هل كان لابد أن يموت مجدي رياض ليكتشف الناس أنه كان مفكرًا وأديبًا وفنانًا وشاعرًا ومناضلا؟!! وهل كان لابد أن يتألم كل هذا الألم ليكتشف الذين حاصروه وحاولوا تحجيمه أنه كان صاحب فضل وريادة؟!! نعم كان مجدي رياض صاحب فضل وريادة.. لدرجة أنني أطلقت عليه مبكرًا أيام الصبا لقب: 'المنقب الأول' علي وزن 'المعلم الأول' كما كان يسمي أرسطو... فكلما تقابلنا في شارع المحطة أو شارع خوفو أو شارع ربيع الجيزي كان يحمل معه جديدًا مدهشًا.. فمرة يخرج من جيبه قصيدة نزار الممنوعة في أواخر الستينيات: 'هوامش علي دفتر النكسة' مكتوبة بخطه الجميل الأنيق لنقرر بعد أن نقرأها أن ننسخها عدة نسخ بالكربون لنوزعها كمنشور ثوري لرفض الهزيمة والمطالبة بإزالة آثار العدوان.. ومرة يحمل إلينا نحن أبناء الحتة من هواة القراءة نسخة حائلة اللون من ديوان الأرض والعيال للأبنودي لنتسمر تحت مصابيح الشارع الخافتة نتبادل إنشاد قصائده الطازجة المليئة برائحة الطين الصعيدي النفاذة.. كنا نسير في المساء بشارع البحر الأعظم ننشد أشعار صلاح جاهين ونزار ودرويش ونحن علي أبواب المرحلة الثانوية فنشعر بأن قلوبنا الصغيرة تعزف علي إيقاعات هذه القصائد الثورية مارشًا عسكريًا سيقودنا حتمًا لتحرير سيناء والقدس.. حتي عندما كبرنا وانخرطنا في العمل السياسي بمنظمة الشباب ثم الجامعة كان يمارس هوايته في التنقيب ليكون هو أول من يعرفنا علي كتابات عصمت سيف الدولة ومطاع صفدي ونديم البيطار وعبد الله الريماوي وكان لهذه الاسماء جرس موسيقي مدهش ولأفكارهم طزاجة آسرة تلتهمها قلوبنا قبل عقولنا.. ورغم خلافاتنا الحادة أنا والراحل سيد حسان معه حول مصطلح الاشتراكية العربية وإصرارنا أنه تطبيق عربي للاشتراكية مؤكدين أن الاشتراكية واحدة وإن اختلفت تطبيقاتها لكنه كان يقابل شدتنا بهدوء وحماسنا بمنهجية مؤكدًا علي ضرورة أن نكتب هذه الحوارات لتكون بداية تنظير حقيقي للناصرية.. ويسبقنا ليكتب هو الدراسة تلو الدراسة نتفق ونختلف من جديد لكنه ومع كل اختلاف كان يأتي بدراسة جديدة ومراجع مدهشه العناوين عن التنظيم الوحدوي والإقليم القاعدة والإقليمية الجديدة ودولة الوحدة العربية الديمقراطية الاشتراكية.. كان يمثل بالنسبة لجيل مؤسسي نادي الفكر الناصري بجامعة القاهرة 'كتيبة الاستطلاع' الاستراتيجية المتقدمة التي تعود من كل رحلة بزاد جديد ومعرفة جديدة وتصورات مبهرة نظريًا وفكريًا وفلسفيًا وكما عرفنا علي الكثير من الأفكار كان هو أول من عرفنا علي كثير من الأعلام والمناضلين فهو أول من عرفنا علي عمنا المناضل الراحل كمال رفعت والدكتور عبد الكريم احمد وعمنا فتحي رضوان وسعد أردش والفريد فرج وكمال شاتيلا ومصطفي سعد.. كان يختفي ليظهر بكنز معرفي جديد ومعلومات جديدة مدهشة ورغم علاقاته العربية المتشعبة كان زاهدًا لا يبحث عن شهرة أو مال أو مكانة لدرجة أنني اشريت له كتابًا من السوق وكان يسكن معي في نفس البيت فصعدت إليه غاضبًا وسألته أنت مؤلف هذا الكتاب؟ فابتسم وسألني: أين وجدته؟.. فقلت لا تجب علي سؤالي بسؤال لماذا لم تخبرني به أو تعطيني نسخة فقال مبتسما ببراءة خشيت أن أثقل عليك أو أسبب لك حرجًا فتعتقد أنني أريد أن تكتب عنه وربما تسبب اسمي في لخبطة الدنيا عندك في جريدتك.. قلت بحزم أنا أساسا أحب الدنيا الملخبطة لأقوم بتعديلها من جديد. كان يطبع دواوينه العامية علي نفقته ويوزعها علي أصدقائه حتي عندما أنجز مشروع قاموس العامية المصرية وهو عمل علمي كبير لم يوزع علي أصدقائه في الصحف نسخًا واكتفي بإهدائه الي أصدقائه القريبين رغم أهمية الكتاب والمشروع. ورغم كتابته لعامود أسبوعي في جريدة العربي والذي كان يتناول فيه الكثير من القضايا الفكرية والسياسية لم يفكر في جمع هذه المقالات رغم أهميتها في كتاب أو كتب وإن سألته لماذا أجاب باستخفاف يا عم دي مقالات عابرة.. التأليف شيء آخر.. ورغم معاناته الصحية الباكرة كان يسافر ويشارك في المنتديات الفكرية القومية العربية يناقش ويجادل ويبتكر ويشتبك من بلد الي بلد يحمل فكرة العروبة التي وهبها حياته تمامًا كما كان يفعل ديوجين حاملا مصباح الحقيقة في عز النهار. سألته مرة عن سر غيابه الطويل فقال: كنت في الإمارات ومنها إلي بيروت ثم أثينا ضحكت وقلت له هل تتذكر مدرسة المشائين التي أسسها تلاميذ أرسطو الذين كانوا يمشون وراء أستاذهم ويناقشون قضايا الكون في الطرقات؟ أنت بطريقتك هذه لابد أن تحمل لقبا آخر غير لقب 'المنقب الأول' لتصبح 'المشاء الأول' ضحك وقال لا بل هو 'الرحالة الأول'.. منذ أن عرفته في نهاية الستينيات وحتي رحيله كان مخلصًا وبسيطًا وقابضًا علي جمر العروبة واهبًا قلمه وفكره وحياته لتجسيد أحلام البسطاء الذين كانوا يسكنون روحه وشعره وكتاباته ورسوماته وظل لا يبحث عن مال أو شهرة أو مكانة رغم أن مكانته كانت وما تزال كبيرة في قلوب من أحبوه ومن لم يحبوه.. طب روحًا يا صديق العمر فالحلم الذي وهبت له عمرك سيتحقق وستشرق شمس العروبة عما قريب كما حلمت.. فنور الفجر العربي ليس ببعيد.