قبول دفعة جديدة من الأطباء البشريين الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للعمل كضباط مكلفين بالقوات المسلحة    تنسيق الجامعات.. تفاصيل الدراسة ببرنامج الهندسة الإنشائية ب"هندسة حلوان"    حفل جماهيري حاشد بالشرقية لدعم مرشح حزب الجبهة بالشرقية    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    انتخابات مجلس الشيوخ.. الآليات والضوابط المنظمة لتصويت المصريين فى الخارج    "الزراعة" تنفيذ 286 ندوة إرشادية والتعامل مع 5300 شكوى للمزارعين    وزارة التموين تنتهى من صرف مقررات شهر يوليو 2025 للبقالين    ميناء سفاجا ركيزة أساسية في الممر التجاري الإقليمي الجديد    عبدالغفار التحول الرقمي ركيزة أساسية لتطوير المنظومة الصحية    وزير الإسكان يُصدر قرارًا بإزالة 89 حالة تعد ومخالفة بناء بمدينة الشروق    إدارة الطوارئ في ولاية هاواي الأمريكية: إغلاق جميع المواني التجارية بسبب تسونامي    1000 طن مساعدات غذائية إلى غزة في اليوم الرابع لقوافل «زاد العزة»    محمد السادس: مستعدون لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    تحليل جديد: رسوم ترامب الجمركية سترفع نفقات المصانع الأمريكية بنسبة 4.5%    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    لم نؤلف اللائحة.. ثروت سويلم يرد على انتقاد عضو الزمالك    إصابة طفل نتيجة هجوم كلب في مدينة الشيخ زايد    انخفاض تدريجي في الحرارة.. والأرصاد تحذر من شبورة ورياح نشطة    جدول امتحانات الشهادة الإعداية 2025 الدور الثاني في محافظة البحيرة    البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب «جنوب شرق الحمد»    التصريح بدفن جثة طفل لقى مصرعه غرقا بإحدى الترع بمركز سوهاج    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    فقد الوعي بشكل جزئي، آخر تطورات الحالة الصحية للفنان لطفي لبيب    عزاء شقيق المخرج خالد جلال في الحامدية الشاذلية اليوم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    قافلة طبية توقع الكشف على 1586 مواطنا في "المستعمرة الشرقية" بالدقهلية (صور)    محافظ الدقهلية:1586 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية المستعمرة الشرقية بلقاس    فتح باب التقدم لاختبارات الدبلومات والمعاهد الفنية للقبول بكلية الهندسة    توقعات الأبراج وحظك اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025.. انفراجة مالية قوية تنتظر هذا البرج    السيد أمين شلبي يقدم «كبسولة فكرية» في الأدب والسياسة    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    البنك العربى الإفريقى يقود إصدار سندات توريق ب 4.7 مليار جنيه ل«تساهيل»    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    الخارجية الباكستانية تعلن عن مساعدات إنسانية طارئة لقطاع غزة    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    نبيل الكوكي يقيم مأدبة عشاء للاعبى وأفراد بعثة المصرى بمعسكر تونس    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    وزير الخارجية يتوجه إلى واشنطن في زيارة ثنائية    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. موعد الانطلاق والمؤشرات الأولية المتوقعة للقبول    التفاصيل الكاملة لسيدة تدعي أنها "ابنة مبارك" واتهمت مشاهير بجرائم خطيرة    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الآفاق المصيرية للثورة المصرية (3/7) .. انفطارُ القَلْبِ وسَلْبُ السَّلْب
نشر في المصري اليوم يوم 09 - 03 - 2011

فى مقالة الأربعاء الماضى، طرحتُ هنا فكرةً بديهيةً مفادها أن السيول والثورات، كلتيهما، لا يجب أن تمتدَّ إلى الأبد على نسقٍ واحد. وكلتاهما تكون خيراً للبلاد والعباد، إذا شُقَّ مجراها وانتظم تدفُّقها. وكلتاهما تكون شراً إذا تفرَّقت فى الأرض بَدداً، على غير نظام.. وأشرتُ أيضاً إلى أن شعار الثورة المصرية (الشعب يريد إسقاط النظام) لا يعنى أن الشعب يريد شيوع الفوضى! ولذلك، فإن هؤلاء المتظاهرين للأبد، سواء كانوا صادقين أو مخادعين، إنما يبغونها عِوَجاً .. لأنهم إما غير مدركين لطبيعة الانتقالات القويمة للحالات الثورية (الظلم، الاحتقان، التظاهر، الانفجار، التغيير.. إلخ) أو غير حريصين على نجاح الثورة المصرية فى تحقيق أهدافها، بالخروج من مأزق الماضى ومظالمه الكثيرة، إلى أفقٍ مستقبلىٍّ واعدٍ.
