مقدمة في إعادة بناء الصناعة الوطنية لماذا البدء الآن تحديدا بمقدمة أولية في قضية الصناعة الوطنية؟. تتعدد الإجابات ولكنها تتداخل داخل وعاء فكري واحد: أولًا: لأن ثمة صلة مدهشة تشكل علاقة خاصة بين الصناعة في مصر، وبين مراحل التاريخ الوطني، وهي صلة تكاد تصل إلي قيمة القانون العلمي، فعلي امتداد التاريخ الوطني، كاد صعود الصناعة يكون دالة علي صعود مصر ذاتها، وكاد هبوطها وانحدارها يكون دالة علي هبوط مصر وانحدارها أيضًا، وتلك معادلة ثابتة لا تخطئها عين، عبر محطات التحول الكبري في حياة المصريين، فلم يكن صعود الصناعة دالة علي نجاح القائمين عليها أو علي سلامة قصدهم، وإنما دالة علي سلامة قصد الدولة المصرية، وصحة توجهها الاستراتيجي. ثانيًا: لأن الصناعة هي مشروع المشروع الوطني، فهي لا تزدهر إلا في إطار مشروع وطني متكامل، تصعد به ولكنها تقوم عليه، فالصلة بين الصناعة والزراعة والتجارة لا تنفصم، كما أن الصلة بينها جميعا وبين التعليم والبحث العلمي علي جانب، والاقتصاد والطاقة علي الجانب الآخر، عميقة في بنية أي استراتيجية عامة للدولة أو للمجتمع. ثالثًا: لأن هناك وجهًا مصريًا للخصوصية حتي في هذا الحيز، فقد وُلدت الصناعة في أوربا علي أيدي الظاهرة الاستعمارية في صورها التجارية، لكن الصناعة المصرية، وُلدت علي أيدي الزراعة، ليس فقط لأن لها السبق الطويل تاريخيًا، ولكن لأن أغلب ما تنتجه الأرض في مصر، هي محاصيل زراعية صناعية، ولذلك فإن الصلة بينهما في الحالة المصرية أكثر تداخلًا، فقد قامت القواعد الصناعية في أوروبا علي أيدي الرأسمالية الصاعدة في صورها الفردية، بينما احتاج بناء هياكلها الكبيرة في مصر إلي قوة الدولة. رابعًا: لأن ردّ تخلف الصناعة المصرية، إلي غياب وفرة من المواد الخام هو تعلل كاذب، فالتجربة الصناعية اليابانية بدأت وليس في حوزتها سوي الفحم وقودَا، وكان عليها ولا يزال أن تستورد المواد الخام، ثم أضيف إليه كل الوقود بترولا من الخارج، والأمر نفسه ينطبق علي إيطاليا، التي لم يكن لديها غير الحديد، ثم أضيف إليه الغاز الذي لم تفرط به بيعًا أو تأجيرًا، وإنما حوَّلته إلي مشروع استراتيجي لإعادة بناء وتطوير الجنوب الإيطالي كله. خامسًا: لأن إرجاع تخلف الصناعة المصرية، إلي عدم وجود قوانين جاذبة للاستثمارات الأجنبية في مجال الصناعة، مردود عليه بتجربة الصين التي استطاع كل كيلومتر مربع واحد في مناطقها الصناعية أن يجذب استثمارات أجنبية تصل إلي مليار دولار، رغم أن قوانين الاستثمار في الصين ليست أكثر تساهلا من قوانين الاستثمار في مصر، فالمشكلة ليست في جاذبية القوانين، وإنما في جاذبية البيئة. لكنه أمر يحتاج إلي شرح وتفصيل، ولذلك فإن سعي وزير المالية الحالي المستنسخ بالانتماء والفكر والوظيفة من يوسف بطرس غالي، لجذب الاستثمارات البريطانية من خلال مؤتمر في لندن، لا يخرج عن تبديد لوقت ومال وطاقة في إطار متقادم ومستهلك. سادسًا: لأن أكثر دعاوي التقزّم المصري، ظلت موصولة بإشاعة قناعة عامة بأن مصر لا تصلح لأن تكون بلدًا صناعيًا، وأنها مجبولة علي أن تبقي لعوامل البيئة والنهر والموقع قاعدة زراعية، ولم تكن هذه القناعة الكاذبة، إلا امتدادًا لفكر استعماري قديم ومتجدد، يرتكز علي تقسيم العمل الدولي، شأنها شأن تلك المحاولة التي تمت بقوة دفع أجنبية