أن التمويل السياسي أو المال السياسي، أخطر من التمويل الخارجي لمنظمات المجتمع المدني، لأنه اذا سيطر حزب أو جهة معينة علي الانتخابات وكانت ممولة من جهة خارجية وسيطرت علي مقاليد الحكم سوف تعمل لصالح الدولة الممولة لها، ويوجد أحزاب سياسية جديدة أصبح لديها مئات المقرات فجأة بجميع المحافظات' ماهي مصادر تمويلها. أن هناك حالة من ازدواجية المعايير كانت تتعامل بها السلطات المصرية في عهدالنظام البائد خلال إلقاءها الاتهامات بالتمويل لأية جهة، في الوقت الذي توجه فيه أي اتهام لنشطاء أو منظمات أو غيرها بتلقي تمويل أجنبي، كانت تقوم هي بتلقي معونات أمريكية وأوروبية.: 'كل تمويل أجنبي يستهدف تنفيذ الأجندةالسياسية لصاحبه ولمن يقف وراءه، ولكن يتحجج البعض بالتمويل المشروط الذي لايقبل مصادر تمويل أمريكية أو من جهات بعينها'.وحول علاقة الإعلام بالتمويل الأجنبي، فقد اكتفي الغرب خلال فترة ما قبل الثورة بالاتفاق مع كُتاب بعض الأعمدة وبعض الوجوه الإعلامية لترويج أفكاره مقابل تمويل تلك المؤسسات بطريقةغير مباشرة، ولكن الأمر تطور بدرجة سيئة بعد الثورة حيث أن هناك وسائل إعلام مقروءة ومرئية تمول بشكل كامل عن طريق شخص واحد غالبا ما يكون من رجال الأعمال'. للان أجهزة الأمن فيما قبل الثورة كانت تقوم بإنشاء صحف مهمتها الأولي تلويث السمعة السياسية لخصوم النظام السابق. ان الحكومة كان يجب عليها ان تسن قانونابحيث يكون تمويل هذه المنظمات من الداخل أو أن تضع شروطا للتمويل الخارجي. لابد ان تقلق الحكومة وان تحقق ان بعض منظمات المجتمع المدني من شأنها خدمةأجندات خارجية تحت ستار رعاية حقوق الإنسان. إن الأصل أن تكون الأنشطة السياسية والقضايا الخاصة بعملية التحول الديمقراطي خالية من أي تمويل أجنبي لضمان عدم انحياز الجهة الممولة لأي ضغوط أجنبية'. أن الإدارة الأمريكية غالبا ما تكون منحازة إلي الخيار السياسي العلماني ضد الخيار السياسي الإسلامي، وبالتالي فإن حصول بعض منظمات المجتمع المدني علي دعم أمريكي لدعم التحول الديمقراطي يعني بالضرورة مساندة طرف علي حساب الآخر، فيصبح بذلك مالا سياسيا بامتياز'. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية تعد المصادر الرئيسية لتمويل منظمات المجتمع المدني. إن بعض الدول الأوروبية مثل السويد وفرنسا وألمانيا تفضل إن تمنح التمويل بنفسهاأن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول علي منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدني وأن الولاياتالمتحدة قدمت 40 مليون دولار خلال خمسة أشهر لمنظمات المجتمع المدني لدعم الديمقراطية في مصر، بمعدل 8 ملايين دولار كل شهر. أن أبرز الأنشطة التي تنفق عليها المنظمات الحقوقية التمويل الاجنبي تتمثل في مراقبة الانتخابات ان تقارير هذه المنظمات عن الانتخابات البرلمانية التي جرت في عامي 2005 و 2010 أدت الي صدور حكم من محكمة النقض ببطلان الانتخابات. ان الأنشطة تشمل كذلك التركيز علي إصلاح السجون ومنع التعذيب ودعم اللامركزيةواصلاح المجالس المحلية. ان ' التمويل له تأثير قبل الثورة لان جمعيات المجتمع المدني لاسيما الحقوقية ساهمت بدور في توعية المواطنين خاصة الشباب للمطالبة