ولدينا اليوم نقطتان تتعلقان بالآفاق المصيرية، المرجوَّة، للثورة المصرية. الأولى منهما هى حالة «انفطار القلب» الحالية، والنقطةُ الأخرى هى مبدأ «سَلْب السَّلْب» الذى سيأتى بعد قليل بيانُه، ويتضح مرادى منه.
■ ■ ■
لا يختلف أحدٌ حول نجاح الثورة المصرية التى أبهرت العالم، وما زلنا نعيش فى ظلالها منذ اليوم الخامس والعشرين من يناير.. لكن هناك اختلافاً يدور مؤخراً حول (درجة) هذا النجاح وتأثيره، فالبعضُ يعتقد أن الثورة ما دامت قد نجحت، فالواجب أن تتعدَّل الأحوال دفعةً، وتنصلح الأمور فوراً. فإذا لم يحدث بسرعةٍ ما يحبُّون، انفطرت قلوبهم حزناً، وبدا عليهم الجزع المتمثِّل فى الأيام الأخيرة بعباراتٍ من مثل: الخوف على مصير الثورة، القلق من الثورة المضادة، الحذر من عودة النظام السابق، الرعب من البلطجية والطلقاء من رموز الفساد.. وغير ذلك.
ولا شك عندى فى أن هذه «المخاوف» مشروعةٌ، بل واجبةٌ، ولكن بالقدر الذى يضمن امتداد الثورة وتطورها، ويعكس غاية الناس بنجاح ثورتهم. أما المبالغة والإمعان فى الخوف والقلق والحذر والرعب، وإطلاق العنان لهذه المشاعر بغير حدود، حتى تؤدى إلى حالةٍ عامة تنفطر معها القلوبُ جميعها، ويخيِّم الأسى على الناس فيفقدون «الأمل الفسيح» فى المستقبل، فهذا ما لا يمكن أن يكون مشروعاً أو واجباً. وبالمناسبة، فقد استعملتُ تعبير «الأمل الفسيح» تحديداً، لأنه بحسب الفقيه السياسى المشهور (الماوردى) صاحب كتاب (الأحكام السلطانية) هو أحد الشروط الخمسة لقيام الدولة: الإقليمُ، الشعبُ، السلطانُ الحاكم، الأمنُ المستتب، الأملُ الفسيح.
وهناك عديدٌ من العوامل الدافعة والمهيِّجة لحالة (انفطار القلب)، التى تغمر اليوم كثيرين من المصريين. وأهمها، فيما أرى، بقاءُ بعض الأفراد الفاسدين من الجماعة المسماة «أذيال النظام الفاسد» وبالتالى، وجود فزعٍ عند الناس من عودتهم، وجزعٍ من كونهم طلقاء.. وهو الأمر الذى يزيده سوءاً، ويهوِّله فى أذهان الناس، إمعانُ البعض فى التعبير عن هواجسه. فضلاً عن إطلاق الشائعات، والتلذُّذ بتداولها ونشرها. والمثال الأوضح على ذلك، ما جرى فى نهاية الشهر الماضى، قبل ساعات قليلة من إعلان التحفظ على أموال الرئيس السابق «مبارك» وحظر سفره خارج البلاد. إذ ذاع فى الليلة السابقة على نشر الخبر فى الجرائد، خبرٌ مريعٌ منقول من مفكرٍ وصحفىٍّ معروف لدى الناس، وعندهم مقبول، يقول ما ملخَّصه أن الرئيس مبارك لا يزال يحكمُ مصر من «شرم الشيخ» ويتحكَّم فى الحكومة القائمة، بالتنسيق مع الجيش.