علي امتداد العقود الأخيرة، مستهدفة تحويل مصر إلي دولة خدمات، سياحة، ومالا، وخطوط مواصلات، وكلا الأمرين لا يخدم في النهاية، سوي مصالح أجنبية خالصة. سابعًا: لأن ثمة أصوات ترتفع الآن في وجه الاستراتيجية الوطنية الشاملة، التي يمثلها المشير عبد الفتاح السيسي، تختزل وتمسخ قضية الصناعة، إما بتصويرها علي أنها بالدرجة الأولي مجرد تشجيع وتمويل للصناعات الصغيرة، ومتناهية الصغر، وإما باستخدامها دفاعًا عن مصالح ذاتية ضيقة، كالمطالبة بعدم إلغاء الدعم عن الصناعات كثيفة العمالة، حتي لا يهرب الاستثمار الأجنبي، وكالمطالبة بإعادة النظر في التشريعات التي تحكم الاستثمار الصناعي والزراعي والتجارة الداخلية، لصالح المستثمرين والتجار، أو إعادة النظر بالسياسة الضريبية والمالية الخاصة بالمناطق الصناعية، أو تخفيض أسعار الأراضي.. إلخ.. ثامنًا: لأن بؤس الصناعة في المحصلة النهائية كبؤس الفلسفة، ليس كامنًا فيها، وليس جزءًا منها، وإنما هو يتنزل إليها من بؤس السياسة، إنه باختصار صورة موازية لفقر السياسة، واعتلال الاستراتيجية. لقد بدأ الصعود الصناعي مصريًا في قلب مشروع محمد علي، الذي كان أعمق ما في رؤيته مفهوم الدولة المركزية ودوائر أمنها القومي ومصادر قوتها الشاملة، محددة في قوة الاقتصاد، وقوة الجيش، ولم يكن قصد محمد علي من الصناعة بناء بيئة صناعية، تمد الجيش باحتياجاته من السلاح والعتاد، أو إنتاج ما يمثل إحلالا محل الواردات، فقد لخصه في فهم دقيق يخفي وراءه منهجًا لم يكن قد استقر بعد في البيئة الفكرية للقرن الثامن عشر، فحسب قوله: 'إن هدفي ليس التصنيع، وإنما صبغ الشعب بالصبغة الصناعية'، أي ليس بناء أو تحديث أدوات الإنتاج الصناعي فحسب، وإنما إعادة بناء وتحديث القوي البشرية ذاتها. وعندما تمددت مصر بطاقة القوة الجديدة صناعةً وزراعةً، وشعبًا وجيشًا، وثبتت أعلامها فوق مساحة تساوي نصف قارة أوربا، توحدت أوربا لأول مرة في تاريخها لضرب التجربة وإجهاضها، وكما فرضت علي القوة العسكرية المصرية انكماشًا جائرًا في أعدادها، كسرت تجربة التنمية المستقلة، وطبقت نظام تركيا الضعيف، الذي يقوم علي الإقطاع والحرف، حيث فتحت الأسواق المصرية أمام السلع الأجنبية بالقوة، تحت مسمي آخر هو إلغاء الاحتكار، الذي كان تعبيرًا قديمًا عن 'حرية التجارة'. ولم تستطع الصناعة المصرية الصمود أمام فيضان البضائع الأجنبية، ليبدأ ما يمكن أن نطلق عليه باللغة الراهنة 'عصر الانفتاح الأول'، حيث دخلت رؤوس الأموال الأجنبية، وبدأ 'الغزو الرهني' فبيعت المصانع كقطع وأدوات وماكينات وشُحنت إلي الخارج، وقُتلت الصناعة وما تبقي من آلات ومعدات مصانع غزل القطن، والآلات والبواخر وأحواض بناء السفن، ومصانع المدفعية والأسلحة والذخيرة، وحتي دار سك النقود. لكن ذلك لم يمنع من محاولة إعادة تنفس صناعي للصناعة، لكنها كانت معدودة ومحدودة وغير ممنهجة في عصر إسماعيل، لم يقدَّر لها أن تعيش طويلًا، فقد جاء الاحتلال البريطاني، ليهدم كافة القواعد الصناعية الصغيرة ذات الطابع المحلي الخالص، ويستبدل بمنتجاتها واردات أجنبية، فقد كان 'كرومر' يري أن كل مصنع يُفتح في مصر يغلق مصنعًا في بريطانيا وهكذا كان انهيار أو هدم الصناعة كاملا وشاملا، غير أن إغلاق الموانئ وتوقف السلع الأجنبية، خلال سنوات الحرب العالمية الأولي، أتاح