عجبت لأمر سيد قطب من أنه الوحيد الذي سافر في بعثة لبلاد بره ولم يعد منها معجبا بما رآه, بل ساخطا حانقا لاعنا متحولا بنسبة180 درجة عن سيد قبل السفر.. لم تكن عودته مثل العودة المحملة بالانبهار للطهطاوي وطه حسين وحسين فوزي وعصفور الشرق توفيق الحكيم لكل ما قد شاهدوه وما لمسوه في معاملاتهم علي أرض السين.. لم ينسدل عليه قول الجبرتي في وصفه لمحمد الألفي زعيم المماليك الذي صحبه الإنجليز معهم عند خروجهم من مصر لإعداده حاكما من قبلهم لأرض النيل حيث وصفه قبل سفره لإنجلترا بالعشوائي المتنطع, وبعد عامين قضاهما الألفي علي ضفاف التايمز كان تأثيرها عليه دافعا لقول الجبرتي:.. وتهذبت أخلاقه وتغير سلوكه.. سافر سيد قطب لأمريكا في سبتمبر1948 في بعثة ممولة من النقطة الرابعة ليمكث عامين بمسعي من رئيس الوزراء والحاكم العسكري محمود فهمي النقراشي حتي لا يتم تنفيذ أمر اعتقاله الصادر من القصر الذي ضاق بكتاباته ومقالاته الساخنة, ولكن الذين رتبوا لهذه البعثة بلافتة إعداده لتولي مهام أكبر في وزارة المعارف التي يعمل في إدارتها اختاروا له بقصد أو بدون قصد الذهاب لسان فرانسيسكو معقل الاضطهاد ضد الملونين في ذلك الوقت, وكانت ملامح سيد قطب بعينيه الجاحظتين وشفتيه الغليظتين وشعره الكث المفلفل وقامته القصيرة وبشرته السمراء ترشحه للاضطهاد في المطاعم والمشارب ووسائل النقل وما إليها, فامتلأت رسائله إلي الأصدقاء بالشكوي المريرة من المعاملة غير الكريمة التي كان يلقاها في كل خطوة من خطواته في سان فرانسيسكو, وأهاجه الشوق إلي مصر ليعبر عنه في قصيدة عنوانها هتاف روح قال فيها: في النفس يا مصر شوق لخطرة في رباك لضمة من ثراك.. لنفحة من جواك لروضة من سماك.. لهاتف من رؤاك لليلة فيك أخري.. مع الرفاق هناك ظمآن تهتف روحي.. متي تراني أراك ومن أمريكا يكتب لصديقه وديع فلسطين يطلب منه إقناع مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بأن يتيح له عند عودته أن يلقي سلسلة من المحاضرات العامة في الجامعة عن سياسة مصر التعليمية, فيتحرج المدير من القبول خشية أن يقال إنهم يتبنون انتقادات للسياسة التعليمية في مصر.. ويكتب قطب لتوفيق الحكيم يصف الإنسان الأمريكي بقوله: يبدو الأمريكي شديد الإعجاب بالقوة العقلية والقوة المادية بوجه عام بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق في حياته الفردية والعائلية والاجتماعية, وحول أمريكا التي رآها يقول: إن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت, في حقل العمل والإنتاج, بحيث لم يبق فيها بقية تنتج شيئا في حقل القيم الإنسانية الأخري.. الإنسان فيها لم يحفظ توازنه أمام الآلة, حتي ليكاد هو ذاته أن يستحيل آلة فهو لم يستطع أن يحمل عبء العمل وعبء الإنسان!!.. ويعجب سيد قطب من أن الطعوم في أمريكا شأنها عجب, فالسكر هناك محتفظ به للمخلل والسلاطة, والملح للتفاح والبطيخ والقهوة, ولاعتياده علي تقاليعهم تلك سألهم: أراكم ترشون الملح علي البطيخ؟ قال أحدهم: أجل وألا تصنعون ذلك في مصر؟ قلت مداعبا: كلا, وإنما نرش الفلفل, فقالت واحدة في دهشة واستفسار: أو يكون مستساغا؟!.. قلت: يمكنك أن تجربي! وجربت, وقالت في استحسان: كم هو لذيذ! وكذلك فعل الآخرون!!.. ويؤكد قطب أن الأمريكاني محتاج إلي قسط من الذوق حتي في الحلاقة.. وما من مرة حلقت شعري هناك إلا وعدت إلي البيت لأسوي بيدي ما شعث الحلاق, وأصلح ما أفسده بذوقه الغليظ.... سافر سيد قطب إلي أمريكا ساخطا علي كل ما حوله من مظاهر, لدرجة أنه كتب مقالا في أواخر1946 بعنوان مدارس للسخط تمني فيه لو كان الأمر بيده أن ينشئ ضعف ما تنشئ الدولة من مدارس كي يعلم الشعب شيئا واحدا هو السخط, ومن هذه المدارس: مدرسة للسخط علي رجال السياسة, والكتاب والصحفيين والوزراء والباشوات, وعلي الارستقراطيين, وعلي الإذاعة, وأخيرا علي الشعب ذاته.. وأنهي مقاله بقوله إن السخط فريضة علي كل صاحب قلم, ولن تضيع صرخة واحدة في الهواء, فالهواء أحفظ للأصداء, والأجواء حفية بالدعاء, ومن لم توقظه الدعوة, فلتوقظه الصيحة, ولا يأس مع الحياة.. وإذا ما كان قطب ساخطا من قبل سفره فقد عاد متحولا بعدما رأي وطنه من الخارج البعيد الذي لمس فيه العداء السافر للإسلام, فقد جاءت بعثته المخططة الفجائية في مرحلة حرجة من حياة المصريين والعرب, ففي عام1948 حدثت مأساة فلسطين ونهشت إسرائيل قضمة كبيرة من أراضي بيت المقدس, وبعد شهرين من وصوله قام النقراشي باشا الحاكم العسكري بحل جماعة الإخوان وغلق صحفهم واعتقال بعض رموزهم, وبعد أقل من ثلاثة أشهر علي وصوله إلي أمريكا اغتيل النقراشي ومن بعده حسن البنا المرشد العام, ولاحظ قطب أن اغتيال النقراشي لم يلق أي اهتمام في الدوائر الأمريكية, في حين ساد الابتهاج والارتياح لأنباء اغتيال البنا, حتي إن ممرضات المستشفي الذي نزل به للعلاج ذهبن يوزعن الشيكولاتة علي المرضي ابتهاجا تماما كأصداء مقتل بن لادن هناك وربما فكر سيد قطب وقتها تماما في الانضمام للإخوان عند عودته إلي مصر من منطلق أن الغربيين لم يهاجموا إلا حسن البنا ويفرحون لمقتله, ومعروف أن الاستعمار لا يهاجم إلا خصومه.. ويحث الكاتب سهيل إدريس كلا من الشاعرتين نازك الملائكة وفدوي طوقان صديقتي سيد قطب بعد عودته إلي دعوته للكتابة ثانية في النقد الأدبي إلي جوار الدعوة الإسلامية التي انتهجها, لكنه اعتذر لهما مؤكدا أنه توقف عن النقد الأدبي لاهتمامه بما هو أكبر وأهم من أجل مصلحة الأمة, وأعلن حزنه وأسفه لعدم استطاعته المشاركة معهما مع تأكيده بأنه ليس ضد النقد والإبداع.. لكنه في عام1950 بدأ يحاكم الأدب لرؤيته الرومانتيكية للإسلام ويعلن أن الأدب قد مات من وجهة نظر غير أدبية لا علاقة للموت فيها بالنقد الموضوعي وإنما الذي مات حقيقة هو أخلاق الأدباء!!