وانفطر قلبُ الناس فى مصر، ليلتها، حتى جاءت الجرائد مع الصباح، وعلى صفحتها الأولى أخبارُ التحفُّظ والحظر على الرئيس السابق. وإذا علمنا أن الجرائد تُطبع فى ظهيرة اليوم السابق على توزيعها، أدركنا أن القرارات القانونية الخاصة بالتحفظ والحظر، كانت قد صدرت من قبل صدور شائعة «شرم الشيخ» وانتشارها السريع.. فضلاً عن أن إصدار القرارات والأحكام القانونية، تلزمه فترةُ إعدادٍ وتسويغ للحكم أو للقرار.
إذن، لم يكن هناك داعٍ لإشاعة المخاوف بين الناس، وتخويفهم بأمور تنفطر معها القلوبُ حُزناً وأسىً. ولا عبرة هنا بقَوْل بعضهم، إن علينا «الانتباه» وتعلية «سقف» المطالب، حفاظاً على مكاسب الثورة، واتقاءً للتقهقر إلى الخلف مرةً أخرى.. ولهذا القائل نقول: أما «الانتباه» فهو واجبٌ، ولكن «العمل» أوجب وأكثر أهمية. ولا عمل (حقيقى) إلا بالطمأنينة العامة، التى تتمثل فى استقرار الأمن والثقة فى الاستقرار والأمل فى الغد. وأما اتقاءُ التقهقر برفع سقف المطالب، بغير توقُّف، فهو إنهاكٌ لا طائل تحته. لأن الأنظمة التى قامت فى عشرات السنين، مهما كان فسادها، لا يمكن أن تمحوها عشرات الساعات والأيام. وقد سقطت رؤوس الفساد، ولايزال سقوطها يتتالى كل يوم، ولسوف تُقطع من بعد ذلك الذيول، فيتلاشى شبحُ النظام السابق (تدريجياً) لأنه ببساطة، لم يعد مقبولاً ولا مناسباً للزمن الآتى.. ومن الطبيعى، والمنطقى، أن يجاهد النسق السياسى السابق (الفاسد) من أجل البقاء، مثلما تجاهد اليوم الأنظمة الديكتاتورية العربية للبقاء لأطول فترة ممكنة. لكن هذه الأنظمة والأنساق الفاسدة، مقضِىٌّ عليها لا محالة، وما موعد سقوطها التام واختفائها، إلا مسألة وقت.
■ ■ ■
ومن الأمور الداعية لانفطار القلوب وشيوع القلق، هيجان تلك الطائفة العارمة من المستثمرين للأبد (بالمعنيين المباشر والمجازى للاستثمار)، وهم المتاجرون بكل فرصة تسنح لهم، مهما كانت الخسائر التى قد تلحق بغيرهم. بل إنهم لا يتورعون عن المتاجرة بأعراض الناس، من أجل أهدافهم الاستثمارية. وعلى الرغم من أن النظام السابق سقط رأسه (مبارك) ونائب رئيسه (سليمان) ورئيس وزرائه (شفيق) ورأس العَسَس (العادلى) والبقية تتوالى.. فإن الزاعقين من (المستثمرين) يصخبون فى وسائل الإعلام متشنِّجين ومتَّهِمين كل مسؤول سابق بأنه كان فاسداً، أو بالتعبير العامى، الذى صار صفةً جارية على الألسنة (فلان موش كويس).. ولا شك فى أن حالة الغيوم العامة، والضبابية التامة، تناسب «القِلَّة» من هؤلاء المستثمرين للأبد، الزاعقين إلى الأبد، المنافقين إلى الأبد. ولذلك نراهم يحرصون على إبقاء التوتر، بالمبالغة فى إطلاق الشائعات وتجريح الجميع، مع المسارعة إلى جنى (ثمار الثورة) من قبل أن يحين موعد الحصاد، بل من قبل أن تنبت البذور التى أودعتها الثورة المصرية فى تربة هذا الوطن.
