فى أحدث معرض للوحاته.. يجدد فنان الكاريكاتير الكبير أحمد طوغان فى أسلوبه الفنى فيمزج بين التصوير والكاريكاتير وفن البورتريه فى لوحات بديعة تلتقط أكثر المشاهد تأثيرا فى حياة مواطنينا. لوحات يرسمها طوغان ويسميها «ذكريات» ولكنها الأبقى فى نسخ الحياة الإنسانية بل والأكثر التصاقا بالمجتمع المصرى. مشاهد من حياة مجتمعنا تصورها ريشة الفنان لتكون خير سجل فنى لعادات وتقاليد ومشاهد جرت بها سُنن الحياة اليومية للمصريين منذ أربعينيات القرن الماضى.. وأغلب الظن أنها أصبحت الآن جزءا حميما من الماضى ولكنها أيضاً ظلت أطياف خيال مقيم لأيام خوال قد نسميها الحنين، وقد نسميها ذكريات الزمان الجميل، وهى وإن مضت فلاتزال بحلوها ومرها تشير إلى ذلك التكوين الخاص للمصريين، والذى شكل مزاجهم وحنينهم وأيامهم الحلوة، ذلك التكوين الذى يمتزج فيه الفرح بالدمع، والضحك بالخوف من البكاء، وخشية ما يأتى به الغد من تصاريف القدر، وما يأتى به المأمول من مجهول! فى عشق الحياة والبشر إن معرض طوغان الجديد «ذكريات» هو ذلك الحنين على الحنين، هو جهد الصبابة الذى وصفه المتنبى فقال: «أرق على أرق ومثلى يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق جهد الصبابة أن تكون كما أرى عين مسهدة وقلب يخفق» .. «ذكريات» طوغان فى لوحاته البديعة رسمها فؤاده الشيق الذى أحب الناس، وعشق الحياة فأرهفت السمع لوقع ريشته وهو يسجل مشاهد تاريخية من حياة المصريين. أسرار من حياة القرية المصرية: لوحاته ناطقة بأسرار الحياة فى الريف، أجران القمح، وأبراج الحمام، وشواشى النخل، ملابس الفلاحات بألوانها البهيجة، التفاصيل: الكردان، والحلق الطارة، والحلق المخرطة، زغرودة العرس، جهاز العروسة المحمول على عربة يجرها الحصان تتقدمها النساء بالزغاريد، صندوق العروسة بقفله المختوم، والسرير أبوعمدان، والمراتب المنفوشة، واللحاف المنجد بالساتان الأحمر، الصبايا فرحات يخطرن على أبواب دار العروس حيث تكاد تسمع أصداء أغنياتهن. مع لوحات طوغان تستعيد ذكرياتك وفرحك الخاص، تستدعى مخزونك من الذكريات.. تكسر لوحاته الإيهام فتجد نفسك وسط الجموع داخل اللوحة لا خارجها، و«أنت ونصيبك»! فقد تجد نفسك راقصا فى زفة أو عازفا على طبلة أو سابحا فى أنة ناى أو صارخا من لهفة على رنة خلخال! تسمع صوت العصا على العصا، نقرات وضربات الرجال فى رقصة التحطيب.. هناك حيث تسمع وترى. فى لوحته «زفة المطاهر» تسمع صلصلة الآلات النحاسية، يهزك إيقاع المشهد وتسمع زغاريد النساء، يستوقفك وجه حلاق الصحة ومشطه فى جيبه، بحقيبته المشهورة وقد أنهى مهمته فى طهور الصبى. وفى لوحته «القيلولة» تستمتع بهدأة العصارى.. بصوت الأرغول.. باتكاء الظهر على الجذر حيث الشجر أم وأب. وفى لوحته «العمدة» تبدو مظاهر السلطة والنفوذ، السيارة السوداء أمامها الخفير بالبالطو الأصفر والبندقية والطربوش، والعمدة فى مروره بسكان القرية يعرضون شكاياتهم وهو على حصانه الأبيض المطهم بقطيفة حمراء، يد الخفير وقد أمسكت بلص وابور الجاز!