متي تصبح الحقيقة مطلباً وهدفاً بدلا من ان تظل كلمة ذات أبعاد سريالية ورمزية؟ السبت: الشعور السائد في العالم العربي هو ان الذكاء السياسي اصيب بالهزال وان السياسة تسقط في المستنقع وان أهل انتفاضة الفكر فقدوا الاتجاه. وهل هناك أكثر ضررا بالروح الخلاقة من إنعدام الرؤية وغياب الشخصيات التاريخية؟ لقد صارت الحقيقة كلمة ذات أبعاد سريالية ورمزية بعد ان أصبحت مطلبا وهدفاً. وهل هناك ما هو أشد إيذاء للروح المناصرة للعدل.. من ضياع الحق وعجز القانون؟.. وهل هناك ما هو أشد ترويعا لروح الشهامة من محاولة خنق صوت الشجاعة والحرية.. وضياع الحلم؟.. وهل هناك ما هو أشد خصومة للوطن ولروح اللاطائفية من الفتن الدينية المفتعلة؟ وهل هناك ما هو أشد فتكا من الروح المنفتحة من إنغلاق العقل؟ كان الاديب »فرانز كافكا« يقول »درب الحقيقة تمتد علي طول حبل مشدود لا في الفضاء بل علي مستوي الأرض ويبدو أنه من المقدر لنا نحن البشر ان نتعثر بها لا أن نجتازها«. إننا نصطدم في حياتنا اليومية بالمطامع المعلنة وغير المعلنة وبالعجرفة غير المبررة إذا كان هناك ما يبررها والتهذيب الكاذب والوقاحة المقنعة والاحتيال السمج الذي يسمونه »شطارة« والانتماءات المهزوزة والممارسات اللأخلاقية والتصورات المشوهة والتعامي المقصود عن الحقائق والأنانيات الطائفية والمذهبية والتبعيات القبلية والعائلية والطرق المسدودة والمحسوبيات والولاءات الصغيرة وإنعدام تكافؤ الفرص والإحباط الذي يتحول الي قدر محتوم، والاختلافات التي تنقلب الي مصدر للإنقسام والمشاحنات.. ومع ذلك فإن الأرض مازالت تدور حول الشمس والأشجار تنمو، والموسيقي تصدح، وأمواج البحر تتدفق، والزبد يذهب جفاء ويبقي ما ينفع الناس في الأرض. ساراماجو الاثنين: »أعتقد بصدق، وبدون تواضع مزيف، انه خلال الإحدي عشرة سنة الأخيرة كنت علي مستوي المسئولية لذلك يمكنني ان أؤكد بأن حصولي علي جائزة نوبل لم يحدث اي تغيير في الشخص الذي كنته وهذا ما استمر عليه وفي الواقع أنني كنت أمارس هذه المسئولية منذ بدايتي في الكتابة وبخاصة عبر قوة الرفض التي يواجه بها الكاتب كل أشكال اللاعدالة واللامساواة والهيمنة«. هذا ما صرح به الكاتب البرتغالي العالمي »خوسيه ساراماجو« بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لكتابه »الدفتر« الذي يجمع فيه بعض ما كتبه بشكل يومي في مدونته الالكترونية. إنه أحد الروائيين القلائل الذين كانت أعمالهم تثير ضجة كبري في بلاده وفي العالم ويقول عن »دفتره«: »إن الأشياء غالبا ما تكون أبسط بكثير مما نتخيلها وفكرة إنشاء مدونة كانت نابعة من زوجتي »بيلار« بدأت بمقاومة هذه الفكرة الا انها اقنعتني في نهاية الامر. وبما أننا لم نعد نستطع ان نكون خارج الزمن الذي يمضي مسرعا افتتحنا موقعا علي الانترنت وخلال سنة كنت أكتب فيه بشكل شبه يومي وبدون انضباط ولا أعتقد أنني سأعود لمثل هذا الامر ولكن من يعرف؟ من المجازفة ان نراهن علي المستقبل«. استهل خطابه في ستوكهولم وهو يتسلم جائزة نوبل بقوله: »إن الرجل الأكثر حكمة الذي عرفته كان لا يجيد القراءة أو الكتابة« فهل كان يعني بذلك ان بعض أشكال المعرفة وحتي العلم منفصلة عن الكتابة؟ يقول ساراماجو في حديث لمجلة »ماجازين ليتيرير« الفرنسية: »التاريخ يعطينا الجواب علي ذلك علينا ان نتذكر ان الانسانية بأسرها قد بدأت بشخص أمي وبهذا المعني فإن طفلا يولد اليوم إنما يولد ما قبل التاريخ وما ان أخترعت اللغات.. حتي تحتم علينا الاستمرار في الاختراع عبر كتابة هذه اللغات إننا نعيش في حقبة يبدو لنا فيها انه لم يعد من الضروري ان نتعلم كي نعرف فقد أصبح الارتجال غير المسئول هو القاعدة والقانون«. كان ساراماجو يري ان دعوة المواطنين العاديين الي الالتزام تجاه المجتمع تحصيل حاصل ومن هنا لابد من ان يقال للكاتب أيضا بأننا لا نستطيع ان نسمح لأنفسنا بأي إنفصال - مهما كان شكله - بين الكتاب وبين المواطنين. كان يرغب في التأثير في العالم ويحاول ان يدفع القارئ لرؤية ما يكمن وراء المظاهر انه يحرضنا علي تغيير تصرفاتنا وتصحيح المستقبل. يقول ساراماجو: »احب ان اعتقد ان بعض أعمالي تمارس تأثيرا ايجابيا علي نفسية القراء وقد أبدو ساذجا عندما اجرؤ علي القول بأن إعادة الطيبة الي العلاقات الانسانية مسألة ضرورية وملحة ولكن لكي نستطيع القيام بذلك لابد من ان نفضح بشكل جذري كل المعوقات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تعرقل تحقيق هذا الهدف.. انه يكره الفردية ويعتبرها مصدر شرور وآلام للإنسانية وكان يؤكد أنه لا يستطيع أن يكون أكثر صراحة ووضوحا من ذلك وانه يكتب الروايات لأنه لا يعرف كيف يكتب أبحاثا وقد تصور في وقت من الأوقات انه يمكن ان يكون مدرسا جيدا ولكنه اكتفي بأن لا يكون كاتبا سيئاً!! تعرض ساراماجو لحملات ضارية عندما قال ان في التوراة »عادات سيئة« وأنه يجب عدم السماح للأطفال بقراءتها اتهموه بأنه محرض ومناوئ للتعاليم الحرفية للكنيسة الكاثوليكية غير انه كان يحرص دائما علي ان يحرم الخبثاء من ان تظهر علي شفاههم ابتسامة التفوق علي حد تعبيره. قبل ايام.. غادر ساراماجو عالمنا وترك وراءه كنوزاً أدبية كثيرة وأفكارا موحية ودعوة لإصلاح المستقبل. ضد قانون الغابة الخميس: اليوم 15 / مارس / 2003 المظاهرات في كل مكان في العالم: في استراليا، وآسيا، واوربا، والعالم العربي.. وفي نصف الكرة الغربي ضد الحرب الامريكية الوشيكة لغزو واحتلال العراق. وهناك وسط مظاهرة حاشدة في العاصمة الاسبانية مدريد كان خوزيه ساراماجو يقف وسط الجموع في ذلك اليوم لكي يعلن: »اننا نتظاهر ضد قانون الغابة الذي تريد الولاياتالمتحدة واتباعها فرضه علي العالم«. ومن غرائب حياة ساراماجو انه يحمل اسمين وتاريخين مختلفين لمولده. فقد ولد في عائلة من الفلاحين البرتغاليين في عام 2291 واكتشف عندما ذهب الي المدرسة لأول مرة، ان والديه قاما بتزوير تاريخ ميلاده للتهرب من دفع غرامة مالية بسبب تأخيرهما في تسجيل مولده.. كان المفترض ان يكون اسمه »خوزيه دي صوصا« ولكن أمين السجلات أضاف - سراً - اسم تدليل (دلع) في شهادة الميلاد.. هو »ساراما جو« وهو يعني نوعا من الحشائش ذات الجذور القوية التي يصعب اقتلاعها وكانت اوراق تلك الانواع من النباتات تشكل غذاء للفقراء وقت الحاجة.. وقد أثبت هذا الاسم (ساراماجو) انه ملائم تماما لصاحبه فقد كان عليه ان يتغلب علي الفقر وعلي الرقابة السياسية والدينية لكي يؤلف الكتب التي جلبت له جائزة نوبل. وقد انتقل ساراماجو الي الجزيرة الاسبانية »لا نزاروت« في اوائل التسعينيات من القرن الماضي عقب الحملة التي شنتها حكومة البرتغال اليمينية ضده بسبب مؤلفه المثير للجدل »الانجيل وفقا ليسوع المسيح« ومنعت الحكومة كتابه - تحت ضغط الفاتيكان - من الترشح للحصول علي الجائزة الادبية للاتحاد الاوروبي بحجة انه يسئ الي الكاثوليك.. وقد عاش ساراماجو في تلك الجزيرة طوال السنوات العشر الاخير من حياته. وقامت ضجة ضده لأنه اعرب عن اعتقاده بان البرتغال ستصبح يوما اقليما يتمتع بالحكم الذاتي داخل إطار اسبانيا وقال ان اسبانيا ستغير اسمها ليصبح »ايبيريا« مما اثار جدلا واسعاً. ظهرت أولي رواياته في عام 7491 وهي »بلد الخطيئة« وتتناول احوال الفلاحين في ظروف ازمة طاحنة. وبدأ العالم يعرف اسم ساراماجو وهو في الخمسينيات من عمره عندما اخذ يقرأ اعماله. ومن اخطر أعماله.. رواية »العمي« التي كتبها في عام 