ومن المستثمرين للأبد، طائفةٌ تتصدر وسائل الإعلام لتصادر على جميع (الحلول) وإن كانت مؤقتة أو واجبة بسبب ظروف مُلِحَّة وعاجلة. ومنهم طائفةٌ أخرى سارعت إلى اللحاق بركب الثورة بعدما لاحت فى الأفق معالم نجاحها، أمَلاً فى الحصول على «أدوار» فى الفترة المقبلة، وتقديم أنفسهم للواقع العام باعتبارهم الشهداء المنسيين أو الجنود المجهولين. ومنهم طائفةٌ همَّت أثناء انشغال البلاد والعباد، بتعلية «أدوار» مخالفة فوق رؤوس البيوت والعمارات، وبالبناء المخالف فوق الرقعة الزراعية (ولا أعرف سبباً للتأخير فى إصدار الأمر العسكرى بتجريم هؤلاء واعتقالهم) ومنهم طائفة تافهة القدر تسعى اليوم لاستغلال الفراغ الأمنى، التام والجزئى، فى الأنحاء التى يضمنون فيها الفرار بأفعالهم.
على أن ظهور هذه الطوائف، فى هذه المرحلة التى تمرُّ بها البلاد، هو أمرٌ معتاد فى مثل هذه الظروف. غير أن أمرهم، بالقطع، سوف يؤول إلى الزوال مع زوال حالة «الاضطراب» الحالية، ومع انتباه الجموع إليهم وعدم الإفراط فى الرهبة منهم.. بالإضافة إلى «عاملٍ» مهم، ومؤثر، لا بد وأن يشيع فى نفوس الشعب ويُطمئن نفوسهم ولو بقدرٍ قليل. وهذا «العامل» هو ثقةُ المصريين فى مستقبل بلدهم، وإيمانهم بأنهم هم الذين يصنعون هذا المستقبل، بعيداً عن التوهمات المصرية المفرطة التى طالما أشرت إليها، ومنها القول بأن «مصر مستهدفة» أو بأن «مصر محروسة» .. وأقول للمرة الألف، لا هى مستهدفة ولا محروسة إلا بالقدر الذى نحرسها به، ونُحبط خطط استهدافها.
■ ■ ■
ومبدأ «سَلْبِ السَّلْب» الذى ذكرتُ سابقاً أنه واحدٌ من ملامح الفلسفة الماركسية، التى لا أحبها ولكنى أحترمها، هو من المبادئ التى يجب أن نضعها نصب أعيننا فى المرحلة الحالية.. والفلسفة الماركسية، حسبما عرفناها على مقاعد الدرس بأقسام الفلسفة، لها جانبان هما «المادية الجدلية، والمادية التاريخية» ويقوم الجانب (التاريخى) منها على تصوُّرٍ معين لتطوُّر المجتمعات الإنسانية، وفقاً لتطور نظم «الإنتاج»، حيث قرَّر ماركس أن المجتمع الإنسانى انتقل من الحالة الشيوعية الأولى، إلى حالة الإقطاع، إلى الرأسمالية، إلى الاشتراكية التى بشَّرت بها هذه الفلسفة، أملاً فى استعادة الحالة الشيوعية الأولى، إذا ما سيطر العمالُ على وسائل الإنتاج (وهو الحلم الماركسى الذى لم، ولن، يتحقق كاملاً).
أما الجانب «الجدلى» من المادية الماركسية، وهو المسمَّى فى اصطلاح الفلاسفة بالجانب المادى «الديالكتيكى» فإنه يقوم على ثلاثة مبادئ أو قوانين رئيسية، هى: وحدةُ الأضداد وصراعها، الانتقالُ من التغيُّر الكمى إلى التغيُّر الكيفى، سَلْبُ السَّلْب.