لبعض قطاعات الصناعة الوطنية فرصة للنهوض سدًا للفراغ، وهو ما تكرر في سنوات الحرب العالمية الثانية، ولكن بقوة دفع أكبر، فقد كانت النموات الاقتصادية الوطنية في ذلك التوقيت تتمتع برشاد غالب، وبنزعة وطنية قوية للاستحواذ علي سوقها الوطني، وإذا كانت محاولات تطويق هذه النموات الصناعية الرشيدة لم تتوقف بعد انتهاء سنوات الحرب، فلم تلبث ثورة يوليو 1952 أن دفعت في عروق الصناعة المصرية، دمًا وافرًا جديدًا ابتني لها قواعد واسعة فوق الخريطة المصرية، فقد بلغ معدل نمو الصناعة بين عامي 1954 و1964 نسبة قدرها 10% سنويًا، قبل أن يسجل في العامين التاليين نسبة نمو وصلت إلي 15.5% سنويًا، قبل أن تجيء صدمة 'يونية' 1967 ثم عصر الانفتاح الثاني، ثم موجة بيع الأصول الصناعية، في قلب برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، هوي بالقطاع الصناعي، وأدخل الصناعة الوطنية في محنة حقيقية، أهم مظاهرها تقزُّم وحداتها، وتقليل القيمة المضافة في إنتاجها، وتوجه إنتاجها نحو السوق المحلي، مع اختلال واضح في التوازن بين الصناعة والتجارة، وانخفاض نسبي كبير بين الأنشطة الإنتاجية، قياسًا إلي زيادة مضطردة في الأنشطة الطفيلية. ثمة نقاط في هذا الحيز تحتاج إلي التأكيد: أولًا: دون ربط الصناعات الصغيرة والمتوسطة بالصناعات الكبيرة، فسوف تظل الصناعة تمشي علي رأسها بدلًا من قدميها، وسوف يظل الاعوجاج هو السمة الرئيسة في هياكلها. إن المشروعات الصغيرة عمومًا لا تساهم إلا بنسبة 4% من الاقتصاد المصري، بينما تساهم في الصين بنسبة 60%، وفي تايوان بنسبة 70%، وفي اليابان بنسبة 56%. وعلة ذلك هي تشتت هذه المشروعات، وعدم وجودها في إطار منظومة صناعية متكاملة، تمثل هي قاعدة أساسية لها، بأن تكون مصدر المدخلات في إنتاج المصانع المتوسطة والكبيرة، وفق خطوط إنتاج متصاعدة ومتكاملة. ثانيًا: لابد من التأكيد علي العودة إلي دور الدولة في الاستثمار في شركات صناعية متوسطة في البداية بالتعاون مع البنوك، إذ إنه لا سبيل إلي تحقيق تنمية صحيحة، تولِّد فرص عمل حقيقية، إلا برفع معدلات الدولة في البيئة الإنتاجية، ولا سبيل إلي تحقيق ذلك مع شحة الإمكانات المتاحة داخليًا وخارجيًا، سوي اللجوء إلي التمويل بالعجز، مع امتصاص الآثار السلبية له بحزمة من الإجراءات الخاصة، مثل التركيز علي سلع التصدير، أو علي نوعية من الاستثمار قصير الأجل، لكن تحديد التوجه التالي بطرح هذه الشركات كاملة للاكتتاب العام قد لا يكون حلًا مناسبًا، لأنه سيجمد إمكانيات النمو المستقبلي لها، وهناك بالتأكيد اقتراحات أخري غير طرحها للاكتتاب العام، للحيلولة دون تجميد إمكانات النمو المستقبلية، كالطرح الجزئي، والاكتتاب المستقبلي. إن الهند -مثلًا- في مشروعها للخصخصة لم تبع مصنعًا واحدًا، ولكنها قدرت حدود وإمكانية النمو العام في كل مصنع كبير من مصانعها، وطرحت للاكتتاب العام، ما يقابل هذا النمو المطلوب في كل مشروع، وقد تمكنت بذلك من مضاعفة حجم وإنتاج مصانعها علي جانب، ومن توسيع قاعدة الملكية الخاصة، وضخ استثمارات جديدة علي الجانب الآخر، ودون أن تمس بقواعد الملكية العامة. ثالثًا: من الضروري تحفيز المصانع علي استخدام تكنولوجيا أحدث في عمليات الإنتاج، ولكنني أحد الذين يعتقدون أن الحصول علي تكنولوجيا متقدمة في الحالة