محمد وجدى قندىل سوريا تمضي.. إلي أين؟ بعد خمسين عاما تحت حكم البعث العلوي وبعد القمع الدموي الذي قام به حافظ الأسد وابنه بشار! عيني علي سوريا التي تتعرض لأزمة بقاء ومصير وثورة شعب علي الظلم والطغيان تحت حكم بشار الأسد وآلة القمع العسكرية.. وقلبي مع دمشق الفيحاء التي تسعي للخلاص من نظام البعث العلوي القابع علي أنفاسها علي مدي قرابة خمسين عاما بالقهر والقمع! فإن لي في عاصمة الشام ذكريات لا تنسي في سنوات عبدالناصر والوحدة بين مصر وسوريا، وتربطني بأصدقاء من السوريين علاقات محبة لا تندثر في خضم الأحداث التي توالت عليها بعد مؤامرة الانفصال وانفراد حزب البعث بالحكم بعدما وقع الخلاف بين عبدالناصر وميشيل عفلق وقامت مجموعة الضباط الانفصاليين بالانقلاب ضد الوحدة بالتواطؤ مع البعثيين! ولا أكون مغاليا إذا قلت إن القمع الذي مارسه حافظ الأسد بعد انقلابه واستيلائه علي الحكم، ليس له مثيل في تاريخ سوريا التي تعودت علي مناخ الحرية السياسية في عهد شكري القوتلي وصبري العسلي وخالد العظم وغيرهم من السياسيين السوريين في مرحلة ما بعد الاستقلال والتحرر من الاستعمار الفرنسي.. ولكن توالت بعد ذلك الانقلابات العسكرية- التي قام بها حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشيكلي- وانتهت هذه الفترة القلقة وعادت الحياة السياسية وإن كان العسكر يتدخلون في تشكيل الحكومات، وحتي قامت الوحدة بين مصر وسوريا بزعامة عبدالناصر لانقاذ سوريا من التهديدات العسكرية علي الحدود التركية! وقد عشت فترة الصحوة للقومية العربية في دمشق وشاهدت الاستقبال الأسطوري للزعيم عبدالناصر عندما وصل إلي المطار وإلي حد أن الشعب السوري حمل سيارته إلي قصر الرئاسة، وبعدها امتد المد الثوري من سوريا إلي العراق خلال شهور وسقط حلف بغداد والحكم الملكي ونوري السعيد، وكانت الآلاف تزحف من لبنان سيرا علي الأقدام وبالسيارات لرؤية عبدالناصر والاستماع إلي خطبه التي أشعلت الثورة في أرجاء العالم العربي..! وتكالبت قوي الاستعمار والأنظمة العربية المضادة، وحدثت الانتكاسة بعدما تآمر حزب البعث علي الوحدة ووقع الانفصال وتبدد الحلم القومي. وفي سنوات الوحدة أقامت أخبار اليوم مكتبا كبيرا لها في ساحة المرجة في دمشق لاصدار طبعة خاصة من صحيفة الأخبار عن سوريا وكنت أقضي ثلاثة شهور هناك لمتابعة الأخبار والتطورات.. وكان المكتب ملتقي للسياسيين والمثقفين السوريين ونشأت صداقتي معهم ووقتها تعرفت علي الكاتبة كوليت خوري والشاعر نزار قباني وانضمت إلي أسرة المكتب الأديبة غادة السمان وآخرون ووقع الانفصال. ولكنني ذهبت بعدها إلي دمشق عدة مرات لمقابلة قادة الضباط الوحدويين - وكان منهم اللواء راشد قطيني واللواء محمد الصوفي.. وحملوني رسائل سرية منهم إلي الرئيس عبدالناصر وكان هناك صراع بينهم وبين الضباط البعثيين وانتهي الأمر بالتخلص منهم واعتقالهم.. وسيطر الجناح السوري من حزب البعث علي الحكم.. وفي ذات الوقت حدث الانقلاب الدموي ضد عبدالكريم قاسم في بغداد وتوالت الانقلابات وقام صدام حسين بتصفيات خصومه داخل الجناح العراقي لحزب البعث وأحكم قبضته.. وبينما استولي حافظ الأسد والضباط العلويين في البعث السوري علي الحكم في دمشق بانقلاب عسكري! وسرعان ما دب الخلاف بين جناحي البعث »السوري والعراقي« وحدثت القطيعة بين القيادة القومية في بغداد.. بزعامة ميشيل عفلق- وبين القيادة القطرية في دمشق.. واتجه حافظ الأسد إلي التخلص من المناوئين في الجيش السوري واستتب