كان الصراع بين الثورة والإخوان - أو قل حسن الهضيبي- قد تفجر علي صفحات الجرائد خاصة حين هاجم الهضيبي الثورة ومشروع اتفاقية الجلاء في يوليو 1954 بعد أن سمح له بالسفر إلي سوريا فلما عاد في 22 أغسطس جوبه بحملة ضارية ووثائق دامغة عن مباحثاته السرية مع الإنجليز والأمريكان.. والتي كانت كفيلة بتقديمه للمحاكمة بتهمة التجسس لصالح دول أجنبية.. وبعدها اختفي الهضيبي تمامًا كعادته في أوقات الأزمات.. وجرت -في غيبته وربما بمعرفته- عدة اتصالات بين قادة الإخوان والقوي السياسية لتشكيل جبهة ضد الثورة.. وكان سيد قطب مسئول الاتصال بالشيوعيين، وطاهر الخشاب بالوفديين، وعبد المنعم عبد الرءوف بالجيش. وقد وقع جمال عبد الناصر علي الاتفاقية الخاصة بالجلاء في 19 أكتوبر 1954.. وقد استقبلها الرأي العام ببهجة عارمة.. وبعد أيام اجتمعت الهيئة التأسيسية للإخوان، وكانت مكونة من 120 عضوا للبت في مواقف الهضيبي ومصير الجماعة وقررت فصل الهضيبي لعدم استطاعته التفاهم مع الثورة وتعريض الجماعة ومستقبلها للضياع. ومن العجائب أنه في 24 أكتوبر 1954، أي بعد خمسة أيام من توقيع اتفاقية الجلاء، قام كمال خليفة أبرز أعضاء مكتب الإرشاد وقتها بزيارة لجمال سالم نائب رئيس الوزراء للتهنئة باتفاقية الجلاء.. وراجت إشاعة بتأييد الهضيبي - المختفي- للاتفاقية.. وفي مساء 26 أكتوبر قام أحد قادة مكتب الإرشاد بزيارة السادات في مكتبه بجريدة 'الجمهورية' طالبًا منه التوسط للحصول علي موعد بلقاء جمال عبد الناصر.. وفي ذات الوقت كان عبد الناصر يلقي بيانه عن اتفاقية الجلاء وسط الجموع بميدان المنشية بالإسكندرية، حيث أطلق عليه محمود عبد اللطيف -وهو سمكري من إخوان إمبابة- ثماني رصاصات.. ونجا عبد الناصر بإعجوبة.. وكان التحول الحقيقي في العلاقة بين الثورة والإخوان.. وتم اعتقال عدد كبير من الإخوان ومعهم الهضيبي الذي فسر اختفاؤه قبل الحادث بشهرين علي أنه جزء من المؤامرة.. وصدرت أحكام محكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية السادات وحسين الشافعي بإعدام محمود عبد اللطيف ويوسف طلعت وهنداوي دوير وإبراهيم الطيب وعبد القادر عودة ومحمد فرغلي.. وخفف الإعدام إلي المؤبد بالنسبة للهضيبي، وبالمؤبد علي سبعة آخرين من أعضاء مكتب الإرشاد.. وقد توج هذا الصدام بتعزيز مكانة عبد الناصر والثورة، حيث غيب الإخوان، وانتهي وجود الأحزاب وعزل محمد نجيب.. وفشلت محاولات الانقلاب العسكري، واحكمت الثورة قبضتها علي البلاد.. وما أن حل عام 1956 حتي انتخب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية دون منافس ليؤمم قناة السويس بعد 35 يوما من ولايته.. ويقع العدوان الثلاثي الذي جوبه بمقاومة باسلة من عبد الناصر والشعب ورفض دول العالم.. وانتصرت مصر في قهر العدوان وفي معركة التأميم وتمصير الشركات الأجنبية، وألغيت اتفاقية الجلاء وصفيت القاعدة البريطانية من القنال وصودرت ممتلكاتها.. وأصبح عبد الناصر بطلا قوميا ورمزا للزعيم