المصرية، لن يتم من خلال التحفيز الذاتي، ولا من خلال المساومة الفردية، فلا سبيل للحصول علي تكنولوجيا متقدمة بغير خطط تتم بواسطة الدولة، وبنظام المساومة الجماعية، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق علي اكتساب القدرة علي صناعة معدات الإنتاج محليًا، ففي مجال تكنولوجيا الصناعات الخمس الأساسية 'الصناعات المعدنية– صناعة المحركات– الصناعات الكيماوية– الصناعات الكهربائية– صناعة الإلكترونيات' لم تقدم لنا الولاياتالمتحدةالأمريكية، بالدرجة الأولي ولا أوربا بالدرجة الثانية، ما يمكن أن يُعَدَّ تكنولوجيا متقدمة، أو اكتسابًا للقدرة علي صناعة معدات الإنتاج، وكلا الأمرين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدور الدولة لا بسواها. رابعًا: لابد من ربط التنمية الصناعية، بالابتكار والبحث العلمي، لكن مسألة الابتكار والبحث العلمي، أبعد مدي وعمقًا من ذلك بكثير، أي أنه لا تطوير حقيقيًا للصناعة داخل حقلها المغلق، ودون تحفيز للبحث العلمي اهتمامًا وتمويلًا، في إطار توجه استراتيجي للدولة المصرية، فأي تطوير أو تحديث كان يمكن أن يحدث في حقل الصناعة، إذا كانت ميزانية البحث العلمي في مصر ظلت تتمتع بالمستوي الأدني دوليًا؟ فقد تقزمت إلي نسبة غير مسبوقة هي 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما هي للمقارنة في إسرائيل تصل إلي 4.8% من هذا الناتج. لقد قلت منذ البداية إن بؤس الصناعة ليس قائمًا في الصناعة، ولكنه كامن في التجارة والزراعة والتعليم والبحث العلمي والاقتصاد، وفي كافة المفردات التي تصوغ استراتيجية تنمية وطنية شاملة، ولذلك فرغم الترحيب بكل جهد يمثل قوة دفع لإخراج الصناعة الوطنية من محنتها، فإنه سيكون جهدًا ناقصًا أو جزئيًا، إذا لم يكن منبثقًا من استراتيجية وطنية شاملة. ولذلك فإن علينا أن نؤسس لمنهج صحيح، ترتكز فيه استراتيجية تنمية الصناعة علي قواعد صحيحة لاستراتيجية وطنية بديلة شاملة. وفي هذا الإطار قد يكون مهمًا تأكيد النقاط التالية: أولًا: لا إخراج للصناعة من أزمتها، ولا تحديث لها ولا غيرها، في ظل أوضاع احتكارية غالبة ومؤثرة في السوق. إن الاحتكار ليس نقيض الركود، بل إنه قد يمثل أحد وجوهه، لأن نزعة الاحتكار تزداد في ظل الركود، فعلي خلفية انخفاض عام في المبيعات، لا حل للزيادة سوي بانتزاع أنصبة الغير، أو الاستيلاء علي فرص مبيعاتهم من السوق، ولذلك فإن أصحاب الصناعات الصغيرة هم أكثر المتضررين من الأوضاع الاحتكارية التي تسيطر علي السوق المصري، وليس من العدل أن يتحكم سبعة صناع في قطاعات حيوية من الصناعات القائمة، أو أن لا يري قانون منع الاحتكار احتكارًا في السيطرة علي 50% من إجمالي 71 سلعة في السوق، وهي نسبة لا مثيل لها في الدنيا، لأنها تمثل أحد حوافز السعي إلي الاحتكار. إن الموجة الأخيرة من ارتفاع الأسعار في المواد الغذائية – علي سبيل المثال – يقف وراءها عدد محدود من كبار المحتكرين للسلع الغذائية، فإذا كان المصريون يستهلكون مليونًا و600 ألف طن من الزيتون سنويًا، 85% منها زيوت وخامات داخلة في صناعة السمن تأتي عن طريق الاستيراد، فإن شركتين لمستثمرين عرب تسيطران علي 65% من حصتها، بينما لا تسيطر شركات قطاع الأعمال سوي علي 20% من حجم سوق الزيوت المصرية. وفي مجال إنتاج المكرونة –مثلًا– فإن ثلاث