شعور ثقيل بالمهانة والذل يجثم علي صدري منذ داهمني ذلك الخبر الكارثي المشئوم بهبوط طائرة عسكرية أمريكية علي ارض مصر دون تصريح، ثم إقلاعها، دون تصريح أيضا، مقلة عددا من المتهمين الاجانب فيما اطلق عليه قضية تمويل منظمات المجتمع المدني. صفعة غادرة علي وجه الوطن أعادتني الي أيام حكم الرئيس المخلوع الذي دأب علي تلقي الإهانات والصفعات علي قفاه من أمريكا واسرائيل دون أن تتحرك فيه شعرة من نخوة أوعزة أو ثورة لكرامة الوطن!!.. بل إنه لم يحرك ساكنا ولم يجد أدني غضاضة في أن يصفه أحد القادة البارزين للكيان الصهيوني بأنه " كنز اسرائيل الاستراتيجي"، أي أنه عميل "سوبر" وليس عاديا !!.. ولكن الأدهي هذه المرة هو العدوان علي استقلال القضاء المصري الذي كنا نظنه عصيا علي الإختراق، علي الاقل بهذه الصورة الفجة والفاضحة والفادحة.. هذا يعني بإختصار شديد أن الثورة لم تنجح بعد في تطهير البلاد من بقايا سياسات ورموز نظام حسني مبارك.. ويعني ايضا أن الذين لا زالوا يتساءلون "هل قامت في مصر ثورة فعلا؟!" لديهم كل الحق والمبررات التي تدفعهم لطرح مثل هذا السؤال.. كانت الكرامة واحدا من أبرز الشعارات التي رفعها الشعب بصورة تلقائية عندما خرج الي الشوارع يوم 25 يناير لإسقاط نظام العار الذي احترف الاستئساد علي مواطنيه وقهرهم وقمعهم، والانبطاح في جبن وخسة وخنوع امام الاعداء.. ثم كان الشعار الذي انطلق من حناجر الجماهير في الميدان، وبصورة تلقائية أيضا، يوم 11 فبراير فور الإعلان عن تخلي المخلوع هو "إرفع راسك فوق إنت مصري".. تصورنا جميعا أن زمن التبعية والرضوخ للاملاءات والاوامر الامريكية المباشرة انتهي الي غير رجعة وأن الثورة ستعيد مصر الي المكانة التي تستحقها بحكم حقائق الجغرافيا والتاريخ.. وتعود بنا الي عصر الكرامة عندما كان رئيس مصر يستطيع تحدي واشنطن ويقول إن "المعونة الامريكية علي الجزمة".. ولكن جاءت نكسة تهريب المتهمين الامريكيين لتؤكد أننا كنا واهمين وأن نظام حسني مبارك بكل عمالته وفساده لا يزال قائما.. ورغم قسوة وألم هذه الصفعة الموجعة التي جرحت كرامتنا ووضعت رؤوسنا في الوحل، إلا أنها درس يجب أن نستفيد منه ونستخلص منه العبر مع التأكيد علي أن هذا العدوان الصفيق علي سيادتنا لن يمر مرور الكرام وستدفع أمريكا الثمن غاليا عندما يملك شعب مصر أمره ومصيره، أي عندما تنجح الثورة في تطهير البلاد ممن لا يعرفون قدر مصر أم الدنيا ومهد الحضارات التي كانت بمثابة " فجر الضمير" للبشرية بشهادة عالم المصريات الامريكي هنري بريستيد.. غير أن الدرس الاهم هو ضرورة توحد القوي الثورية لمواجهة أعداء الثورة الذين يتوهمون أنها ماتت ولم يبق أمامهم سوي توجيه ضربتهم الاخيرة عن طريق الدفع برئيس من حاشية مبارك أو من رجال النظام التابع للبيت الابيض الذي أسسه أنور السادات!!.. ولعلي لا أكون مبالغا إن ذهبتُ الي أن مصير الثورة معلق الي حد كبير بإنتخابات الرئاسة القادمة.. فلا يخفي علينا أن نجاح مرشحين بعينهم في اقتناص المنصب الاهم في البلاد سيعني إنتهاء الثورة والعودة الي ما قبل 25 يناير 2011 وربما الي ما هو أسوا من ذلك.. أما اختيار رئيس من بين من ينتمون الي الثورة فذلك سيعزز الامل في استكمال أهداف الثورة في الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية والعيش بمعني الحياة والتنمية.. ومن هنا يصبح من واجب القوي الثورية والوطنية وجميع المواطنين الاحرار توحيد الصفوف والإحتشاد خلف مرشح واحد ينتمي للثورة ويتعهد بتحقيق كافة أهدافها.. وعندما نقول اهداف الثورة لا نعني فقط استعادة الكرامة الوطنية المهدرة ولكن ايضا تطهير الدولة ومؤسساتها من كل صور الفساد التي ورثناها عن النظام البائد.. ولعل المهمة الأكثر إلحاحا تتمثل في وضع حد لحالة الإنفلات الامني المتعمدة التي تسود البلاد الي الحد الذي جعل بعض المواطنين ينقلبون علي الثورة.. فضلا عن إعادة هيكلة وزارة الداخلية.. أضف الي ذلك مواجهة فساد متجذر في وزارة الزراعة منذ عقود أدي الي تدمير إمكانات بلد علم الدنيا كيف تزرع.. وفي ملف الزراعة قل ما تشاء عن التقاوي المغشوشة والمبيدات المسرطنة وتدمير المحاصيل الرئيسية كالقمح والذرة لصالح الاستيراد.. وارتفاع اسعار مستلزمات الانتاج من اسمدة وغيرها، ثم خيانة الفلاحين والتخلي عنهم بعدم شراء محاصيلهم.. ناهيك عن مواجهة كارثة البناء علي الارض الزراعية وتلوث النيل وصولا الي حماية مياه النهر من المنبع الي.. المصب ويبقي الاهم من كل ما سبق من مهام التصدي لملف التوريث الذي لا يزال يهدد مستقبل هذا الوطن.. وربما يتساءل البعض "ألم نتخلص من خطر التوريث الي الابد بعد ثورة 25 يناير؟!".. وأقول علي الفور وبصراحة مطلقة إننا تخلصنا من الخطر الاصغر، ولكن الخطر الاكبر لا يزال قائما ومتفشيا علي نطاق واسع وعميق.. وأعني بذلك التوريث في الوظائف العامة والإصرار علي تعيين الابناء في مواقع ومجالات عمل الآباء هناك توريث في الصحافة والإعلام وفي الجامعات وفي الشرطة وفي القضاء.. ولا يخفي علي أحد أن أخطر صور التوريث هي تلك التي تلوث ثوب قضاء مصر.. وهناك الكثير من الشكاوي بشأن التعيينات الاخيرة في مجلس الدولة والنيابة العامة.. يجب أن تختفي الي الابد حكاية تعيين أبناء العاملين لأن في ذلك إنتهاكا لحق دستوري أصيل هو المساواة بين المواطنين.. هذه هي أبرز مهام الرئيس القادم لإسترداد كرامة الوطن، ولإنقاذ الثورة الاعظم في تاريخنا والتي ستنتصر في نهاية المطاف مهما واجهت من.. تحديات.