ومقصود ماركس، والماركسيين، بقولهم «سَلْبُ السَّلْب» هو أن كلَّ مرحلةٍ لاحقةٍ من مراحل التطور الاجتماعى، لا تلغى آثار المرحلة السابقة عليها إلغاءً كاملاً. وإنما يتطوَّر المجتمع الإنسانى عبر مراحله المختلفة، باستبقاء المرحلة التالية الجزء (الإيجابى) الذى تمَّ إنجازه فى المرحلة التى قبلها، وأما الجزء (السلبى) فهو الذى يتم سلبه وإلغاؤه.. لأنه لا معنى لهدم منجزات قام بها المجتمع فى المرحلة الرأسمالية (كالمصانع مثلاً) من أجل تأسيس المرحلة الاشتراكية التالية. وقد ضرب لنا الأستاذُ، أيام التلمذة، مثالاً مبسَّطاً لشرح هذه الفكرة بقوله إنه عند قيام الجمهوريات يتم سلب السلب «الملكى» السابق، بالقضاء على الاستغلال التام لثروات البلاد، وإبقاء الإيجابى من المنجزات كالحدائق العامة.. سألتُ أيامها الأستاذ، ولم يُجِب: عندما استولى الضباط الأحرار على القصور الملكية الفخمة، وسكنوا هم فيها من دون الشعب، هل كان ذلك سلباً للسَّلْبِ؟
ومع أن هذا المبدأ أو القانون المسمَّى (سلب السَّلْب) هو ماركسىٌّ بإجماع الآراء، إلا أنه يتوافق مع المفاهيم العامة فى ثقافتنا، بل ويتطابق مع بعض الأصول الإسلامية! فقد ورد مثلاً فى القرآن الكريم، ما يمكن أن يكون أصلاً لهذا المبدأ أو القانون، وذلك فى قوله تعالى (فأما الزَّبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض) وجاء فى الحديث الشريف: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام».. وجاء فى الحديث الشريف أيضاً، فى معرض قواعد القتال والحرب: «لا تقتلوا الذرية فى الحرب».. وهى إشارات مباشرة إلى أن الأمور (السلبية) فحسب، هى التى تؤول إلى زوالٍ، بينما ينبغى الحفاظ على (الإيجابية) منها. غير أن الآية الكريمة المذكورة تشير إلى هذا الأمر على اعتبار أنه سُنَّة كونية، وما جاء فى الحديث الشريف.. يدخل ضمن باب الأخلاق العامة، بينما دعا ماركس إلى (سلب السلب) على اعتبار أنه «قانون» واجب الاتباع وفقاً للعقيدة الثورية التى دعا إليها.. ولو كان ماركس مسلماً لقلنا إنه استفاد من التراث الإسلامى فى فلسفته، لكنه كان يقدم فلسفته مستنداً إلى الجدل (الديالكتيك) عند هيجل، وإلى التراث الأوروبى تحديداً. ولذلك، فعندما انتبه ماركس إلى أن هناك تجارب إنسانية كبرى، تخالف السياق الأوروبى، سارع إلى تطوير فلسفته وكتب: النمط الآسيوى فى الإنتاج.
المهم الآن، أن مرادى بالتذكير بمبدأ سَلْب السَّلب، هو الإشارة إلى القاعدة (المنطقية) القائلة بأن سلب السلب إيجاب. أو بعبارة أخرى أكثر وضوحاً وانطباقاً على واقعنا المعاصر الإشارة المباشرة إلى خطورة تلك النغمة السارية بالأجواء المصرية، والجارية مؤخراً على الألسنة. أعنى محاولة البعض تشويه جميع الأعمال التى تمت، والأشخاص الذين تولوا الأمور، فى الفترة السابقة على قيام ثورة يناير. وكأن الأشياء فى الفترة السابقة كانت شراً مُطلقاً أو خيراً مطلقاً، وكأن الناس كانوا إما ملائكة أو شياطين. وبالطبع، فليس هناك (مُطلق) فى الشر والخير عند الإنسان، والبشرُ ليسوا ملائكة وليسوا شياطين.. ومع أنه لا خلاف فى أن الزمن السابق على ثورة المصريين الأخيرة، كان فاسداً فى مجمله أو معظمه. إلا أنه بالقطع لم يكن تام الفساد ولم يكن شراً كله.. وإلا لما كان بالإمكان أن تقوم الثورة أصلاً، ولا كان فى البلاد شعب (نبيل) من شأنه أن يثور.
