عندما يجدد المجتمع نفسه. تجدد الدولة نفسها، فتجعل الجميع يشعرون بانهم جزء من المجتمع والسلطة. واذا لم يحدث ذلك.. سوف ينطبق علينا المثل الفرنسي القائل: »كلما تغيرت الأحوال، بقيت الأمور علي حالها«! وثمة مخاوف مشروعة، مع انتقال الثورة من دولة عربية الي دولة عربية أخري، من محاولات اختطاف الثورات وسرقتها. لقد سقط مبدأ »تغيير أنظمة الحكم من الخارج«! وسقطت مقولة ان للديكتاتورية »جذوراً عميقة في تربيتنا وثقافتنا وتاريخنا« وانهارت نظريات بعض المثقفين الذين اعتبروا الطغاة.. »قدر الأمة«، وان تصحير المجتمعات واحتكار السياسة واقصاء النخب وتدمير الطبقات وتحويل المؤسسات الي ملكية خاصة للمستبدين والانكشارية من عبيد الأجهزة والي بؤر للفساد والإفساد. جزء لا يتجزأ من نمط الحياة في المجتمعات العربية، وأسقط في أيدي هؤلاء الذين توهموا ان الديمقراطية من الأفكار الوافدة، وأن الحكم الدستوري لا يتفق مع »تقاليدنا«»!« وان شخصية العربي مشدودة الي الماضي، مما يجعل افكارا مثل حقوق الانسان والمجتمع المدني وحكم الشعب مستوردة من خارج التاريخ العربي، ولا مكان لها في هذه المنطقة أو في التربة العربية!! كما لو كان العالم العربي يستعصي علي التحول والتطور والنهوض. وهناك من استعاد من الكتب القديمة عبارات نصف الجماهير ب»السفلة«، و»الهمج والرعاع«، و»لا عقل لهم«، وانهم »بأيديهم يذبحون انفسهم بسبب الخوف الناشيء عن الجهل والغباوة«!.. والحقيقة ان المشرق والمغرب عرفا وشهدا ثورات وانتفاضات شعبية باسلة منذ القرن التاسع عشر سقط خلالها عدد كبير من الشهداء.. فلم تكن العبودية أمرا مقبولا في تراثنا، ولم يكن الذل والامتهان جزءا من الثقافة العربية. والصحيح ان الاستعمار الاجنبي والطائفية المحلية لعبا دور الإعاقة للتطور الديمقراطي وبناء المواطنة. وبطبيعة الحال، فان اتباع الاستعمار في الداخل ساهموا بقسط كبير في تعطيل التطور الديمقراطي وإقامة الدولة المدنية الحديثة. أما الآن.. فان محاولة سد الطريق أمام الديمقراطية محكوم عليها بالفشل بعد ان اصبح سكان المدن العربية يشكلون حوالي ثلثي العالم العربي، وأصبح الشباب ممن هم دون الثلاثين.. يمثلون ما بين 75٪ و76٪ من هؤلاء، بل ان العالم العربي اصبح في صميم الثورة الاعلامية المعاصرة، وخاصة بعد ان تجاوز عدد الطلاب الجامعين في مطلع القرن الحالي اربعة ملايين. هل يمكن -في ظل هذه المتغيرات- الرضوخ لسلطات استبدادية أصابها التكلس وتحولت الي عصابات مافياوية ترفض التغيير وتداول السلطة، وعاجزة عن الاجابة علي التحديات التي يطرحها الحاضر والمستقبل؟ وكما سقطت »النظريات« التي تروج لفكرة الاستكانة الأبدية، من جانب الجماهير، للاستبداد.. تحطمت الصورة التي كانت تقدمها اسرائيل للعالم عن نفسها باعتبارها »الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط«! بل لقد انكشف، علي نحو صارخ، ان اسرائيل ليست سوي دولة عصابات ومافيات دينية متطرفة وعنصرية وفاشية.. وكما تريد اسرائيل ان تقيم دولتها الدينية العنصرية الفاشية. فانها تتمني ان يفعل العرب