، ويد العمدة ممسكة بزمام الحصان الذى وقف مطهما ومشدودا وكأنه يقول: - تمام ياعمدة! العمدة فى لوحات طوغان يمضى مهيبا مرهوب الجانب، رمزا للسلطة والنفوذ يخايلك شخصه بالأسئلة، أكثر من عمدة عرفناه من خلال الفن، العمدة فى فيلم «الزوجة الثانية» مفترى يقول: «الدفاتر دفاترنا» «وفيه واحد يقول لحضرة العمدة لأ»؟!.. وفى بعض الأغنيات يسمع العمدة الشكايات ولكن بأذن من طين وأخرى من عجين، يبدى من الجد عكس ما يبطن من الهزل خاصة إذا ما اتصل الأمر بالغزل وشئون النساء مع الرجال ومن ذلك ما جرى على لسان المغنية والمغنى: «ياحضرة العمدة ابنك حميدة حدفنى بالسفندية! - إهى! - وقعت على صدرى ضحكوا على زملاته الأفندية! - إهى! - يرضيك ياعمدة؟ - فيه إيه؟.. جرى إيه.. عمل إيه؟! - علشان ابن عمدة يعمل كده كده فيا؟! - لا.. لا.. لا»! ولكن العمدة الذى يتكرر فى أكثر من لوحة من لوحات طوغان وقور يقوم بدوره المطلوب من ضبط وربط وحفظ للأمن والنظام، ومن حيث لا تحتسب تتفجر صورك الذهنية عن شخصية العمدة، تحاورك فتأخذك معها لتأمل عمق اللوحة فتثير ما تثير من الذكريات، وتستدعى مخزون المشاعر فتتداعى الصور فى جدال المرسوم مع المخزون، وفى صراع البصر والبصيرة. مقاهى المدينة وكما صَوَّر طوغان مشاهد من القرية المصرية بأبرز ما فيها ومن فيها يُصِّور المدينة بأسواقها ومقاهيها، بنسائها ورجالها تكاد أن تتحدث إليهم وتنصت لشجوهم.. لضحكهم.. لنكاتهم.. يصَّاعد دخان النارجيلة فتقول: شيشة عجمىَ! يصاعد بخار الشاى الساخن فتصفق: واحد شاى وصلحه! تشم رائحة البُن فتقول: - خليها ع الريحة! تمر صاحبة ملاية لف فتتذكر لوعة «ياسين» أمام القوام السمهرى فى ثلاثية نجيب محفوظ، وصيحة ياسين الشهيرة: - أحبك ياأبيض! وقد ينتابك تفكير عميق يستدعى بنات بحرى من لوحات محمود سعيد، بنات بحرى بأعينهن المكحولة الواسعة تحادثك العيون فتقول: «من بحرى وبنحبوه»! ثم لا تلبث أن تبتسم وأنت تطيل النظر فى اللوحة.. رجل ما على المقهى يسكب فنجانه على ملابسه رغما عنه وهو ينظر إلى فاتنة الملاية اللف فتضحك من قلبك بينما يغنى كل رائح وغاد على ليلاه، بائع الترمس يغنى لحلبته وحبات ترمس وفول، وبائع الكتب ينادى على كتبه، وهناك ضجة المقهى ونداءات يتردد صداها فى جنبات اللوحة لعلك تسمعها وتجاوبها فيتردد صوت النادل: - أيوه جاى! ليالى ثومة: كما صورت لوحات طوغان مشهدا مهما من الحياة الفنية المصرية «ليلات غناء أم كلثوم»، حيث كان يجتمع الجيران وجيران الجيران على صوت ثومة، على نغمات الجرامفون فتكاد تسمعهم يقولون: - عظمة على عظمة ياست! فتجلس مع الجالسين، وتنشد مع العاشقين: «أهل الهوى ياليل فاتوا مضاجعهم واتجمعوا ياليل.. صحبة وأنا معهم». .. مع الناس وبالناس يزدهر فن طوغان يتجدد، وطوغان الذى تعد رسومه سجلاً حيا مواكبا لتاريخ المجتمع المصرى وحراكه الاجتماعى والثقافى والسياسى هو أول من رسم الكاريكاتير يوميا فى الصحافة المصرية وظل يرسم بدون انقطاع ما يزيد على الستين عاما حتى أصبح ملمحا رئيسيا فى الصحافة المصرية، وإذا كان طوغان قد أرخ فى معرضه الجديد «ذكريات» للحياة المصرية فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى فإنه يخطط لتسجيل ديوان الحياة المصرية منذ الستينيات والسبعينيات وحتى الآن..، وهو يقول: «دائماً هناك أشياء ولوحات لم أرسمها». ثم يضيف: «أجمل اللوحات هى التى لم نسرمها بعد» . فأقول: «ونحن فى الانتظار فأجمل الكلمات لم نكتبها بعد».