شركات تسيطر علي السوق بشكل كامل، حيث تسيطر الأولي علي 52% من سوق المكرونة، والثانية علي 35%، وتتكفل الثالثة بالنسبة الباقية، وهي الحالة نفسها في مجال السكر، الذي لا نحقق منه اكتفاء ذاتيًا سوي بنسبة 34%، بينما تسيطر شركة واحدة علي 60% من حجم السوق. وتستطيع أن تضيف إلي ذلك ما شئت من الأسمنت والحديد، في ظل غياب كامل للدولة في السوق الداخلي لا إنتاجًا ولا تحديدًا لهامش ربح، بينما يشغل أصحاب هذه المصانع والشركات وغيرها، أهم المواقع القيادية في اتحاد الصناعات والغرف التجارية. ثانيًا: لا تطوير للصناعة، ولا تحديث لها في إطار منهجها الوظيفي القائم، الذي يرتكز علي قلة القيمة المضافة، وعلي أن قاعدة الصناعة ليست الإنتاج الصناعي، وإنما التجميع الصناعي، فلم تقم حتي الآن قاعدة لإنتاج سلع وسيطة، وصناعات مغذية، والمشكلة في ذلك ليست قلة الكفاءة الإنتاجية فحسب، ولكن هامشية الاعتماد علي الذات، ومحدودية القيمة المضافة، ودون عمق هذا الفهم ووضوحه، فإننا لسنا بصدد تحديث للصناعة، وإنما بصدد عمليات جزئية تدخل في نطاق الإحلال والتجديد. لقد تدهورت الصناعة في مصر بشكل غير مسبوق، وتلك ظاهرة تطال توجه قطاع الأعمال قبل القطاع الخاص، يكفي لتوضيحها – مثلًا – أن شركة النصر للسيارات التي بدأت صناعة السيارات في مصر منذ عام 1958، واستطاعت أن تحقق نسبة تصنيع قدرها 70% من إنتاج سيارات الركوب، ولواري النقل من بينها تصنيع المحرك الديزل بالكامل، والكابينة، وجسم السيارة، وجسم الأتوبيس، ونسبة كبيرة من التروس، قد تم تدمير بنيتها، لصالح شركات خاصة، قزَّمت صناعة السيارات في عمليات تجميع لا نصيب للصناعة فيها، ونحن نتحدث عن صناعة تنشئ وتدير وتنمي 600 صناعة مغذية. لا بديل – إذن – عن الخروج من هذا المنهج الوظيفي الضيق، فلا تحديث للصناعة دون تلبية احتياجات القطاعات الصناعية الرئيسة، التي تشكل قاعدة لإنتاج الماكينات والمعدات اللازمة لكافة الصناعات، إضافة إلي إنتاج الخامات الأولية لكثير من المنتجات الكيماوية، كالبويات والمطاط والبلاستيك والأسمدة، التي ارتفع استيرادها بنسبة 400%، فلا نزال نستورد أغلب المواد العضوية البسيطة، حتي مستوي ملح السترات من الخارج، بل إن الموازنة العامة للدولة تضمنت قبل بضعة أعوام بندًا مدهشًا، احتوي علي استيراد مسامير بقيمة 25 مليون جنيه. ثالثًا: لا تنمية ولا تحديث للصناعة، دون التركيز المباشر علي تحديث أدوات الإنتاج ذاتها، وللتذكرة فقط، فإن نسبة الإنتاج العلمي والتكنولوجي في دول الاتحاد الأوربي، تصل إلي ألف ضعف لمثيلاتها في مصر، وللتذكرة أيضًا فإن التصنيع هو جوهر التحديث، لأن قوة دفع المجتمع التقليدي إلي المجتمع الحديث في النهاية، هي استخدام الناس للعلوم والتكنولوجيا في أساليب حياتهم، وليس مجرد تجديد لبعض أساليب الإدارة وبعض أدوات الاتصال، وللتذكرة أيضًا فإن الثورة الصناعية التي بدأت في انجلترا، تواصلت بدون نظرية متكاملة، فقد جاء الإسهام النظري 'خاصة لآدم سميث' لاحقًا علي ممارستها وتجربتها، وفي النتيجة النهائية فإننا الآن في وضع أفضل من حيث الوضوح النظري، يتيح توليد نظرية متكاملة لأن خبرات النجاح ودروس الفشل حاضرة. رابعًا: لا تنمية للصناعة، ولا تحديث لها، في ظل نظرة تفكيكية تفصل الصناعة عن الاستراتيجية القومية الشاملة، وتفصل