وتجول الآفاق لفظة الإسلام هو الحل التي بدعها سيد قطب كعبارة فضفاضة تحض علي أنه لا برنامج ولا خطط بل الحكم أولا ثم يأتي كل شيء بعد ذلك وعلي مهل.. وينقده الشيخ يوسف القرضاوي برقة وترفق وذكاء بقوله: أحسب لو أن الشهيد سيد قطب رحمه الله لو أتيح له دراسة الفقه الإسلامي والعيش في كتبه ومراجعه زمنا لغير آراءه, ولكن تخصصه ولون ثقافته لم يتح له هذه الفرصة وخاصة أن مراجع الفقه بطريقتها وأسلوبها لا تلائم ذوقه.. عاد سيد قطب من رحلته إلي أمريكا ليقرر متشددا أنه لا اجتهاد مع النص, وأن النص حاكم علي الجميع, بينما كانت عودة الإمام محمد عبده مؤمنا بأن النظر العقلي هو الأصل في الإسلام, فالعقل عنده مقدم علي ظاهر الشرع عند التعارض.. ومن هنا كان مفهوم المدنية عند الإمام إعلاء قيمة العقل واحترام خياراته.. ويضيف الإمام أصلا آخر من أصول المنهج الإسلامي للمفكرين التنويريين ألا وهو البعد عن التكفير: فإذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه, ويحتمل الإيمان من وجه واحد, حمل علي الإيمان ولا يجوز حمله علي الكفر.. ويؤكد الإمام إن الاختلاف بين البشر هو القاعدة السائدة والغالبة, وليس لأحد من المختلفين في الرأي أو الرؤية أن يدعي احتكار اليقين أو امتلاك الحقيقة المطلقة.. عاد سيد قطب من بلاد العم سام ليجلس بالجلباب الأبيض في حديقة بيته في حي حلوان الموصوف له لجفافه من أجل الحفاظ علي صحته وهو المريض بالصدر.. تحت الشجرة العتيقة التي يتدلي منها من بين الأغصان مصابيح الكهرباء لتعينه علي القراءة.. لست غنيا, كان معي ألفا جنيه وهذا البيت كان لمأذون حلوان مساحته نصف فدان اشتريته منه بكل ما معي وفي حديقته أقضي أمسياتي, ومكتبي هناك بجوار النافذة المطلة علي الحديقة.. الخضرة تغسل العين وتساعد الكاتب علي نسج كلماته.. وهناك تحت الشجرة البعيدة كان الضباط الأحرار يعقدون اجتماعاتهم معي في فترة التمهيد للثورة كان سيد قطب هو أول من أطلق عليها ثورة وسبق بذلك الدكتور طه حسين لم يكن بينهم محمد نجيب فقد جاءوا به واجهة للثورة.. الرتبة العسكرية لها حساب, والقائد الحقيقي الذي تواري لفترة وراء محمد نجيب كان جمال عبدالناصر.... كان سيد قطب هو المدني الوحيد الذي يحضر مجلس قيادة الثورة, وكان كتابه الفكري الإسلامي الأول العدالة الاجتماعية في الإسلام من أوائل الكتب التي كان ضباط الحركة يتدارسونها في لقاءاتهم السرية, وقد شبه بعضهم سيد قطب بخطيب الثورة الفرنسية الشهير ميرابو.. وقام جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة بتكريم سيد قطب في الاحتفال بمديرية التحرير ليقف وسطهم يلقي كلمة مرتجلة وسط التصفيق قائلا: إن الثورة قد بدأت حقا وليس لنا أن نثني عليها لأنها لم تعمل بعد شيئا يذكر, فخروج الملك ليس غاية الثورة, بل الغاية منها العودة بالبلاد إلي الإسلام, واستطرد لقد كنت في عهد الملكية مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة, وما آمن علي نفسي في هذا العهد أيضا, فأنا في هذا العهد أهيئ النفس للسجن ولغير السجن أكثر من ذي قبل.. وهنا وقف عبدالناصر قائلا: أخي الكبير سيد قطب نعاهدك باسم الله بل ونجدد عهدنا لك أن نكون جميعنا فداءك.. ويمضي سيد قطب يشعر بأنه في قلب السلطة, أو أن السلطة القائمة تعبر عنه وتستجيب له, وفي نفس الوقت كان هو العضو البارز بالجماعة مقربا من المرشد العام المستشار حسن الهضيبي الذي يسند إليه بعض المهام, وبدأت بعض الأصوات تعلو مطالبة