كانت البداية فى مؤتمر دورى عالمى أقامه اتحاد الكتاب فى رومانيا فى يونيو الماضى وألقى فيه الأديب والصحفى رئيس اتحاد كتاب مصر، محمد سلماوى محاضرة عن الشخصية فى أدب نجيب محفوظ ضمن إطار أكثر اتساعا يحمل عنوان «صعود وهبوط الشخصية فى الأدب العالمى». المؤتمر الذى يعقد جلساته بصورة سنوية يبحث دوما عن المتغيرات التى طرأت على الأدب العالمى فى هذا العصر الذى لا يزال يوصف بعصر العولمة وعصر ما بعد الحداثة postmodernism فى الأدب والفنون. ومحاضرة سلماوى لفتت نظر أحد الباحثين الجادين فى إسرائيل وهو الشاعر والأديب الباحث، نعيم عرايدى، الذى غاص فى كتابات سلماوى وابداعاته ليخرج علينا فى النهاية بدراسة قيمة عن روايته الوثائقية الشهيرة «الخرز الملون». يقول عرايدى فى دراسته: إن عصر العولمة الذى نعيشه يتميز بالخصخصة التى شملت من بين ما شملت النواحى الأدبية وإن كانت الناحية الإيجابية فى ذلك تكمن فى السماح للتعددية اللازمة لبناء مجتمعات، فإن الناحية السلبية لهذه التعددية تكمن فى الفوضى التى أخذت تنتشر فى جميع المجالات وبشكل خاص فى مجال الأدب والفن فأصبحنا نجد اليوم العديد من المواقع الإلكترونية التى تنشر كل النصوص التى لا حد لها من الكم وانعدام الجودة الأدبية لدرجة أن «مؤلفيها لا يجيدون حتى أبسط القواعد اللغوية والأدبية». وينتقل عرايدى بعد هذه المقدمة إلى صلب الدراسة فيقول: هناك من الأدباء والشعراء المخضرمين الذين تأثروا بأدب العولمة وما بعد الحداثة. والأديب المصرى المعروف محمد سلماوى فى كتابه «الخرز الملون» نموذج لهذا التأثير. هدم الأطر/U/ يقول عرايدى إن فكر ما بعد الحداثة يرفض فكرة المحدثين فيما يتعلق بالتسلسل العقلانى الشامل للتاريخ والحياة. فلا يوجد نهج واحد للأحداث التاريخية والتى كانت تعتبر بمثابة السبب والمسبب. الأمور أصبحت مختلطة ومتشعبة بشكل لا يسمح لوجود حقيقة واحدة. وجاك داريدا وصف هذا النهج بعملية الهدم. من هذا المنطلق نعتبر أن ما يحدث للأدب «النصوص الأدبية» بكل أشكالها المعروفة والتقليدية هو عملية هدم للمألوف بكل معنى الكلمة. وأبرز نموذج لهذا الاتجاه هو الرواية التى نحن بصددها وهى رواية «الخرز الملون». نقرأ على الغلاف الأخير للرواية ما كتبه الناشر تعريفا بها: «لا تعود جرأة» «الخرز الملون» فقط إلى مضمونها السياسى والعاطفى المتفجر، وإنما أيضا لأسلوبها الفنى الجديد الذى مزج فيه محمد سلماوى ببراعة بين رواية السيرة والرواية التسجيلية». ونحن نذهب إلى أبعد من ذلك ونضيف الأسلوب الصحفى فى عملية الخلط والمزج. فالكاتب يمزج بين عدة ألوان أدبية فى أسلوبه: الفن الروائى وأسلوب السيرة والأسلوب التسجيلى وأسلوب الصحافة. نبدأ بعنوان النص «الخرز الملون» والذى لا توجد له علاقة سواء مباشرة أو غير مباشرة بهذه الرواية: «وربما كانت نسرين تفكر فى ذلك أكثر مما كانت تفكر فى أفريقيا وقضية التحرر الوطنى حين كتبت ذات يوم مقالا قالت ضمن صفحاته: وفى غابر الأزمان كان التجار البيض طلائع الاستعمار يعطون السود من سكان الدول الأفريقية قلائد وأساور من الخرز الملون يقايضون بها على نفائس الموارد الطبيعية لهذه الدول ويحملونها إلى أسواق العالم فيبيعونها بأغلى الأثمان. وفى زمننا المعاصر ومن هناك من أقصى جنوب أفريقيا اندلعت الشرارة وقال الإنسان الأفريقى «لا» للأقلية البيضاء المستعمرة المستبدة و«لا» لمقايضة الخرز الملون». «ص 144 - 145». يأتى هذا النص والذى يفسر عنوان الكتاب بسياق يثير الدهشة. فمن ناحية معينة تقودنا دلالته إلى اتجاه إيجابى من الفخر والاعتزاز بأن الشعوب المستعبدة من قبل الدول الغربية لم تعد مقهورة كما كانت عليه فى الحقبة السابقة من التاريخ الحديث. إلا أنه من الناحية الأخرى فإن هذا النص يأتى على خلفية اتجاه نفسى سلبى لدى بطلة الرواية نسرين: «بدأت تلح على نسرين فكرة ثابتة مؤداها أن الحياة كلها غش وخداع وزيف. كل ما هو براق فى الدنيا ما هو إلا شراك أو هو كالحلى المزيفة لا يساوى شيئا. (ص 144). إذن يستطيع الكاتب فى هذه السياقات المتناقضة أن يشبك الأمور ليشكك