رغم تبدل الظروف وتغير القيم، فإنه مازال يسعي، أراه في الجلباب واللاسة والعمامة، فهمه مدخل لأمور شتي.. مازلت أراه في شوارعنا وحاراتنا رغم تبدل القيم والظروف. بسعيه في القاهرة، قديمة أو حديثة، يضفي عليها خصوصية، أهم ما في المدن ناسها، أهلها، خاصة المقيمين، الذين يجمعون داخلهم الزمان المنقضي، المكان المقيم. مثل ابن البلد لا نجد في أي مدينة أخري، انه يسعي في القاهرة، ابن البلد فهو القاهري الصميم، الذي لم يفد إليها من منطقة أخري، المستقر، المحتوي ملامحها. أراه في الشوارع، الحواري، الدروب، الأزقة، طبعا في الأسواق، والوكالات، المقاهي، حاضر دائما في الافلام والمسرحيات المصرية، يطالعنا من خلال لوحات دني لو التي يحتويها هذا الكتاب. نراه يرتدي زيه التقليدي، الجلباب الواسع الأكمام، المفتوح عند الصدر، يبرز من تحته الصديري المصنوع من القطن، وأزراره العديدة، المنتظمة، المتعاقبة، حول عنقة شال من الصوف شتاء، أو القطن المنسوج يدويا صيفا، أما غطاء الرأس هو »الطاقية« والتي يلف حولها شالا من الحرير أو القطن، قوامه فاره، صدره بارز يعلن في كل خطوة أو اشارة منه عن تمكنه، وقدرته، خاصة إذا كان صاحب تجارة أو مكانة في السوق، ممن يطلق عليهم لقب »معلم«، لقب يمنحه الناس لمن أمضي قدرا معقولا يبيع ويشتري ويصدق في العهود ويبدي آيات الشهامة، ينجد الضعيف، ويتحدي السلطة أحيانا، »المعلم« مطلقة، غير قاصرة علي فرع معين من النشاط، تشمل جميع الأنشطة، انها تعني معرفة صاحبها بأسرار مهنته والعلاقات بين الناس، ومعرفته بالأصول، والأصول في لغة الحياة اليومية للمصريين تعني منظومة القيم والعادات المتوارثة داخل هذا المجتمع القديم، وربما كانت كلمة »الاصول« تعني أو تقابل اللفظ المصري الفرعوني »ماعت«، ابن البلد الذي يعرف الأصول، يقيم الحق، ينتصر له، يقف إلي جانب الضعيف، شهم، عنده مروءة، جدع، والجدع هو الناصح، الذكي، الشجاع، الكريم، ابن البلد هو القاهري الصميم، تعرف المدينة فئات عديدة، تجار، علماء دين، افندية »أي مثقفين«، اثرياء، لكن ابن البلد هو القاهري الصميم الذي يعيش في المناطق العتيقة، ويرتبط بالمكان، وعادات الناس، عرفت بعضهم لم يغادر الشارع أو الحارة التي يعيش فيها معظم سنوات عمره. منهم معلم ابن بلد، كان صاحب فرن شهير في الجمالية، مقره في حارة درب الطبلاوي كان بيته علي بُعد امتار من الفرن، ثم حدث شرخ في المنزل القديم، اضطر إلي الانتقال، بالتحديد إلي المغربلين، أي علي بُعد اقل من كيلو متر، كان يقطع المسافة يوميا مشيا، بدأ يظهر عليه الحزن، والاكتئاب، كان يحدثني بأسي عن غربته التي يعانيها هناك. »لكن يا معلم انت لم تذهب بعيدا، والناس هناك طيبون..« يهز رأسه: هذا صحيح، لكنه طوال مراحل عمره اعتاد أن يستيقظ فجرا، أن يخرج من الحارة مع جيرانه للصلاة في مسجد الحسين، ثم يعود الي الفرن، يتبادل الصباح مع هذا، والحوار مع ذاك، يعرف أهل الحارة فردا، فردا، رأي بعينيه الفتيات وهن صغيرات، ثم نموهن مع الزمن، وزواجهن، ثم مجيئهن مع اطفالهن، لم يهدأ إلا عندما عثر علي سكن ملائم فعاد إلي الحارة، وكان يردد دائما أن روحه ردت إليه يوم رجوعه. كان المصريون كأبناء اقدم مجتمع زراعي في التاريخ لا يتصورون أنفسهم في أرض غريبة، وعندما نفي الفرعون