عندما تجولت بين لوحات معرضه المقام حاليًا في قاعة بيكاسو تحت عنوان 'ذكريات من زمن فات'.. اكتشفت أن عمنا طوغان قد نصب للمشاهد فخا مع سبق الإصرار والترصد.. فرغم أن لوحاته تدور في فلك أجواء الأربعينيات لكنها كلها ترسم جماليات زمن مقبل تغلف ملامحه البساطة والبراءة الشفافة.. زمن تتحقق فيه إنسانية الإنسان المصري البسيط الكادح وتبشر بضرورة انعتاقه من أسر القهر والاستغلال والاستبداد.. وبعد لحظات من التجول تكتشف أن هذا المعرض هو المعرض الوحيد اللائق بالحراك الثوري الشعبي العبقري منذ 25 يناير حتي 30 يونية بل اللائق بنا وبمصر لفترات طويلة مقبلة ستكون أبهي وأجمل وأكثر إشراقا. ولكي يحكم عمنا طوغان الفخ استدعي الطربوش والحنطور والطلمبة والربابة وموسيقي حسب الله واللمبة الجاز والكلوب.. باختصار استدعي مفردات حياة ريف الأربعينيات ليوهم المشاهد أنها ذكريات من زمن فات فعلا.. لكن فرشاته المدهشة وألوانه الشفافة الساطعة وبراعته الأدائية في رسم المشهد البانورامي وإحكام التصميم البارع وتجليات الحركة الدرامية العارمة رسمت ملامح حلم مستقبلي شفاف.. فاللوحات لا تسجل حالة الحنين السكونية إلي الماضي لكنها ترسم ببراعة من خلال دراما الحركة الجدلية ملامح مستقبل إنساني جميل لهذا الإنسان المتحضر الذي صنع ويصنع الحياة علي ضفاف النيل منذ أن شق الله النهر في عصور ما قبل التاريخ حتي الآن. يصنع ويبني ويزرع وفي نفس الوقت يفرح ويرقص ويمارس مسراته البريئة بتلقائية وحب جارف للحياة التي تري لوحات طوغان أنها تستحق أن تعاش. ولكي يتحقق ذلك ويبدو واضحا جليا أمام المشاهد الذي وقع في الفخ حشد طوغان قدراته الفنية وخبراته كلها واستخدم الألوان المائية 'خامته الأثيرة' التي روضها عبر تاريخه الفني لتخرج له أسرار شفافيتها الشفافة بجمال وبهاء ناصعين فيكتشف المشاهد أن ما يراه ليس الماضي ولا الحنين إلي الذكريات.. ولكنه أمام حلم بمستقبل أبهي وأنبل وأكثر جمالا.. وهو الأمر الذي آمن به طوغان منذ أن وهب فرشاته للناس هو وأبناء جيله ومن سبقوه من رواد الرسم الصحفي الذين آمنوا مبكرا بأنهم يرسمون للناس فهجروا قاعات العرض ليحولوا الصحف والمجلات إلي معارض شعبية تتناقلها أيدي البسطاء في المدن والقري والأحياء الشعبية قبل أن ينتبه فنانو الغرب في أوربا إلي ضرورة هجر القاعات الصالونية التي لا يرتادها إلا أصحاب الياقات المنشاة.. آمن بهذا بيكار وحسن فؤاد والحسين فوزي ورخا وحجي ومأمون واللباد وغيرهم من الفنانين الرواد لأنهم آمنوا بحق الإنسان المصري في المعرفة والتذوق ولأنهم جميعا ومنهم طوغان كانوا يؤمنون بدور الفن في التغيير ورسم ملامح المستقبل. ورغم ان الرجل من أهم فناني الكاريكاتير وارتبطت رسوماته بالقضية الفلسطينية ومقاومة الاستعمار والصهيونية لدرجة أن الصهاينة صنفوه كمعاد للسامية.. ورغم كاريكاتيراته الساخرة ضد الطغيان والاستبداد والجهل لكنه استطاع في معرضه الأخير أن يؤكد للحركة الفنية بفنانيها ونقادها أنه تشكيلي بارع قدير لا يعلق علي الأحداث السياسية فقط لكنه يستطيع أن يرسم اللوحة الدرامية البانورامية ببراعة آخاذة.. لوحة تحتشد بالبشر وتحتفل بمسراتهم وأحزانهم وأحلامهم.. مليئة بالإيقاع الموسيقي والحركي المتصاعد لدرجة أنك تسمع إيقاعاتها فتحتويك وتشعر بديناميتها تحاصرك لدرجة انك قد تتخيل أن بعض شخوصه المرسومة سيخرجون من الإطار ليستكملوا رقصهم وركضهم في القاعة ويخرجون بموسيقاهم وصخبهم الجميل إلي الشارع ليستكملوا احتفالهم بالحياة الجميلة التي صنعوها ويصنعونها وسيصنعونها. إنها الحركة الدرامية الجدلية التي يجيد عمنا أحمد طوغان إبداعها وتجسيدها فتخرج اللوحة من أسر الحنين إلي الماضي إلي آفاق الحلم بالمستقبل الناصع، فتخرج من قاعة المعرض وقد نجوت من فخ عمنا طوغان الجميل.