما يتفق وأسس النظام الديمقراطي الجديد القائمة علي وجود أمن وجيش وطني، يعملان من أجل إعلاء قيم الوطن، علي أن يتم ذلك بشكل تدريجي ومن خلال التفاوض وإجراءات بناء الثقة بين المدنيين، والشرطة، والعسكريين.
ولذلك فإن عملية تطوير النظام الديمقراطي الجديد في دول الربيع العربي، يجب أن تكون عملية مستمرة حتي يقترب أكثر وأكثر من الأنموذج المثالي للديمقراطية الذي يجسد القيم والمثل العليا للديمقراطية، وتتطابق فيه النظرية مع التطبيق.
والحال هذه بات علي مثقفي العالم العربي القيام بالمراجعة النقدية لفكرة الديمقراطية الغربية، وإسقاط صبغة القداسة عنها، وإذا كانت الديمقراطية شكلت لحظة إبداع في المشروع التنويري الغربي، ودشنت فتحاً معرفياً وفكرياً مهماً في تاريخ البشرية، فإن الديمقراطية بوصفها قيمة أخلاقية إنسانية متحركة تظل خاضعة لنسبيات شتي كالتاريخ واللغة والدين والزمان والمكان/ من هنا يأتي رفض العديد من الباحثين العرب للنمط الأحادي الذي تريد الديمقراطية الغربية فرضه علي بقية العالم المختلف في ثقافاته وحضاراته عن العالم الغربي.
وأخيراً وليس آخر، من المهم أن يتم تعزيز الديمقراطية في الوطن العربي وتكريس المزيد من الحريات بأسلوب بعيد عن التصادم بين أطياف المجتمع، بحيث يتم التأكد من رسوخ المفاهيم الديمقراطية وضمان عدم الانقلاب عليها وتشويها من قبل أي طرف قد يستطيع، في غفلة من الزمن، كسب الانتخابات بطريقة ما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.