بحقوقهم والاحتجاج فبات لدينا حالياً أكثر من 220 ألف شاب وفتاة في مقتبل العمر نظموا وتلقوا تدريباً وتثقيفاً يعزز من قيم ما يسمي ' الليبرالية ' في حقلي السياسةوالاقتصاد ويعلي من نماذج الحلول والنظم السياسية الغربية علي حساب ابتكار صيغ وطنية حقيقية لبناء مجتمعاتنا العربية. وهكذا زاد عد ما يسمي منظمات حقوق الإنسان في مصر وحدها من منظمة واحدة عام 1983 ' المنظمة العربية لحقوق الإنسان ' إلي أكثر من 110 منظمة حقوقية عام 2011 بعضها حصل علي الموافقة والتسجيل في وزارة الشئون الاجتماعية المصرية ' 75 منظمة ' والكثير منها لم يسجل قانونياً. فإن حجم القروض والمعونات الاقتصادية التي حصل عليا نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك منذ عام 1982 حتي عام 2010 قدر بحوالي 213 ملياردولار جاءت الولاياتالمتحدة في الصدارة بقيمة ' 63.0 مليار دولار' يليهااليابان ' 32 مليار دولار ' ثم السعودية ' 26.3 مليار دولار ' ثم الإمارات العربية ' 19.5 مليار دولار ' فالكويت ' 15.3 مليار دولار ' فكندا ' 13.5 مليار دولار ' وغيرها من الدول. وهنا نكتشف تعدد مصادر التمويل الأجنبي، بحيث يبدو وكأننا بصدد أطراف متعددةلكل منها أجندة واتجاه محدد للتمويل، حيث نجد مصادر تبدو أهلية ' كالمساجدوالجمعيات الدينية في الخليج والسعودية ' والكنائس والجمعيات الكنسية في هولندا وإنجلترا وأمريكا وغيرها. كما أن هناك مصادر تمويل شبه حكومية ' مثل هيئة المعونة الأمريكية U.S.Aid ' وصناديق تمويل علي صلة بأجهزة امن واستخبارات ' فورد فونديشن ومؤسسة فولبرايت وغيرها ' وهناك مؤسسات فكرية علي صلة بأحزاب أوروبية ' مثل فردرييش ايبرت فردريش نيومان ' وكذا ما يبدو أنه مراكز تدريب متخصصة ' هانس زايدل وغيرها '. وبالمقابل فخلف هذه الواجهات التمويلية دول كبري دولية وإقليمية بدءاً من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي مروراً بالإتحاد السوفيتي السابق إنتهاءاً بالسعودية ودول الخليج ومعمر القذافي وصدام حسين. وهنا نتساءل: لماذا تتحرك هذه المساعدات والأموال من دول الشمال في إتجاه دول الجنوب وليس العكس؟الحقيقة أن الخلل الهيكلي في دور وحجم القطاع الخيري والعمل الأهلي التطوعي في الولاياتالمتحدة ودول الغرب الأوروبي مقابل تواضع هذا الدور واختلال معاييره في دول الجنوب يؤدي إلي هذه الظاهرة الضارة. يكفينا أن نعلم علي سبيل بالمثال وليس الحصر أن عدد الوحدات الخيرية المسجلة في دولة مثل انجلترا وويلز عام 2006 قد بلغ 190 ألف وحدة ' جمعية وكنيسة.ز الخ ' ويقدر دخلها السنوي بحوالي 80 مليار دولار ' أي ما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدولة ' أما أصولها وممتلكاتها فتقدر بحوالي 140 مليار دولار. أماالموظفون العاملون في هذه الوحدات الخيرية فيقدر عددهم بحوالي 600 ألف موظف هذا علاوة علي نحو مليون شخص آخرون في صورة تطوع.. وفي كل عام يجري تسجيل ستة آلاف وحدة خيرية جديدة. وبالمقابل فإن إجمالي أموال العمل الخيري في مصر المقدرة لا تزيد علي 18 مليار جنيه إلي 22 مليار جنيه سنوياً تتوزع بين الزكاة' 12 مليار جنيه ' والتبرعات لأنشطة أو أسر وإقامة الولائم والذبائح وتوزيع