مثلها ويقيموا دولهم الدينية الطائفية لكي يتحول الصراع في المنطقة الي صراع ديني تستعد لادارته علي أساس ان العرب متعصبون يكرهون اليهود باعتبارهم يهودا. وهذا كل ما في الأمر! وكما ساند الامريكيون طوال السنوات الماضية الانظمة الديكتاتورية في مناطق عديدة -منها العالم العربي- فانهم الآن لا يمانعون في ان يتولي حزبا دينيا يروج للطائفية الحكم في هذا البلد العربي أو ذاك.. والعراق شاهد علي ما انتهت اليه الأمور في ظل الاحتلال الامريكي.. وهناك في الغرب من يفكرون علي النحو التالي: اذا كان المستبدون قد فشلوا في الاستعانة بالطائفية الدينية لاضعاف وتمزيق الأمة.. فان الطائفيين انفسهم قد يفلحون فيما فشل فيه الطغاة السياسيون وربما يضمن لهم النجاح كونهم تعرضوا للاضطهاد علي أيدي طغاة سابقين. ذلك ان اعداء مصر والعرب يدركون ان الأمن القومي المصري والعربي سيتعرض لخطر الانهيار اذا تمزقت الوحدة الوطنية داخل كل بلد عربي علي حدة، وخاصة ان المسيحيين العرب حملوا لواء التحرر العربي منذ القرن التاسع عشر، واسهموا فكريا وعلميا وتربويا - وبالعمل المباشر - في السعي الي تحرير الانسان العربي، جنبا الي جنب مع المسلمين، وكانوا حاضرين في كل الثورات العربية ضد الاستعمار أو الانتداب الغربي وضد الاحتلال الاسرائيلي والامريكي.. ابعاد الشأن السياسي عن الشأن الطائفي يقطع الطريق علي تفجير الفتنة الداخلية والانقسامات التي تولد الصراعات بين ابناء الوطن الواحد. ويجب النظر الي كل محاولة لتمزيق النسيج الواحد للأمة.. علي أنها مساهمة كبري في خدمة اسرائيل واعداء الأمة العربية. ومن هنا، فانه لا مجال للمفاضلة بين الدولة الديكتاتورية -حيث تنعدم الحرية- والدولة الدينية الطائفية.. حيث تنعدم الحرية ايضا. كما ان التلاعب بالالفاظ ليس سوي مضيعة للوقت. فلا معني للدولة المدنية بدون الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية واستقلالية هاتين السلطتين عن بعضهما بحيث تحترم كل منهما مجال ونطاق الأخري، فلا تفرض السلطة السياسية علي المؤسسات الدينية ما يخالف عقائدها، ولا تمارس السلطات الدينية وصاية علي المجتمع والدولة والناس.. وموقفنا من الدولة يتحدد علي أساس مدي احترامها لحرية المواطن وحقوقه وكرامته، وعلي أساس المعايير التي تعتمدها في ممارسة الحكم واحترامها للتنوع الديني والثقافي والعرقي، بحيث يمارس كل مواطن حريته وفقا لقناعاته، وبما لا يمس حقوق شركائه في الوطن الواحد في ظل قوانين مدنية ترعي العلاقات بين المواطنين جميعا. كلمة السر التي تفتح آفاق الديمقراطية الحقة والتقدم.. هي الدولة المدنية.. وبدون الايضاحات السابقة.. تصبح هذه الدولة مجرد شعار بلا مضمون. ولفظ مدعي يستوجب ثقافة متكاملة تقوم علي أسس الحداثة، وأهمها المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين، وخاصة بين الرجل والمرأة. تصحيح ورد في مقال الكاتب الكبير يسري الجندي يوم الجمعة الماضي بطريق الخطأ عبارة: »لم لا يرفع عنا وصايته المرفوضة« والصحيح هو »لم لا يرفع عنا الفقيه الكبير وصايته المرفوضة«.