الغني هو من استغني، الله غني عن عباده، ولكن نعمة الاستغناء شحيحة في أرض النفاق، شحيحة عند أنصاف الرجال، ثلاثون عامًا، ثلاثة عقود، الماكينة المباركية شرهة لالتهام الرجال، إن قالوا »نعم« وإن قالوا »لا«، المجد لمن قالوا »لا« في وجه من قالوا »نعم«، وليس لمن قالوا »نعم« في وجه من قالوا »نعمين«، مبارك كان يطلب »نعم«، أما »نعمين« فكانت مطلب نعيمة في أغنية ليلي نظمي الشهيرة »أمَّا نعيمة.. نعمين..« ثلاثون عامًا »مبارك« في حكم مصر، مصر كلها مرت عليه، استهلك مبارك صفوة رجالات مصر وقودًا لحكمه، وإن تعدوا رجالات حكم مبارك لا تحصوهم، وزراء »144 وزيرًا في 13 وزارة« ومحافظون »120 محافظًا« وسفراء ورؤساء هيئات ورؤساء شركات ورؤساء مجالس إدارات ومدراء مصانع وحتي خفراء، أحدهم كان خفيرًا وارتقي عاليًا حتي صار رئيسًا لاتحاد عمال مصر. منهم - أي ممن عملوا معه- من فسد وأفسد وصار من الفاسدين، ومنهم من اعتصم، الدكتور عصام شرف كان وزيرًا واعتصم، فصار شريفًا يشار إليه في الميدان، ليس كل من توزر في ظل نظام مبارك كان معطوبا فاسدا مفسدا، ليس كل من تبوأ أيام مبارك كان عميلاً لأمن الدولة أو رجل استخبارات أو رضت عنه الرقابة الإدارية، الجنزوري حظي بغضب الرئيس واعتصم في بيته سنين عددا حتي آتاه اليقين »الوزارة«، ليسوا سواء، والجمع في موضع المفرد قد يكون للتعظيم، وقد يكون للتعميم، والتعميم في موضع العدل إثم عظيم. مبارك كان رئيس مصر، لم يكن يملك مصر، الملك لله الواحد القهار، ومن حوادث الأيام والثورات نتعلم الحكمة، ونوقن بأن الله يمد للظالم حتي إذا أخذه لم يفلته، أرادها الذيول والأذناب عزبة لهم ولبنيهم، ومصر التي حفظها الله لم تكن عزبة تجري فيها الخيالة كالرهوان، ورجال الدولة في عهد مبارك لم يكونوا يعملون في العزبة البحرية المروية بالراحة، لكنهم يعملون »في« وللدولة المصرية، مصر ليست عزبة ولن تكون عزبة، وليس رجال الدولة أجرية »بضم الألف«.. والشيء بالشيء يذكر، ليس كل من لم يصبه الدور في عصر مبارك كان رافضا، أو مطاردا، أو معارضا، أو شهيدًا وإن استشهد بعضهم بعد الثورة »فضائيا« وبكي بكاء المظلومين، وثار في وجه الفرعون - وهو- مقيد بالأغلال في القفص، بعضهم لم يصبه الدور، وكان علي أتم استعداد للقيام بالدور، ولا يزال رهن الإشارة، نفر منهم كانوا يظنون - حقا أو باطلا - أنهم أولي بالدور، بعضهم خرج علي مبارك عندما تخطاه الدور، لا عن حجة، ولا احتجاج علي سياسات، ولا رفض لتعليماته، أحلام مبارك كانت أوامر وتوجيهاته »بسملة« يفتتحون بها خطبهم التي بها يزعقون. لا تثريب علي من شبوا علي المعارضة فلم يهنوا ولا استكانوا، تشرد منهم من تشرد، وضاقت بنفر منهم الأرض بما رحبت وقاسوا الأمرين ليس من قبيل الإقصاء أو التهميش أو لم يصبه الدور، بل رفض للدور، عوقبوا علي الرفض النبيل، علي الرفض المهيب، أمسكوا بجمر النار ولم يخشوا الحريق »عبد الحليم قنديل نموذجًا«.. أما من تولي وكفر بالنظام لأن