لحومها وموائد الرحمن الرمضانية إضافة إلي توزيع الملابس علي الأيتام والأرامل ومساعدة المطلقات. وبينما يأتي جزء من أموال التمويل الأجنبي عبر المنظمات الأهلية والحقوقية فإن الجزء الأكبر يأتي من خلال حركة الأقباط في المهجروكنائس المهجر من جهة أخري وعبر الجمعيات الإسلامية في السعودية ودول الخليج النفطية إلي الجمعيات والأنشطة الإسلامية داخل مصر.. وخلال الفترة الانتقالية التي مرت بها مصر منذ ثورة يناير، وصولا لتولي رئيس جديد، برزت هيئات دولية كبري أخذت علي عاتقها تمويل منظمات المجتمع المدني في تلك الفترة في مجال التوعية السياسية، ومراقبة الانتخابات ودعم الإعلام، بالإضافة للتكريس لظاهرة صحافة المواطن ودعم المدونين والنشطاء السياسيين، ومن هذه الهيئات وكالة التنمية الأميركية بالقاهرة، التي رصدت 65 مليون دولار لتمويل هذه الأنشطة والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالقاهرة ومفوضيةالاتحاد الأوروبي الذي رصد 8 ملايين يورو. وهيئات كل من المعونة السويدية والأسترالية ومؤسسة المستقبل بالشرق الأوسط، حيث رصدت هذه الجهات دعما صغيرا يتراوح ما بين 15 و 25 ألف دولار للمنظمات الحقوقية أو التي تعمل في مجال المشاركة السياسية، بينما خصصت المعونة الألمانية وحدها مبلغ 6 ملايين دولار لدعم الإعلام وتدريب النشطاء من الشباب علي شبكات التواصل الاجتماعي واستخدامها في دعم صحافة المواطن. المثير في الأمر، ما كشفته تقارير وزارة التعاون الدولي المصرية من أن المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، علي رأس الهيئات والمجالس التي تحصل علي منح دولية مباشرة لأنشطته، تتراوح بين 30 و35 مليون جنيه سنويا من جهات متعددة، تشمل هيئة المعونة الأميركية والمعونة الإسبانية والبرنامج الانمائي للأمم المتحدة واليونسكو، ومفوضية حقوق الإنسان، هذا بالإضافة إلي أن المجلس أرسل مقترحات عدة لتنفيذ مشروعاته الجديدة في مجال تدريب المراقبين التابعين للجمعيات الأهلية، وتدريب الاعلاميين والصحافيين وتمويلها من البرنامج الانمائي والاتحاد الأوروبي والمعونة الأميركية. هذا إلي جانب ما أعلنته آن بترسون السفيرة الأميركية في مصر أمام مجلس الشيوخ الأميركي عن أن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول علي المنح المقدمة لمنظمات المجتمع المدني، وأنه تم تخصيص 65 مليون دولار للمساعدات المتعلقة بدعم الديمقراطية في مصر، مشيرة إلي أن ذلك يأتي في إطار حفاظ الولاياتالمتحدة علي مصالحها في المنطقة، ودعم الديمقراطية. وكشفت السفيرة الأميركية بالقاهرة أنه تم إجراء ورشة عمل وتدريب لبعض هذه المنظمات بمحافظة الأقصر في جنوب مصر في الفترة من 15 مارس إلي 7 يونيو من عام 2011. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الأنشطة تكون مريبة في كثير من الأحيان لما تثيره من مخاوف حول ارتباطها بجهات مخابراتية، فقد كشفت وثائق أميركية منها تقرير الوقف القومي الديمقراطي الأميركي أن هناك تمويلات دفعت لمنظمات مصرية للتحرك داخل شباب الجامعات وتدريبهم علي العمل، بينما اعترف ألان وينستاين الموظف في هيئة المعونة الأميركية في لقاء قديم مع جريدة 'واشنطن بوست' في عدد 22 سبتمبر 1991 عن أعمال الوقف القومي قائلا: 'الكثير مما نقوم به اليوم كان يتم منذ 25 عاما بشكل سري علي يد الاستخبارات المركزية الأميركية'! والمعروف أن الوقف القومي الديمقراطي NED قد أسسه الرئيس الأميركي رونالد ريغان في الثمانينات لمساعدة أميركا في كسر النفوذ الروسي في العالم، وثارت حوله شبهات بأنه غطاء لأنشطة معادية ضد الدول المضيفة، وأنه ساعد حتي في إسقاط حكومات منتخبة ديمقراطيا، وأصبح الوقف الأميركي أكثر إثارة للجدل مؤخرا، بعد أن صار مقربا من الحركة السياسية الصهيونية العالمية. جدير بالذكر أن العمل الأهلي بدأ في مصر منذ حوالي 110 سنة من خلال ثلاث جمعيات نظم عملها التقنين المدني الأهلي حتي صدر القانون رقم 32 لسنة 1964 بتنظيم عمل الجمعيات الأهلية، قبل أن يعدل عام 1972 بالسماح للجمعيات الدينية أيضا بالعمل الأهلي. وفي عام 2002 بلغ عدد الجمعيات الأهلية والمدنية في مصر 34 ألف جمعية، إلا أنه بعد ثورة 25 يناير 'كانون الثاني'2011، تم تسجيل ثلاثة آلاف جمعية جديدة في أربعة أشهر فقط، ليقترب العدد الإجمالي من 37 ألف جمعية تعمل إما في مجال العمل التطوعي الخيري أو تندرج تحت بند المنظمات الحقوقية والسياسيةالمدنية. إذا كانت هناك تمويلات سرية، فليخبرونا بما هو سري فيها، وإلا كيف عرفوها لوكانت سرية! أما الأمر الثاني فهو أن منظمات المجتمع المدني، التي تتلقي تمويلامن الداخل أو الخارج، فتخضع لأربع جهات رقابية أولها الجهاز المركزي للمحاسبات، والجهة الثانية هي مصلحة الضرائب، والثالثة هي مجلس إدارة الجمعية، ثم الجهة الرابعة، وهي الجهة المانحة نفسها أن القانون المصري الحالي، الذي ينظم عمل هذه الجمعيات، يفرض قيودا شديدة عليها، ما حدا بالكثيرين إلي التحايل بإنشاء شركات مدنية غير هادفة للربح، وقد تلقي بعضها بالفعل أموالا من الخارج بعيدا عن رقابة الجهات المسئولة في مصر، وكانت نتيجة ذلك دخول ملايين الدولارات والعملات الأجنبية لمصر من دون أن تعلم الدولة عنها شيئا. لكن مقابل هذا يري ناقدو التمويل الأجنبي أن تأثيره كان 'سلبيًا إلي حد كبير' وأن تأثيره علي البرامج أمر واقع. فالتمويل الأجنبي يأتي مرفقا ببعض الشروط التي قد لاتطرح صراحة، ولكنها تحدد مجالات معينة للعمل، وهي مجالات تتفق وأولويات الجهات المانحة ولا تتناسب بالضرورة مع احتياجات حركة حقوق الإنسان. ومن أكثر الأمثلة إثارة للانتباه الأولوية التي يعطيها التمويل للحقوق المدنية والسياسية علي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والتركيز علي قضايا الحريات الدينيةوحقوق الأقليات في تناغم مع اهتمام قطاعات من المنظمات الغربية لحقوق الإنسان والمراكز البحثية المهتمة بشئون مجتمعات الشرق الأوسط. فضلا عن أنه يحرف أولويات المنظمات المتلقية بعيدا عن تعبئة الدعم المالي والبشري الوطني ويقلل من شأنه فيفقد الحركة تماسكها مع قاعدتها الفعلية أو حتي قاعدتها المأمولة *الدكتور عادل عامر *دكتوراه في القانون وخبير في القانون العام *ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعيةوعضو بالمعهد العربي الاوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بجامعة الدولالعربية *01002884967*