موظفه الكبير »سنوحي« الي أحد بلاد البحر، راح يرسل اليه الكلمات المؤثرة ليعفو عنه، ليعود فيدفن في ارض مصر المقدسة. لقد تغير هذا الحال لأول مرة في التاريخ منذ حوالي ثلاثين عاما، عندما اضطر إلي الهجرة إلي بلاد النفط حيث الثروة الطائلة، ومع ازدياد سوء الاحوال الاقتصادية تزايدت الهجرة الي سائر الاتجاهات، لكن مازال معظم ابناء البلد في القاهرة القديمة يسعون، ولا يتصورون أنفسهم في بلد آخر. »البلد« يعني الوطن كله، تماما كما يطلق اسم »مصر« علي »القاهرة«، في الريف، بحري أو قبلي، إذا قصد أحدهم السفر إلي العاصمة يقول: أنا رايح مصر. ابن البلد تعني اذن انه ابن مصر، ابن البلد يؤمن بالعمل، يردد »الايد البطالة نجسة« أو »الشغل عبادة«، يؤمن بالعلم، ربما نلتقي بأحدهم لا يجيد القراءة أو الكتابة لكنه مرجع في اصول العلاقات الانسانية، والتقاليد، ودقائق الحياة، يردد من ذخيرة الامثال الشعبية »العلم بالشيء ولا الجهل به« من صفاته الذكاء، والشطارة »يفهمها وهي طايرة« وقوة الذاكرة، كنت أعرف معلما صاحب مقهي، كان يحفظ في ذاكرته جميع تفاصيل الحسابات التي تخص زبائنه يوميا، وآخر النهار اذا ابدي زبون شكا في شرب فنجان قهوة أو كوب شاي، عندئذ يميل المعلم قليلا ويذكره بالمناسبة التي طلب فيها الشاي »لما جالك الافندي الرفيع ده«. يفضل الاعتماد علي نفسه »حمارتك العرجاء ولا سؤال اللئيم« فإذا ضاقت الحال، وصعب الأمر فإن »الجار للجار« ميال الي اصلاح المتخاصمين والتوفيق بينهما »اسعي في الخير ولا تسعي في الشر« من الافضل حل المشاكل كلها بعيدا عن البوليس، وكل اشكال السلطة، العلاقة مع السلطة حافلة بتعقيدات عديدة، من الأفضل تجنبها بقدر الامكان، من هنا الكلمة عند ابن البلد قانون أهم بكثير من المواد الرسمية، يقول مؤكدا موقفه. »أنا اديت كلمة.. والرجل يتمسك من كلمته«. في حواره اليومي تورية، ومستويات متعددة، كل جملة لها ظاهر وباطن، نتيجة لميراث القهر التاريخي، منذ أن فقدت مصر استقلالها منذ حوالي ثلاثة وعشرين قرنا، تعاقب عليها الحكام القساة من بطالمة ورومان وعرب واتراك وأجانب، أصبح لكل طائفة لغتها، وللتعاملات اليومية اشارات موحية. لنتأمل طريقة ابن البلد في الصباح، يقول »صباح الخير« لكنه لا يكتفي بذلك، بل لديه تنويع علي معني الصباح، »صباح الورد« »صباح الفل« »صباح القشطة« »نهارنا لبن« »نهارنا نادي« »يا مساء الجمال« »يا مساء العندليب« »يا مساء الهنا«. إذا أراد أن يغلق باب النقاش في صفقة يقول: »يفتح الله« أي، السعر الذي تعرضه لا يناسب، إذا غضب يصيح »توكل علي الله« أي: أغرب عن وجهي. إذا كان يأكل، أيا كان حجم ونوعية الطعام، فلابد أن يوجه الدعوة إلي أي مار به. »تفضل معانا...« ومعناها الحقيقي: ما أمامي يكفيني فقط. ينادي علي بضاعته ملحنا صوته، رافعا من شأنه »كهرمان يا عدس..« »الملاح.. الملاح« يعني الكتاكيت الصغار و»يالوز يا حلو..« أي الفول المدمس. للطعام عنده شأن، إذا أكل مع شخص ما يعتبر ذلك مثل الميثاق أو المعاهدة، يردد دائما: »دا كان بيننا عيش وملح« وبالتالي لا يمكن ان يغدر بمن شاركه المائدة يوما. يراعي الجار، لايغازل امرأة جاره، نتذكر القسم الذي كان يدلي به المصري القديم امام محكمة الاله اوزيريس في العصر الفرعوني. »لم الوث ماء النيل«