الأمر للضباط العلويين.. وبعدها حدثت الانتفاضة الشعبية من المعارضة في مدينة حماة وارتكب المذبحة الشهيرة لقمع الثورة ودمر المدينة بالدبابات والمدفعية وسقط آلاف القتلي والجرحي! دمشق وحكم الأسد ودارت الأيام وجرت مياه كثيرة في نهر بردي، وانقطعت بعد ذلك عن الذهاب إلي دمشق بالنظر للظروف السياسية.. ولكن استمرت علاقاتي مع الأصدقاء السوريين عن الأحوال المتردية تحت قبضة حزب البعث القائد.. ولكي يؤمن حافظ الأسد نظامه خوفا من الانقلابات العسكرية فإنه قام بتصفية الجيش السوري من قيادات الضباط »السنّة« وحدد شرطا للالتحاق بالكليات العسكرية وهو أن يكون الطالب عضوا في حزب البعث وفتح الباب أمام العلويين »الشيعة« للدخول في الجيش وبذلك ضمن الاستمرار والسيطرة علي الحكم..! وعندما عدت لزيارة دمشق الفيحاء بعد هذه الحقبة الطويلة صدمني أنها تغيرت كثيرا عن أحوالها من قبل، ولمست آثار الأزمة الاقتصادية علي المعيشة والبطالة في الشعب السوري الذي يرزح تحت أجهزة القمع الأمنية ومطاردة العناصر المعارضة والمراقبة في الأسواق وحتي المقاهي.. ولاحظت انهم يراقبون جولاتي واتصالاتي مع الاصدقاء القدامي.. وسمعت الكثير عن سجن المزة وأحوال المعتقلين فيه.. وقام حافظ الأسد ببناء قصر الرئاسة الجديد في قمة جبل قاسيون وعلي مساحة شاسعة وراء الأسوار وأجهزة المراقبة ويتطلب الصعود إلي موقعه اجتياز نقاط التفتيش والتحصينات لقوات الحرس الجمهوري وبحيث يبدو كالقلعة.. وذهبت مع الوفد الصحفي المصري من رؤساء التحرير لمقابلة الرئيس حافظ الأسد واستمر اللقاء قرابة ساعتين وكنا في معظم الوقت صامتين وهو يتحدث عن الأوضاع والاستقرار في سوريا والأحوال في المنطقة وكان يدور حول الأسئلة التي نطرحها عليه.. وكان الأسد يستعد لتوريث الحكم لابنه الأكبر باسل بعد رحيله وكان يؤهله لذلك.. لكن الأقدار شاءت أن يلقي باسل مصرعه في حادث سيارة علي طريق المطار- وقيل انه كان بفعل فاعل، وكانت صدمة قاسية للأسد الأب، ولكنه ظل مصمما علي التوريث. واستدعي ابنه بشار الطبيب الذي يعمل في لندن وأخذ يؤهله لوراثة الحكم وعينه برتبة عسكرية في الجيش السوري حتي يخلفه وهو ما حدث وبموافقة قيادة حزب البعث.. وعندما تولي بشار الأسد رئيسا اعتمد في البداية علي عبدالحليم خدام وقيادات الحزب وأحاط نفسه بالضباط العلويين بعد اقصاء القيادات الأخري في الجيش السوري.. وهكذا استمر بشار في الحكم سنوات ولجأ إلي اتباع نفس الأسلوب في استخدام قوات الجيش الموالية له لقمع الثورة في مدن حماة وحمص وأدلب التي انتفضت ضده وهو يقوم بقصفها بالدبابات والمدفعية - مثلما فعل أبيه حافظ الأسد- ويتساقط مئات القتلي وتتحول مبانيها إلي أنقاض ولكن الثورة لا تهدأ! ان بشار الأسد يراهن علي قبضة حزب البعث التي تمسك بخناق سوريا علي مدي خمسين عاما من القهر والاستبداد، ومن ناحية أخري يعتمد علي تأييد النظام الإيراني للحكم العلوي في دمشق باعتباره ذراع الشيعة في المنطقة العربية.. وبالإضافة إلي أنه يعتمد علي التحالف مع موسكو والوجود العسكري للأسطول الروسي في قاعدة طرطوس وهي القاعدة الوحيدة لروسيا في البحر المتوسط.. وفي ظل هذه الظروف فإنه يرفض الانصياع لقرارات الجامعة العربية ويستمر في القمع الوحشي لانتفاضة الشعب السوري في حماة وحمص ويراهن علي الوقت لإخمادها كما فعل أبوه حافظ الأسد.. ولو أنه من الصعب عليه ان يصمد طويلا إذا استمرت الثورة في التصعيد، وفي حالة وصولها إلي دمشق- العاصمة- فإنها ستكون النهاية!