ومن هنا، فإن صخب بعضهم ضدَّ (كل) ما سبق، ومحاولتهم إدانة كل شخص كان يعمل فى إطار النظام السابق، وكل عمل تم فى الفترة السابقة؛ إنما هو موقف غير رشيد، وغير مدرك لحقيقة بسيطة تقول إن «مبارك» فى السنوات الخمس الأولى من حُكمه، لم يكن سيئاً بالقدر، الذى كان عليه فى الأعوام الخمسة الأخيرة من حُكمه. وكذلك «الفساد» الذى ساد مؤخراً، وعَمَّ وطمَّ، لم يكن سائداً فى ابتداء زمنه الرئاسى بالقدر نفسه.
إذن، لم تكن سنوات «مبارك» كلها شراً، لكنها كانت تزداد سوءاً، وكان من الواجب إيقاف تدهورها.. ولم يكن جميع الأشخاص فى الفترة السابقة فاسدين، وإن كان الفساد قد لحق بكثيرين منهم.. ولم تكن الأعمال التى تمت بمصر، جميعها، أعمال سوءٍ وفسادٍ وشرٍّ، وإلا فكيف ننظر إلى منجزات مثل مترو الأنفاق، ومكتبة الإسكندرية، والجامعات الجديدة، وشبكة الطرق، والطفرة الكبيرة فى مجالات السياحة والاتصالات.. وكيف نحكم بالسوء على أشخاص عملوا فى ظل النظام السابق، أو تعاملوا معه، من أمثال الدكاترة محمد غنيم ويحيى الجمل ومحمود زقزوق وكمال الجنزورى. فهؤلاء، وغيرهم كثيرون، مهما كانت لدينا من ملاحظات عليهم، ومهما كان من مقدار تعاملهم مع النظام السابق؛ إلا أنهم فى المجمل والتقييم النهائى أشخاص جيدون، وفيهم من (الإيجاب) ما هو أكثر بكثير من (السلب).
والحكم ذاته ينطبق على قادة الجيش، الذين كانوا أقرب إلى شخص «مبارك» وأكثر التصاقاً بنظامه، نظراً إلى طبيعة عملهم، ومع ذلك فقد انحازوا للشعب، وكانت مواقفهم العامة إيجابية، مهما لحق بها من ملاحظات.. وبالتالى، فإن الأقل شأناً من هؤلاء المذكورين، ممن أداروا المصالح والجهات الحكومية؛ فيهم بالقطع فاسدون تجب محاكمتهم على ما قد يكونون قد ارتكبوه من مفاسد، وفيهم أيضاً صالحون لا ينبغى أن نضعهم مع الفاسدين فى سَلَّة واحدة، ونُلقى بالجميع فى البحر.. كى تتحقق أهداف الثورة!
■ ■ ■
إن نجاح الثورة المصرية فى الفترة القادمة، مرهونٌ بقدرتنا على التمييز بين السلبى والإيجابى فى المرحلة السابقة، ومرتبطٌ بقدرتنا على سلب السلب (وإيجاب الموجب) من دون خلطٍ فى الأمور أو تخليطٍ بينها.. وهو الأمر الذى لا يمكن أن يتحقق، إلا بإعمال المنطق والتفكير الرصين. وإلى لقاءٍ قادم، الأربعاء المقبل، حيث نورد ما نراه صواباً بخصوص الحالة الأمنية العامة فى مصر، فى ظل وجود الجيش المصرى فى شوارعنا. وأظن، إذا لم يجدَّ جديد، فإن المقالة القادمة، سوف يكون عنوانها: حَيرة الدَّبَّابة عند طنين الذُّبابة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.