يعتبر »التخطيط الشامل: الإسكندرية 2005« مرجعا مفيدا في علم التخطيط العمراني بشكل عام، نظريا وتطبيقيا، فضلا عن كونه مخططا استراتيجيا للإسكندرية في الفترة من 1983 حتي 2005. لا أعرف لماذا اختاروا عام 2005 كحد زمني للتخطيط؟ وربما كانت الثغرة الوحيدة في هذا التخطيط المتميز أنه لم يتضمن تفسيرا لحده الزمني. علي كل حال، أتاح هذا الحد الزمني فرصة نادرة لمقارنة التخطيط النظري بما تم في الواقع. فمصر حديثة العهد بالمخططات الاستراتيجية. وهذا هو المخطط الاستراتيجي الوحيد حتي الآن الذي انتهت مدته. لفت نظري التزامن بين بداية العمل في هذا التخطيط وصدور قانون التخطيط العمراني. فقد بدأ إعداد التخطيط وصدر القانون عام 1982. بما يؤكد ريادة هذا التخطيط في مجال العمران في مصر. كنت أرجو القيام بدراسة مقارنة بين التخطيط والقانون للتعرف علي المشتركات المتبادلة بينهما. ولكن هذا عمل يجب أن يكون أكاديميا يمكن للمؤسسات الأكاديمية والمعنية القيام به. من الدروس المستفادة من »التخطيط الشامل« التركيز علي أهمية دراسة المناخ قبل وضع المخطط العام لأي تجمع عمراني. تجد في »التخطيط الشامل« عشرات الصفحات التي تدرس مناخ الإسكندرية تتضمن جداول وإحصائيات ورسومات أعدت خصيصا في هذا المجال ولأول مرة، وربما لآخر مرة؟ لم تقع عيني علي مثل هذه الدراسة للمناخ في أي مخطط عمراني لأي مكان آخر في مصر حتي الآن. لتوضيح أهمية دراسة المناخ يذكر »التخطيط الشامل« أنه: »بناء علي تلك الدراسة يتم انتقاء أصلح المناطق لنمو المدينة وامتدادها العمراني. ثم اختيار أفضل الاتجاهات لتخطيط الطرق وتوجيه المباني السكنية. كما أن تصميم الأحزمة الخضراء ومناطق الحماية المشجرة وتوزيع الحدائق العامة والمغروسات تتوقف إلي حد كبير علي اتجاهات الرياح وسرعتها وطبيعتها. ومن المعلوم أيضا أن وضع خريطة توزيع الاستعمالات المقترحة للمدينة تبني علي دراسة مناخها، ومعدلات سقوط الأمطار والنسب المئوية لاتجاهات الرياح. وأخيرا فإن تصميم البنية الأساسية من شبكات المياه والصرف الصحي لها علاقة وثيقة بدراسة المناخ والأمطار«.. ذكرني هذا الدرس برحلتي إلي سيوه، عندما سرنا علي طريق سيوه - الواحات البحرية. كانوا يرصفون الطريق بإسفلت جديد. ووجدنا عدة كيلو مترات من الإسفلت الجديد تغطيها كثبان الرمال. اندهشت، وفوجئت بسائق السيارة السيوي يقول لي بلهجته: »يا بيه، قلنا للمهندسين ما يشقوش الطريق من هنا، ويلفوا بيه شمال وراء المرتفعات دي علشان احنا حافظين حركة الرملة، قالولنا مالكوش دعوة انتو هتعملوا نفسكم مهندسين«؟! والنتيجة عمليا هي إهدار المال العام الذي انفق علي هذا الجزء من الطريق، فضلا عن تعريض مستخدميه لكثير من الحوادث، لأن السادة المهندسين لم يدرسوا المناخ علي امتداد طريق سيوه - الواحات البحرية ويعرفوا اتجاهات الرياح الحاملة للرمال علي الطريق! كان من الطبيعي أن يهتم " التخطيط الشامل " بشواطئ الإسكندرية باعتبارها من أهم المصايف في مصر. وقد لاحظ معدو التخطيط بالطبع ظاهرة تآكل شواطئ الإسكندرية بسبب الأمواج وتيارات البحر. وعلق التخطيط علي قيام محافظة الإسكندرية بوضع بلوكات خرسانية في البحر بالقول إن هذا الإجراء وان كان يمنع الأمواج من غمر طريق الكورنيش إلا انه لا يحد من تآكل الشواطئ. وهي مشكلة لا تزال موجودة حتي اليوم. مرة أخري تذكرت هذا الدرس وأنا أري كمية الكتل الخرسانية التي قذفوا بها أمام