النظام تولي عنه، أو تخلي عنه، أو ضن عليه، أو تأجل دوره في دولاب النظام، وداهمته الثورة وهو قائم في محراب النظام يصلي للدور، فذهب إلي الكيد والمكايدة وحك أنف من أصابهم الدور سابقا، خرج من قمقم النظام الذي حبس فيه نفسه يردد مقولة العبقري أحمد توفيق »أنا عتريس.. أنا ستين عتريس في بعض«.. في فيلم »شيء من الخوف«، شيء من الخجل. رجال مبارك كما رجال عبد الناصر كما رجال السادات فيهم الطيب والشرس والقبيح، الوزير منصور حسن من رجال السادات، ملتزم بأبجديات الوطنية التي عليها يشبون - أقصد الطيبون - التصفيات السياسية التي تصل إلي حدود التصفيات الجسدية لكل من تولوا أو تبوأوا قبل 25 يناير لن تصل بنا إلي النهائيات المرتجاة من ثورة شعب، التصفيات السياسية نزيف نقاط في سباق لا يرحم، نزيف مواهب، عبد الناصر بني حكمه علي جواهر تاج الليبرالية المصرية قبل 1952 »السنهوري باشا نموذجًا«. تصفية الحسابات السياسية والدينية والمصلحية المؤجلة من عصر بائد ترهن المرحلة الجديدة أسيرة العجز والوهن، تعوقها عن الانطلاق إلي آفاق حلقت بها الثورة عاليًا، تنزيل الثورة ماء عذب يسقي الأرض بعد عطشها، يرد فيها الحياة، من الماء كل شيء حي، تجليس الثورة في صدارة المشهد يمنع الافتئات والكذب باسم الثورة والثوار، تواري الثوار الحقيقيون عن المشهد مستهدف ومتعمد من طالبي الدور الذين فاجأتهم الثورة وهم طالبون، تصدر الناقمون والموتورون ونهازوا الفرص وهواة الصيد في الماء العكر للمشهد التحريري يعكر صفو سماء الثورة، صارت ملبدة بغيوم نفوس الطالبين.. الاتهامات المجانية ليست مجانية، بل عمدية متعمدة تحركها سياقات ثأرية، مبيتة للثأر، وتحت شعار أعداء الثورة هات يا ثأر، الثأر من نظام مبارك لايفهم علي أنه ثأر من مصر، أحيانًا تتحلي النظم الفاسدة ببعض الأطهار للتطهر أمام الجماهير، تحرق الأطهار بخورًا، أحيانًا تتحلي النظم الجاهلة ببعض العلماء لتتجلي أمام العالمين زهوًا، تورثهم الجهل.. لله در الشباب، ثاروا علي ظلم وفساد وإجحاف في سنوات عجاف، لم يتلوثوا، ولم يتلونوا، ولم يتلولوا، ولم يبحثوا عن دور في معية النظام، بل دور في رفعة البلاد وإنصاف العباد، لم يصبهم الدور أصلا ولا بحثوا عنه، ولا زاغت أعينهم، فارتد إليهم البصر وهو حسير، بعض ممن لم يصبهم الدور في زمن المخلوع يبحثون عن دور في زمن الثورة.. أي دور. المفاعل الثوري في التحرير لم تصدر عنه إشعاعات ضارة، تصدر عنه طاقة خلاقة، يبددها الباحثون عن دورفي ظلاميات وعبثيات، المتبضعون، المشتاقون، المشاؤون بنميم، مصاصو دماء الثورة، ينالون من الجميع ليخلو لهم وجه أبيهم »النظام الجديد«. ميدان الثورة، ميدان التحرير لم يكن فيه دفاتر حضور وانصراف »كما قال الروائي الكبير يوسف القعيد«، الباحثون عن دور، المتحدثون فضائيًا وأرضيا باسم الثوار لم يتركوا نبتة صالحة إلا واقتلعوها، في الأرض البور تُنبت زهورا زكية، ولا تخلو الأرض الخراب من فسيلة تُسقي من عين آنية.