5991 وتروي حكاية بلد فقد جميع سكانه بصرهم ويواجه العالم »وباء« العمي ويتم الزج بأوائل المصابين بهذا المرض الغامض في حجر صحي إجباري عبارة عن مأوي متهدم للعميان.. ويوجد بين هؤلاء طبيب عيون وزوجته.. وتنفرد الزوجة بان لديها مناعة تحميها من العدوي لسبب غير مفهوم وبالتالي فانها لا تفقد بصرها أبدا.. ومع ذلك فانها تقرر دخول المأوي لكي تكون بجانب زوجها. وتخفي الزوجة عن الحراس ونزلاء المأوي العميان انها قادرة علي الابصار وهكذا تفرض شخصيتها وزعامتها علي الذين يقيمون في عنبر رقم واحد في المأوي.. ومع تدهور الاوضاع هناك بمرور الوقت.. يصبح الطعام شحيحا ويتزايد التوتر بين العنابر المختلفة. وثمة رجل في العنبر رقم (3) يتفجر بالسخط علي حصص الطعام التي لا تسد الرمق فيعلن نفسه ملكاً وبمساعدة زملائه في العنبر يستطيع السيطرة علي إمدادات الطعام ويطالب الاخرين بان يدفعوا ثمن الطعام الذي يوزعه عليهم وعلي هؤلاء الاخرين ان يختاروا بين الإذعان لمطالبه أو النضال للاطاحة بملكهم الجديد!.. الظروف التي يعيش فيها المسجونون المرضي في دار العميان تعيد الي الأذهان مشاهد من سجن ابو غريب في العراق ولقطات من الحياة في معسكر حوانتانامو. فنحن نشهد أوضاعاً وظروفاً غير ملائمة لحياة البشر ولا نري سوي القذارة والزحام.. فالمرضي يهيمون علي وجوههم وهم عراة تماما في الأروقة ويتحسسون الجدران بأيديهم لكي يعرفوا كيف يوجهون تحركاتهم. وقد صنع المخرج البرازيلي فيرناندو ميريليس من هذه الرواية فيلما سينمائيا.. وهناك من يعتبر هذا الفيلم قصة رمزية عن »الطبيعة البشرية«.. ثمة عمل فني عن كائنات تفرض عليها ظروف تتجاوز مستوي القدرة علي الاحتمال. القسوة، والاستغلال، والنزوع الاجرامي. كلها صفات تلازم طبائع الكثيرين في الرواية وهنا ايضا.. الجهل والطاعة الذليلة من جانب الباقين مما يجعل كل شئ ممكن الحدوث وبطبيعة الحال فان أي شئ يمكن ان يسمي »مجتمع« أو »مدنية« يتحلل ويتفسخ في عالم الرواية سواء في داخل أو خارج الحجر الصحي. وأفضل شئ يمكن ان يأمل فيه المرء هو ان يحتفظ بكرامته الشخصية ولكن قلائل هم الذين يستطيعون ان يفعلوا ذلك اما الكثرة.. فانها لا تستطيع. و»العمي« تتيح ل »عائلة« صغيرة من الشخصيات تحت قيادة زوجة طبيب العيون الاحتفاظ بمستوي معين من اللياقة وآداب السلوك.. والأمل. وقد امتدحت لجنة جائزة نوبل حكايات ساراماجو الرمزية ذات المغزي الاخلاقي التي يغذيها الخيال والتعاطف والسخرية«.. ومن الواضح ان رؤية مؤلف »العمي« تكشف مدي هشاشة حضارتنا ومدي سهولة سقوطها وانهيارها. ويقول ساراماجو نفسه: »انني لا أري المظهر الخادع للمدنية ولكني أري المجتمع كما هو عليه: الجوع والحروب والاستغلال.. وكل ذلك يجعلنا نعيش بالفعل في جهنم«. ويقول ايضا: »مع الكارثة الجماعية للعمي الكلي.. يظهر كل شئ علي السطح - الايجابي والسلبي - فهي صورة توضح لنا كيف نكون.. والقضية الحاسمة هي: من الذي يملك السلطة ومن لا يملك ومن الذي يسيطر علي امدادات الطعام ومن الذي يستغل الاخرين«.. ويري ساراماجو ان أعماله الأدبية تدور حول امكانية تحقيق المستحيل وهو يطالب القارئ بأن يعقد معه اتفاقا وهو انه حتي اذا كانت الفكرة سخيفة فان الشئ الهام هو تخيل تطورها فالفكرة هي نقطة الانطلاق ولكن التطور يكون دائما عقلانيا ومنطقيا.. وهذا هو المهم. في مثل هذا الوقت من العام الماضي اجري ساراماجو حديثا صحفيا قال فيه: »ربما لم يبق امامي سوي ثلاث او اربع سنوات اخري. اعيشها وقد تكون المدة أقل من ذلك وفي كل مرة. افرغ فيها من تأليف رواية.. انتظر ولادة فكرة اخري وقد لا تأتي الفكرة هذه المرة.. سوف نري«. وبدلا من الفكرة.. جاءه زائر آخر هو الموت.