مبني المحكمة في الميناء الشرقي! وقد تمت زيادة عرض طريق الكورنيش في أجزاء كبيرة منه بردم البحر. لكن هذه الزيادة أيضا ليست علاجا لتآكل الشواطئ. اقترح التخطيط لعلاج التآكل عمل حواجز أمواج وأرصفة ورأس خرسانية ووضع كميات كبيرة من الرمال علي الشواطئ. من الموضوعات التي أثارها عندي »التخطيط الشامل« موضوع المسميات، ومنهج الدراسة، وطرق إعداد التخطيط، وتقديراته، ومستوياته العلمية وتطبيقاته العملية وهي كلها موضوعات تحتاج إلي مناقشات علمية متخصصة ليس هنا مكانها. لكنه يمكن هنا تناول ما قد يهم القارئ غير المتخصص. مثلا: هل مثل هذه المشروعات يطلق عليها »تخطيط« أو »مخطط«؟ وهل يوصف ب»الشامل« أم »العام« أم »الاستراتيجي«؟ الواقع أن التسمية الشائعة لدي المخططين العمرانيين هي مصطلح »المخطط العمراني«. أما وصفه بالاستراتيجي فيعتمد علي عدة عوامل منها الفترة الزمنية ومكونات المخطط نفسه والهدف منه. هيئة التخطيط العمراني بوزارة الإسكان هي المعنية أساسا بعمل هذه المخططات. لاحظت أنها وضعت عام 1997 ما سمته "المخطط العام لمدينة الإسكندرية حتي عام 2017. أي أن زمن المخطط عشرون عاما. وهي مدة قريبة من زمن »التخطيط« السابق. ثم وضعت مخططات لمحافظات أخري وصفتها ب»الاستراتيجية«. إلا انه من المفيد المقارنة بين »المخطط العام« الذي وضعته هيئة التخطيط العمراني و"التخطيط الشامل " الذي أعدته جامعة الإسكندرية. فهما مختلفان في المنهج والمعلومات والنتائج أيضا. ومن قراءة المخططين يتضح أن المخطط الأخير لم يأخذ في الاعتبار المخطط الأول، وفي الأغلب لم يعرف مخططو الأخير شيئا عن الأول. من النتائج التي توصل إليها »التخطيط الشامل« أن عدد سكان الإسكندرية سيصل عام 2005 إلي 4 ملايين و750 ألف نسمة. بينما قدر »المخطط العام« عدد سكان الإسكندرية عام 2017 ب 4 ملايين و600 ألف نسمة. الواقع أثبت خطأ التقديرين. فطبقا لإحصاء عام 2006 وصل عددهم لحوالي 4 ملايين و 124 ألف نسمة! وبحساب الزيادة السنوية يكون العدد حاليا أكبر من أي تقدير سابق. من يعش بعد عام 2017 يستطيع معرفة كم وصل عدد سكان الإسكندرية. من الاختلافات أيضا أن المخطط الأخير تم عرضه علي المجلس الشعبي المحلي لمحافظة الإسكندرية ووافق عليه، بينما لم أستدل علي حدوث العرض نفسه للمخطط الأول. بينما صدر قانون المجالس المحلية عام 1979 وتم تعديله عام 1981. فهل استفاد المخطط الأخير من هذا العرض؟؟ الاختلاف الكبير بين المخططين يجعلنا لا نستطيع مقارنة معلومات كثير من الأبواب الواردة في التخطيط الشامل أو نتائجها مع المخطط العام. لدينا في مصر سمة عامة علي كل حال وهي عدم البناء علي ما سبق، والبدء دائما من جديد.. مما يضيع فرصة علمية واجبة في تتبع تفاصيل التغيرات التي تقع علي العمران في مصر بدقة علي مدي الزمن منذ عرفت مصر التخطيط العمراني الحديث. هذا وإن كان مؤسفا جدا إلا أنه يتسق مع كثير من الأمور التي تحدث في مصر. لأنه يتسق بشكل عام مع طريقة تفكير وسلوك المصريين. أي يتفق مع ثقافتهم التي يبدو أنها لم تتغير كثيرا منذ عصر الدولة الأموية. فلماذا لم تتغير هذه الثقافة علي الأقل منذ ثورة يوليو 1952 التي غيرت جذريا من ظاهر المجتمع المصري؟ هذا أحاول الإجابة عنه ولكن في موضوع آخر تتضمنه سلسلة مقالاتي التي ناهزت العشرين تحت عنوان واحد: »ويسألونك عن التخلف« وتوقفت عند أسرة محمد علي، والتي أرجو أن أتمها حتي أصل إلي يومنا هذا.