يروي أن أعمي وكسيحا كانا يعيشان في جزيرة نائية دون أن يعرفا بوجود بعضهما البعض, وكان كل واحد منهما يعيش منفردا في جانب من جوانب الجزيرة بعد ان غرقت سفينته. وألقاه الموج علي شاطئها. كان الأعمي يتخبط في طريقه إلي نبع الماء، ويتعثر في الأحجار ويصطدم بالأشجار, ويحصل علي قوت يومه بشق الأنفس وقد لا يحصل عليه بالمرة وينام جائعا لأنه لم يصل إلي شجرة مثمرة أو ينام عطشان لأنه لم يصل إلي نبع الماء. كان الكسيح أيضا يعاني الأمرين في الحصول علي الطعام والشراب فالأشجار عالية لا يستطيع الوصول إلي ثمارها فيكتفي بأكل الاعشاب، وكان يصل إلي نبع الماء زاحفا فتخدش جسمة الصخور وتقرصه الهوام والحشرات ولم يكن ليستطيع أن يصل إلي منطقة الكهوف ليأوي إلي أحدها لأنها عالية فيضطر للنوم بين الأشجار معرضا نفسه لخطر الزواحف. وفي يوم من الأيام رأي الكسيح الأعمي وهو يكاد يصطدم بشجرة في طريقه فصاح به ينبهه فأصيب الأعمي بالهلع معتقدا أن الصوت صوت جني أو شبح فطمأنه الكسيح وأكد له أنه بشر مثله غرقت سفينته يوما وجرفه الموج إلي الجزيرة.. فرحا فرحًا شديدا وراحا يتجاذبان أطراف الحديث ويحكيان لبعضهما البعض قصة غرق سفينة كل واحد منهما وكيف وصل إلي الجزيرة وفجأة قال الكسيح: 'لقد تقابلنا لكي تنتهي مأساتنا فبعد اليوم لن تصطدم أنت بالاشجار ولن تجرحني الصخور ولن تنهشني الحشرات أو الهوام' فسأله الأعمي: 'وكيف يتحقق هذا؟' فقال الكسيح: 'أنت قوي البنية وأنا خفيف وتستطيع حملي علي كتفيك فأبصر أنا الطريق وأرشدك إلي الأشجار المثمرة وترفعني أنت إلي الثمار العالية فأقطفها لكلينا، سنكمل بعضنا البعض ياصديقي، أنا سأكون عينيك التي بها تري وانت ستكون ساقي التي بها أمشي'. طار قلب الأعمي من الفرح وحمل الكسيح علي كتفيه واكتشف فعلا أنه ليس ثقيلا وحمله إلي الكهف الدافئ الذي يقيم به. وكل صباح يحمل الأعمي الكسيح علي كتفيه ويسير به في جنبات الجزيرة, فيلتقط الثمار ويتجها إلي النبع يملآن الماء ويعودا إلي الكهف سعداء. لكن مع مرور الأيام وجد الأعمي ان الكسيح يأمره بالتوقف طويلا تحت أشجار بعينها وعندما يسأله عن السبب يقول الكسيح: 'أنا أختبر الثمار أحاول أن اتعرف عليها' وفي الحقيقه كان الكسيح يأكل بنهم من هذه الثمار فيقول الأعمي: 'أعتقد انها ثمار التفاح أنا اشم رائحتها' فيرد عليه الكسيح: 'لا إنها ثمار غريبة ثمار التفاح هناك' وبعد أن يمشي به مسافة يعطية تفاحة ويقول له: 'لم أجد في الشجرة غير تفاحتين أنت واحده وأنا واحدة'. كان الكسيح فرحا باستنشاق الهواء فوق كتفي الأعمي وفرحا بمشاهدة مناظر الجزيرة الخلابة فيقود صاحبه من مكان إلي مكان ليتعرف هو علي الجزيرة ويستمتع بمباهجها وثمارها والأعمي يعاني من قلة القوت وأوامره ونواهيه وزواجره. ومع الوقت بدأ الأعمي يعرف أن الكسيح يكذب عليه ويخل بالاتفاق ويستغله لملذاته ورغباته فعندما يصلان إلي مكان ألفه الأعمي بخبرته في الجزيرة ويسأل عن مكانهما يكذب الكسيح ولا يقول الحقيقه, في البداية لم يواجهه الأعمي بكذبه وصبر عليه لعله يتوب لكن الكسيح تمادي ويقود صاحبه إلي الأماكن التي يريدها هو ويزداد كذبا وعجرفة وسيطرة يوما بعد يوم. فاذا قال الأعمي مثلا:' أعتقد أننا وصلنا إلي أشجار التوت' ينهره الكسيح قائلا :' لا توت هنا ولا أشجار بالمرة امض بنا إلي اليسار لا إلي اليمين قليلا استمر في السير'. كان الأعمي يشم رائحة التوت ويعرف أن الكسيح يكذب. ومرت الأيام والكذب والتحكم يزدادان وإن اعترض الأعمي يعيّره الكسيح قائلا:' كنت قبلي تصطدم بالأشجار وتتعثر بالأحجار, لقد انقذتك من ذلك العذاب وهأنذا ارشدك وأوفر عليك المشقة والمعاناة' فيصمت الأعمي ويتحمل ويتحمل ويتحمل بينما يزداد الكسيح غطرسة وكذبا ولم يعد يوجه صاحبه الا إلي اغراضه ومصلحته ضاربا عرض الحائط باعتراضات الأعمي وأسئلته النابعة من خبرات السمع واللمس والشم وبصيرته التي استقاها من سنوات المعاناة في الجزيرة. فضاق صدر الأعمي ولم يعد يحتمل تحكمه وكذبه ومعايرته وذات صباح حمل الاعمي الكسيح وقد اتخذ قرارا ينهي به معاناته. سار متجاهلا أوامر الكسيح إلي هدف يعرفه بخبرته وبدأ الكسيح يتوتر ويتساءل: 'إلي اين تسير بي هذا ليس طريق الاشجار' والأعمي لا يرد فيزداد الكسيح توترا وتتحول أوامره إلي صراخ ' اتجه يمينا هذا ليس طريق الأشجار' والأعمي لا يرد بل يسير في طريقه باصرار.. كان يسمع صوت الأمواج تأتي من بعيد.. وبدأ صوتها يعلو ويعلو والكسيح يصرخ ويرفس صدره ويضرب رأسه وهو يسير بخطي ثابتة نحو البحر حتي احست قدماه بالماء فسار في اليم بإصرار عنيد والكسيح يتوعد ويأمر دون جدوي وعندما وصل الماء إلي صدرة القاه في البحر وأدار له ظهره وعاد إلي الشاطيء بينما صراخ الكسيح يختنق وتوسلاته الباكية تصل إلي اسماعه متقطعة وهو يغرق رويدا رويدا حتي عم السكون أرجاء الجزيرة. لا أدري لماذا أتذكر هذة القصة التراثية كلما شاهدت سكان الفضائيات من النخب وقيادات الأحزاب الكسيحة وهم يلوكون كلاما معادا ومكرورا عن عبقرية أفكارهم وألمعية تحليلاتهم التي ستقود الشعب 'الجاهل' إلي طريق التقدم!!!