الذي فرض نفسه وبلده علي العالم. وكالعادة لم يعترف الإخوان بأخطائهم الفادحة وعلي رأسها محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية، ووصفوا الحادث بالتمثيلية التي أجاد صنعها عبد الناصر.. وأذكر أنني التقيت الدكتور فريد عبد الخالق أحد قادة الإخوان المؤسسين ورفيق البنا.. في منزله قبل رحيله بأقل من عام.. وقد صارحني بأنه علم أن إخوان إمبابة يدبرون لاغتيال عبد الناصر.. فتوجهت إليهم قبل الحادث بأسبوعين واجتمعت مع هنداوي دوير وإبراهيم الطيب 'المحاميين' كانا يمثلان قادة إخوان إمبابة.. وظللت أناقشهم حتي الفجر.. وقد أفهموني أنهم اقتنعوا برأيي.. وأن علي ألا أشغل بالي بأمر لم يعد قائما.. وكانوا كاذبين.. وقد قمت بنشر ذلك في حينه.. وفي حياته يرحمه الله. وعقب حادث المنشية والحكم علي الهضيبي بالإعدام ثم تخفيفه إلي الأشغال الشاقة المؤبدة لينتقل بعد عام -لكبر سنه- من السجن إلي الإقامة الجبرية في منزله والتي زالت عام 1961، اختفت أخبار الهضيبي ومعه الإخوان تمامًا.. ولم يعد اسم الهضيبي إلي الظهور إلا بعد 11 سنة وبالتحديد مع قضية سيد قطب المعروفة ب 'تنظيم 65'.. وكان سيد قطب قد التحق بالإخوان في عهد الهضيبي.. ورحب به الرجل وعينه رئيساً لقسم نشر الدولة خلفا للبهي الخولي عقب خلافات بينهما، ثم عهد إليه برئاسة تحرير 'الإخوان المسلمون'.. وفي السجن بعد حادث المنشية 1954، كان سيد قطب مقيما في مستشفي السجن نظراً لحالته الصحية.. وقد توصل لعدد من الأفكار عن الجاهلية، والحاكمية والمجتمع المسلم.. والإيمان والكفر.. وكلها مستمدة من مؤلفات 'أبوالأعلي المودودي' وقد عارضها عمر التلمساني وقدامي الإخوان.. ولكنها تسربت إلي خارج السجن.. وأيدها الهضيبي وزكاها.. وأمر بطباعتها فكان كتاب 'معالم في الطريق'، وقد تلقف تلك الأفكار عبد الفتاح عبده إسماعيل ومجموعة من المفرج عنهم.. وقد سعوا إلي إعادة إحياء الإخوان سرا.. وبحذر شديد وقد عرضوا الأمر علي الهضيبي، عن طريق زينب الغزالي، فوافق وسمح لهم بالعمل علي إعادة تشكيل تنظيم الإخوان وزكي سيد قطب لرئاسته.. وعندما اكتشف أمر التنظيم جري اعتقال الهضيبي مع قادة التنظيم الجديد.. وصدر عليه حكم مخفف لكبر سنه.. السجن ثلاث سنوات.. قضي منها 15 يومًا بالمستشفي، ثم إلي داره بعد ذلك.. لتكون المرة الثالثة التي يسجن فيها حسن الهضيبي.. الأولي 13 يناير 1953 والثانية عام 1954 والثالثة يوم 23 أغسطس 1965.. وقد أنجز في حياته عدة مؤلفات أشهرها 'دعاة لاقضاه' الذي شكك اللواء فؤاد علام في نسبته إليه، والثاني 'هذا القرن'.. والثالث 'الإسلام والداعية'.. وقد ظل المستشار حسن الهضيبي المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين محل جدل منذ استقال من القضاء عام 1951 ليلعب دوره كمرشد للإخوان.. وعلي مدي 22 عامًا.. نعم ظل محل جدل وخلافات حتي السابعة من صباح الخميس 14 شوال 1393ه الموافق 11 نوفمبر 1973م عندما أسلم الروح عن 82 عاما يرحمه الله.