تحديث الصناعة عن التحديث التكنولوجي، وتفصله عن تطوير قدرات البحث العلمي. لقد ظلت ميزانية الباحث العلمي، من ميزانية البحث العلمي في مصر خلال العقود السابقة، لا تتجاوز 100 جنيه في العام، أي أن نصيبه يوميًا من أجل قيامه بأبحاث علمية هو 27 قرشًا، والغريب في ذلك أن عمر مؤسسة البحث العلمي في مصر متمثلة في المركز القومي للبحوث، أقدم من أعمار عدد من دول المنطقة، فقد تأسست قبل ثلاثة أرباع قرن. لهذا ينبغي أن يكون واضحًا، أن مدي قدرة الدولة علي المنافسة علي الصعيد الدولي، ومدي قدرتها علي قيادة بلدان المنطقة، إنما تتوقف علي قدرة الدولة علي التنمية التكنولوجية، وعندما نقول القدرة علي التنمية التكنولوجية تحديدًا، فإن الأمر يبدو متلازمًا مع حضور استراتيجية قومية، وخريطة صناعية، وقاعدة بحثية علمية، إضافة إلي خطة لتنمية الموارد البشرية، وبغير ذلك يصبح التحديث شكليًا، ولا ينجب سوي هشاشة صناعية. خامسًا: لا تنمية ولا تحديث للصناعة، دون خريطة صناعية وطنية جديدة، إننا نتحدث كثيرًا عن التجربة اليابانية وهذا حقنا، ونتحدث كثيرًا عن أنها اعتمدت علي الصناعات الصغيرة وهذا صحيح، لكننا نتجنب الحديث عن أن التجربة اليابانية لم تنهض إلا علي التدخل المباشر من الدولة لإحداث التصنيع، وعبر تطور مدروس ومدفوع من داخل المؤسسات التقليدية، كما أنها لم تحصل علي التكنولوجيا من الخارج، إلا بأسلوب موحد هو الذي ضمن لها قفزة تكنولوجية نوعية، وهو أسلوب المساومة الجماعية تحت مظلة الدولة. ولذلك فالعشوائية والاعتماد علي المبادرة الفردية، لن تحقق النتائج المرجوة، شأنها شأن العشوائية في مجالات الاستثمارات وطبيعتها، ولهذا فإن هذه الخريطة التي ينبغي أن يتم ترتيبها فوق أجندة أولويات محسوبة، ينبغي أن يكون من أهدافها، دفع الاستثمار بعيدًا عن الأنشطة الثانوية قليلة المخاطر، ذات الكثافة الرأسمالية المنخفضة، والتي لا تستهدف سوي تحقيق أرباح عاجلة تفلت بها إلي الخارج، وينبغي أن يكون من بين أهدافها، عدم تكرار المشروعات القائمة والتي تراكمت نمطيًا كالسيراميك وتجميع السيارات وأدوات التنظيف وغيرها. سادسًا: لا تنمية ولا تحديث للصناعة، دون تحديث التنمية، ولا تحديث للتنمية دون فهم أكثر حداثة لها، يوازن بين حاجات السوق، وضرورات التخطيط، وبين خصوصية التنمية الوطنية، فوق قاعدة الاعتماد علي الذات، وبين عوائد الانفتاح المفيد علي الخارج. إن لدينا منتجين ينتجون أصلًا للسوق المحلية، ولدينا وحدات صناعية قزمية، وشركات عالمية تنشئ وحدات للاستحواذ علي نصيب من كعكة السوق المحلي، وليس من أجل التصدير، ولدينا بالتالي صناعة تفتقر إلي القدرة التنافسية، وحلول ذلك ليست في خطط وبرامج الصناعة وحدها، وإنما في خطط التنمية الشاملة ومناهجها. إن فهمًا أكثر حداثة للتنمية، لابد أن ينطلق من الميزات النسبية الوطنية، ومن قناعة أنه لا قيمة للارتكاز علي مبدأ نسبة النمو العام، دون أن يشكل نمو الصناعة ثلاثة أمثال هذه النسبة، ومن قناعة أن مؤسسات التمويل الدولية ليست معنية ولن تقوم بمساعدتنا في ذلك، لأنها تسعي في النهاية إلي امتصاص أسواقنا دون منافسة داخلية. تلك مقدمة ضرورية في قضية الصناعة الوطنية، ولكنها تحتل موقع القلب، في استراتيجية النهوض الوطني. site: www.ahmedezzeldin.com mail: [email protected]