بعودة الضباط إلي ثكناتهم, فيرد قطب في جريدة الأخبار مخاطبا محمد نجيب والقادة العسكر: أيها البطل.. أيها الأبطال إن الوقت لم يحن بعد للعودة إلي الثكنات, إن حركة التطهير الحقيقية لم تبدأ بعد, وهي في حاجة إلي خطوات حاسمة لا أنصاف الحلول وأرباعها.., ولقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية شريرة علي مدي خمسة عشر عاما أو تزيد, أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة شريفة ستة أشهر, علي فرض أن قيامكم بحركة التطهير يعتبر ديكتاتورية بأي وجه من الوجوه.. ويطلق قطب علي الذين تحدثوا عن الدستور وعن الانتخابات البرلمانية خفافيش خرجت من القبور, وأن الرجعية تتستر الآن وراء الدستور الذي سمح بكل ما وقع من الفساد, وهذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من عودة الفساد ما لم تمضوا أنتم في التطهير الشامل الذي يحرم الملوثين من كل نشاط دستوري ولا يبيح الحرية السياسية إلا للشرفاء.. يذكر أن قطب كان رافضا لشعر المناسبات, واصفا شعراءه بأنهم المتسولون وخدمة الفنادق, لكنه تورط فكتب قصيدتين في مدح الملك فاروق أولاهما عام1938 من سبعة وثلاثين بيتا, بمناسبة الزواج الملكي, قدم فيها فاروق علي أنه أمل لشعب مصر, والثانية كتبها في مدحه عام1947 باعتباره راعي العروبة الأول بمناسبة زيارة الأمير عبدالقادر الجزائري لمصر. ويعرض عليه رجال الثورة كما أطلع صديقه وديع فلسطين أن يختار بين منصبين: إما منصب مدير الإذاعة, أو منصب وزير المعارف, فاشترط عليهم أن تطلق يده في تغيير مناهج الإذاعة فتلغي منها الأغاني والبرامج الهزلية والتمثيليات المسلية, وكان قد كتب مقالا بهذا الشأن أهداه إلي وزير الدولة فتحي رضوان يحمل فيه علي الإذاعة المصرية بضراوة, ويوجه الاتهام إلي القائمين عليها بقوله: محطة الإذاعة المصرية لم تشعر بعد أن هناك ثورة في البلد, وقد ظل إدراكها لمعني الثورة محصورا في إضافة فقرات إلي البرنامج العادي قائمة علي جهد فردي بحت, لا علي أساس انقلاب أساسي علي عقلية الإذاعة التي مازالت تبث علي الناس ما كانت تبثه من قبل من الأصوات الرثة التي ظلت تنثر علي الشعب رجيعها خلال ربع قرن من الزمان بحجة أن الجماهير تحب هذه الأصوات أمثال عبدالوهاب الذي يغني للسيجارة والكأس, ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبدالعزيز محمود وليلي مراد ورجاء عبده وفايدة كامل وشهر زاد وأمثالهم.. اللهم إلا أم كلثوم لأنها خامة صوتية كونية مدهشة وأن من يحاولون تقليدها ما هم إلا نسخ بالكربون لا ترقي إلي أصالة الأصل وبهائه.. إن فساد فاروق وحاشيته, ورجال الأحزاب ومن إليهم, لم يدخل كل منهم إلي كل بيت, ولم يتسلل إلي كل نفس, أما أغاني هذا الطابور وأفلامه فقد دخلت البيوت وأفسدت الضمائر وحولت هذا الشعب إلي كيان مترهل لا يقوي علي دفع ظلم أو طغيان.. أما في مسألة قبوله منصب وزير المعارف فسوف يعيد النظر في جميع المناهج الدراسية بحيث تتحول المدارس إلي ما يشبه كليات الشرطة.. و..