بالحقيقة الواحدة حيث يفكك بعض الحقائق المفروضة السائدة بنهج عقلانى، فيجعلها مجموعة من الحقائق المتفككة. والخرز الملون فى أبعاد هذه السياقات عبارة عن رمز للسطحية وغياب العمق. هذا هو نهج ما بعد الحداثة وبطريقة أكثر حنكة من الأولى، ليستطيع المؤلف أن يضع بعض الأحداث كبدائل لهذه الحقائق. لم تعد فى الواقع حقيقة واحدة ثابتة، فالخرز الملون الذى يرمز إلى زيف الباطن الذى يمثله الظاهر يصبح فى سياق معين رمزا لثورة الشعوب المستعبدة، ثم يتحول أيضا إلى عنوان لهذه الرواية التى تعبر عن عبثية المتغيرات السريعة فى الحياة العربية بشكل عام والواقع المصرى بشكل خاص على خلفية ارتباطات أكثر عبثية مما يتخيله المتأمل فى هذه الأحداث. نهاية الذات/U/ تبدأ أحداث «الخرز الملون» فى أواخر عهد الملك فاروق، ويسجل الكاتب بعض الأحداث التى ميزت هذه الحقبة من الزمن: «لكن نسرين كانت تعلم أن قصر الطوبجى هو ملتقى جميع الأصدقاء فى المساء بدون سابق موعد ولا إعداد. كانت نسرين تعلم أنها ستجد عند زيزت جميع الوجوه المعتادة من نجوم المجتمع الذين يحترف بعضهم الفن أو الكتابة، ويعتنق بعضهم الوجودية أو الماركسية، وبعضهم الآخر مهنته الوحيدة هى الاستمتاع بالحياة «ص 39». انتهى عصر الملك فاروق بحرب فلسطين وكانت أيديولوجية القومية العربية التى قادها بعض المفكرين فى مصر أمثال ساطع الحصرى وسلامة موسى وغيرهما لا تزال نظرية فكرية غير قابلة للتحقيق. ويرجع ذلك لأسباب عديدة أهمها تشتت الأنظمة العربية وغياب الاتصال بين الشعوب. ولم يكن الانتماء العربى موحدا إلا لدى بعض الكتاب والمفكرين العرب فاستقطبته مصر، وجمعت فى أطرها الحضارية العديد من رموز الفكر والأدب والصحافة والفن من جميع الدول العربية. ونسرين تشكل فى هذا السياق النموذج الحى لهذه الظاهرة. وذلك على خلفية القضية الفلسطينية التى كانت - ولا تزال - تشكل ذريعة قوية لصمود هش لفكرة القومية والتى سقطت كليا بموت قائدها الرئيس جمال عبد الناصر. ومع ذلك هنالك من يرى الأحداث بشكل آخر: «وواصل أحمد حديثه وتطورت المناقشة إلى قول رئيس تحرير «المصور» وزوجته أن قانون الإصلاح الزراعى فتت الملكية وتأميم القناة لم يكن له ضرورة وحرب 1956 كانت خاسرة حتى وصلوا فى النهاية إلى هزيمة يونيو 67 التى كانت تمثل الفشل النهائى لكل تلك السياسات القديمة والتحول إلى سياسات جديدة نتج عنها الانفتاح والتقرب إلى الغرب وصاحبها التشكيك فى الانتماء العربى لمصر والهجوم على الفلسطينيين باعتبارهم أساس البلاء. (ص 132). ونسرين التى يصورها الكاتب منذ البداية طاقة لعنوان مميز شخصية قوية طموحة مناضلة تفقد ذاتها بأشكال متناقضة. فهى منذ البداية تتمرد على أهلها لتلحق بحبيبها ثم تترك حبيبها الأول لتلحق بالقضية الفلسطينية، تأتى إلى مصر وتنخرط بالقضايا المصرية فتتلاشى القضية الفلسطينية. تستبدلها بالقضية العربية العامة فتنهار الأخيرة. هكذا تفقد ذاتها بذوات أكثر شمولية إلا أنها لا تعى فقدان الذات الكامل إلا بعد فوات الأوان. ونهايتها فى مستشفى الأمراض النفسية أو خارج المستشفى حيث هربت إلى الموت وهو وضعية رمزية لها دلالات أبعد مما ترمى إليه الأحداث فى هذا النص: «كانت ممرات المستشفى تبدو فى الليل كسراديب طويلة تتقاطع فى النهاية مع سراديب أخرى طويلة ظلت نسرين تروح وتجىء فيها لتجد نفسها فى النهاية فى نفس المكان الذى بدأت منه خارج غرفتها حيث شخير الممرضة» (ص 153). وقبل أن يتناول نعيم عرايدى الجانبين المسرحى والشعرى فى «الخرز الملون» يقول: بعد ما أعلنه ميشيل فوكو عن موت الإنسان، أعلن رولان بارت عن موت المؤلف ثم جاء دور مؤيدى ما بعد الحداثة ليعلنوا موت الذات والذاتية. فلم يعد هنالك مجال للتمييز بين الموضوعى والذات، لأن المؤلف انتهى تحت عبودية اللغة والنص. لم يعد المؤلف هو الذى يكتب النص بل العكس هو الصحيح: النص هو الذى يكتب الإنسان الذى أصبح قصة يكتبها النص بواسطة اللغة.. اللغة هى التى تعمل على صياغته: فكل ما يخص الإنسان من عواطف ومخاوف وآمال وتجارب ما هو إلا نص من نتاج اللغة التى يحياها.