أحمد طه النقر أربعون عاما من الفساد المؤسسي والسرقة والنهب المنظم لثروات هذا الشعب..بدأت عندما أساء أنور السادات الاستثمار السياسي لمعجزة العبور ونصر اكتوبر 1973 ووضع كل أوراق اللعبة في المنطقة ( 99٪) في يد أمريكا ثم دشن سياسة الإنفتاح الإقتصادي الذي وصفه أستاذنا الراحل أحمد بهاء الدين بحق بأنه " إنفتاح السداح مداح". قال السادات صراحة "اللي مش هيغتني في عهدي مش هيغتني أبدا" ..وفهم لصوص المال العام الرسالة جيدا وشحذوا أسلحتهم وشرعوا في تأسيس دولة الفساد التي باركها وعزز قواعدها حسني مبارك الذي قرر منذ وقت مبكر أن يتحول من رئيس دولة الي زعيم عصابة محترفة ولم يتورع عن التخطيط لتحويل البلاد الي مجرد عزبة يورثها لابنه .. هذا الفساد المؤسسي الذي رعاه وباركه وشارك فيه رأس الدولة هو الذي اقترب بمصر من حافة الخراب الشامل وكان يمكن أن يحترق الوطن بنيران ثورة جوعي تأتي علي الاخضر واليابس لولا أن الله الذي يحرس هذا البلد بعين رعايته أراد للانفجار الاجتماعي والشعبي المحتم أن يخرج في صورة ثورة شعبية جميلة ورائعة وصفها العالم بأنها الثورة الاعظم في تاريخ البشرية.. إذن يمكننا القول بلا أي مبالغة أو تزيد إن المشروع الأبرز لنظام حسني مبارك هو إقامة دولة الفساد التي شملت كل مناحي الحياة علي ارض المحروسة ابتداء من العبث بتشريع القوانين عن طريق مجالس الشعب المزورة ومرورا بالتلاعب بالدستور وتشويهه لدس مواد محددة مفصلة علي " قد الوريث المنتظر" ، ووصولا الي تخريب ضمير المواطنين وتشويه نفوس البشر..حول النظام "الابوي" الذي بدأه السادات ورسخه وعزز قواعده مبارك ،البلاد الي مجرد عزبة الكلمة الأولي والاخيرة فيها لصاحب العزبة أو "كبير العيلة" وهو فوق المساءلة حتي لو سرق أو نهب او خان الأمانة والقسم..وبمرور الايام والسنين انتشر هذا النظام الفاسد في مفاصل وشرايين مختلف مؤسسات وأجهزة ووزارات الدولة فصار الرجل الأول في كل من هذه الاماكن صورة من الرئيس في قمة الدولة وله من الصلاحيات ما لا حدود له ولا مساءلة بشأنه ..ووُضعت تحت تصرف "أصحاب العزب" اولئك "مغارات علي بابا" واعني بها "الصناديق الخاصة" التي أطلقت أيدي كبار المسئولين ليغترفوا منها بلا حساب ..هذه الصناديق كانت الباب الملكي للفساد المؤسسي المحصن بقوانين ترزية دولة مبارك..قال لي مسئول كبير منذ بضعة أيام إن مدير المستشفي الجامعي بأسيوط أبلغه بأنه كان يتقاضي من الصندوق الخاص بالمستشفي 400 جنيه شهريا بينما كان نصيب الرجل الأول ، وهو رئيس الجامعة ، أربعين ألف جنيه شهريا!!..والمفارقة أنه طبقا لرأي العديد من الخبراء الاقتصاديين فإن هذه الصناديق التي كانت أحد المداخل الرئيسية للفساد هي الحل السحري للخروج من المأزق الاقتصادي الذي نعاني منه حاليا حيث يبلغ حجمها ما يتراوح بين 200 مليار وتريليون (ألف مليار) جنيه!!.. وهناك وجه آخر لفساد دولة حسني مبارك تمثل في جيش المستشارين الذين كانت الحكومات المتتابعة تستعين بهم بعد بلوغهم سن الستين وكانت المبالغ المخصصة لرواتبهم تتجاوز 18 مليار جنيه سنويا..وهذا الرقم الكبير كان كفيلا بفتح عشرات ، وربما مئات، المشروعات القومية وتشغيل ملايين الشبان العاطلين الذين أغلقت في وجوههم كل أبواب الأمل..يُضاف الي ذلك الفساد والسفه الحكومي بدلات الاجتماعات التي يتقاضاها الوزراء وكبار المسئولين..وقد كشف الدكتور حازم الببلاوي وزير المالية السابق مؤخرا أنه تقاضي مبلغ 13 ألف جنيه نظير حضور اجتماعين فقط ولكنه أعاد المبلغ الي خزانة الدولة.. هذه مجرد صفحة من كتاب فساد نظام مبارك الذي اسقطنا رأسه ولكنه لا يزال قائما وقويا ومسيطرا ويحتاج الي ثورة جديدة لتطهير البلاد منه..وتلك هي المهمة الأولي والعاجلة أمام البرلمان الذي يتعين عليه تشكيل لجنة خاصة ليس فقط لتطهير اجهزة ومؤسسات الدولة من الفساد والفاسدين ولكن ايضا لتطبيق قانون "من أين لك هذا" لرد الملايين التي نهبها كبار وصغار اللصوص إذا لم يبادروا بردها عن طيب خاطر..ولو أخذنا كبير اللصوص محمد حسني السيد مبارك مثالا لمن يتوجب تطبيق قانون " من أين لك هذا عليهم " فإننا سنكون أمام ضابط عادي لا يكفي راتبه الشهري ، حتي بعد أن أصبح نائبا للرئيس ثم رئيسا للجمهورية ، لسد حاجاته ونفقاته اليومية ، فمن أين جاءت مليارات الدولارات المهربة الي الخارج؟!!..وقياسا علي ذلك فإننا يجب أن نطبق هذه القاعدة علي الموظفين العموميين وإجبارهم علي رد الملايين التي استولوا عليها من المال العام حتي ولو تحت ستار من قوانين مبارك الفاسدة..ولو نظرنا حولنا في مجال الصحافة والإعلام ، علي سبيل المثال، فإننا سنجد عشرات بل مئات الصحفيين والإعلاميين الذين باعوا ضمائرهم وخانوا الامانة ومواثيق الشرف الصحفي وتربحوا من أموال الشعب دون وجه حق..وهناك امثلة فاقعة وصادمة لصحفيين معدومي الموهبة صاروا مليارديرات وبنوا القصور في الداخل والخارج..ولم تكن لهؤلاء أي مساهمة في المهنة سوي تكريس الفساد والنفاق وتبرير جرائم النظام وغسل سمعته..وسبق أن ناشدتُ هؤلاء ب "التطهر" عن طريق رد الاموال الحرام التي اكتسبوها عن طريق بيع أقلامهم وضمائرهم..وذلك ينسحبُ علي كل الذين استباحوا أموالنا بالباطل إذا أرادوا أن نسامحهم ونبدأ معهم صفحة جديدة..ومن التطهر أيضا مطالبة كل الوزراء وكبار المسئولين وكذلك النواب والمرشحين المحتملين للرئاسة بتقديم إقرارات الذمة المالية الخاصة بهم حتي نحاسبهم علي أساسها عند تركهم السلطة..إنها الثورة التي لن نسمح أبدا بتحويلها الي مجرد حركة إصلاحية..