يعدل مجلس قيادة الثورة عن إسناد أي من المنصبين المهمين إلي سيد قطب.. وزيرا للمعارف أو مديرا للإذاعة!! ويذهب عبدالناصر بالميثاق لصديقه القديم سيد قطب بعد الإفراج عنه من سجنه ليستقبله في بيته طالبا منه أن يكتب التفسير الإسلامي للميثاق ليضع حدآ للمد الماركسي الذي وجد الساحة أمامه خالية فاستشري.. وبدلا من ميثاق ناصر يكتب قطب ميثاقه هو بوضعه كتابه معالم في الطريق الذي أصبح ميثاقا للإرهاب والتطرف بدلا من ميثاق ناصر الذي كان معالم علي الطريق عنوانا لأحد فصوله.. ويصدر الكتاب في نوفمبر1964 ويقرأ عبدالناصر مسودته ولا يمانع في نشره, ويعاد الطبع خمس مرات خلال ستة أشهر, وتكتشف مؤامرة جديدة للإخوان فيعاد اعتقال سيد قطب باعتباره الرأس المدبر, وتضبط نسخ من الكتاب في بيوت أعضاء الجماعة ويحكم عليه واثنان من رفاقه بالإعدام الذي يتم في فجر29 أغسطس1966 وتكتب زينب الغزالي: إذا أردت أن تعرف لماذا حكم علي سيد قطب بالإعدام فاقرأ( معالم في الطريق).. و.. ويسقط سلاح التكفير في أيدي الذين لا يمكن السيطرة عليهم! كان قطب يرفض نظرية السمك الميت الذي يسبح دائما مع التيار, ويتعمد إعادة النظر في المسلمات, ومن هنا لم يطلق لحيته, وظل حليقا أنيقا يرتدي البذلة والكرافتة, مؤكدا أن الزي مسألة إقليمية بحتة لا علاقة لها بجوهر الدين.. المسالم مظهرا العنيف مخبرا, المشطور في رحلة الحياة ليقال عنه إن هناك سيد قطب قبل1954 والثاني بعد1954, الأول لا يختلف عليه وعلي تقديره أحد, والثاني اتهم العالم كله بالجاهلية.. السابح ضد التيار الذي هاجم أمير الشعراء أحمد شوقي بحجة أنه لا يحقق وجهة نظره في المثل الأعلي, بينما يجد في شعر عباس العقاد النموذج في تحقيق هذا المثل, وكان قطب قد ارتبط بالعقاد فكريا منذ مجيئه من قرية موشا بمحافظة أسيوط وحصوله علي ليسانس كلية دار العلوم مما جعله لا يتورع بالاستشهاد بشعر العقاد كنموذج يحتذي لا يباريه البحتري أو المتنبي وذلك في عصر كان الأدباء والشعراء ينحازون فيه إما إلي طه حسين أو إلي مصطفي صادق الرافعي.. وقال يوما عن صلته بالعقاد: كنت له تلميذا محبا, وكنت أقدم له كتبي فيثني عليها ويقربني منه, حتي طلبت منه ذات يوم أن يكتب مقدمة لكتاب لي يقدمني به للناس, فأبي ذلك علي نفسه وعلي, وشعرت بالغيظ حين آثر أن يقدم لكتاب( بروتوكولات حكماء صهيون) لخليفة التونسي ولا يقدم لكتابي فجفوته وجفاني وهجرت مجلسه.. ورغم الجفوة والخصام فقد كان تأثير العقاد علي قطب عميقا حتي إنه عندما كتب روايته أشواك التي نشرت لمرة واحدة عام1947 وتعكس فترة من حياته, واختفت تماما من دور النشر بفعل رغبة صاحبها وإخوانه كان قد كتبها علي نسق رواية سارة للعقاد.. الأنثي لها وضعها الخاص عند سيد قطب, وقد كان أول المدافعين عنها ضد التحرش في المدرسة الابتدائية عندما تصدي للطلبة الذين يطاردون البنات.. ولقد أحب سيد في البداية وسافر للدراسة ورجع فإذا بالحبيبة قد طارت لعش الزوجية مع الآخر, وأحب غيرها وتبين له أنها تحب غيره, وكان قد ظل خاطبا لها يرتدي اسمها سنوات في دبلة ذهبية حول إصبعه, وتجلي عذاب الفؤاد والهجر في عدة قصائد منها قصيدة الكأس المسموم وروايته الأشواك.. ومن بعدها ظل سنينا عزبا وقد أدار ظهره للعاطفة ومصدرها الأنثوي ليستغرق العمل الحركي مع الإخوان كل وقته قبل أن يغزوه الحب مرة أخري ويزمع الارتباط, لكنه بدلا من دخوله عش الزوجية المخملي فتحت له زنزانة السجن فوهتها ليقضي بين جدرانها الخشنة سنوات خرج بعدها بعفو صحي وعمره قد قارب التاسعة والخمسين, ولم يغادره حلم الرفقة وابتسامة المرأة وحنان شريكة العمر.. ووجدها حسناء سامقة في صورة الاكتمال التي تراءت له عبر المشوار الموحش, لكن حبل المشنقة قطع مسيرة الوصال.. وإذا ما كان سيد قطب قد ترفق بالشاعر نزار قباني في عام1948 عندما ذهب إليه ليهديه ديوانه طفولة نهد بقوله إن نزار قد نقل الشعر إلي المخادع, ومن هنا لن يكتب عنه.. لكنه لم يترفق بأستاذ الفلسفة الدكتور عبدالرحمن بدوي عندما أصدر ديوانا بعنوان مرآة نفسي فكتب مندهشا: مدهش أن ترتفع جرأته النادرة إلي حد أن يواجه الناس بهذا الكلام, وينشر في ديوان, ثم لا يقدمه إليهم في تواضع ويدع لهم أن يقبلوه أويرفضوه, بل يطلع عليهم في ادعاء عريض, ويقدمه إليهم بإعلانات غريبة عن العبقرية والآفاق الجديدة التي لم تخطر لهم ببال! كل هذه التفاهة في التفكير والتعبير, وكل هذه الركاكة في النظم والأداء, وكل هذه الأخطاء اللغوية, وكل هذه البراءة من الحساسية الموسيقية والذوق التعبيري, وكل هذا الإعياء حتي في النظم اللفظي.. هذه عملة لا يجوز أن تمر, فهي استهتار يتجاوز حدود الجرأة, ولابد أن يوضع حد لهذه المساخر بأية طريقة.. و..حتما تغير سيد قطب أو قد نسي أو سهي أو لغي عشرة أعوام, ما بين عام37 عندما نشر قصيدته صدي قبلة وعام48 الذي رفض فيه أن ينقد ديوان نزار قباني طفولة نهد.. لكننا ونحن في ظروفنا الحياتية الاجتماعية المصرية الاكتئابية الحالية الحرجة نقف راصدين بالمرصاد لا ننسي صدي القبلة الحارة التي قال فيها سيد: حرارتها لم تزل فائرة.. ونكهتها لم تزل عاطرة أحس حرارتها في فمي.. كما تصرخ الشعلة الثائرة وأنشق نكهتها كالشذا.. يفوح من الزهرة الناضرة أذلك جسم؟ فأين الخيال.. وأين عرائسه النافرة؟ ثوان تركز فيها الزمان.. تبارك دنياي والآخرة ومن ديوان أشعاره الكامل توقفت طويلا لألبي نداء الخريف عندما ينادي سيد: تعالي أوشكت أيامنا تنفد تعالي أوشكت أنفاسنا تبرد تعالي هذه الأيام لا ترجع لنبعث في حمي الحب ليالينا فهذا الحب إذ نحييه يحيينا تعالي.. تعالي لم يعد في العمر متسع تعالي لم يعد في الكون منتجع وغول الدهر لا يبقي ولا يدع تعالي.. تعالي أوشكت أنفاسنا تبرد صاحب الموهبة الفذة التي نظرت للجهاد وأصلت ألفاظ الجاهلية والحاكمية وجعلت كلماته النافذة تتسع دوائرها مع الأيام, كشف عن سرها يوما بقوله: إن السر العجيب يقع في قوة التعبير وحيويته, وليس في بريق الكلمات, وموسيقي العبارات, وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات, وما وراء المدلول, وفي ذلك التصميم الحاسم علي تحويل الكلمة المكتوبة إلي حركة حية, والمعني المفهوم إلي واقع ملموس. [email protected] المزيد من مقالات سناء البيسى