بعد مناوشات خائبة من قطيع صبيان شاهدت زملاء لهم في حواري باريس ومارسيليا وبعد عدة موضوعات تافهة في جرائد حائط لدي بلد جار أو شقيق حسب التعبير المثلج وبعد النسيان، اتصلت بصديق، استمتعت بكلمات تصرخ بصوت جميل يا حبيبتي يا مصر، رد بعدها الصديق المسئول: أهلا.. كل سنة وأنت طيب، أخذت أفكر بعدها: كم هي رائعة مصر، كم هي أصيلة تلك الأرض. تذكرت ملفا شرفت بالمشاركة فيه منذ سنوات تحت عنوان مصر أولا في مجلة روزاليوسف كان ذلك قبل مباراة السودان، كانت وسوف تظل مصر أم الدنيا، أرض الشعب الطيب الأصيل، القوي دوما بالتاريخ والمبادئ والجذور، صاحب الحضارات والفنون.. ساكن أرض الخلود أذكر أنني في سلسلة المقالات كتبت عن الناس.. عن المصري كريم العنصرين حقا، الواثق الحليم أبوالكرامة دون مبالغة، مانح العالم الكثير.. علوم وآداب وفنون ومبادئ بل وعقائد. المصري الذي عمر وربي وأسس مباني وأجيالا وقوانين، مؤسسات وجامعات ودساتير ابن مصر.. أم الحضارة، أرض الأهرامات وأبوالهول وأبوسنبل، بلد طه حسين والعقاد، وعبدالوهاب وأم كلثوم، وصقر وأبوهيف، والتابعي وبهاء الدين وغالي ومحفوظ وزويل ويعقوب، وناصر والسادات، وحتي مينا موحد القطرين وادخلوها بسلام آمنين، أرض خير جند الأرض، هي مصر.. لا شيء ولا أحد ولا أرض غيرها.. في الثراء والضيق، في الإنجاز والإحباط في الهزائم والانتصارات، هي المعلم والطبيب والمهندس والصنايعي هي الفلاح والتاجر والقسيس والشيخ والعالم والفيلسوف حتي مع وجود الفهلوي والمهرج، فنحن بشر علي أي حال.. ثم راقبوا معي.. هل رأيت شعبا يبدأ يومه بتميمة صباح الخير، صباح الفل، صباح الرزق، صباح النور، نهارنا قشطة نهارنا عسل، وينهيه بمقولة كلها رضي وإيمان: بارك الله فيما رزق وقبلها وبعدها يقوم بتقبيل قروش قبل وضعها في جيبه وهو يبتسم!! يشارك جاره في الملمات والأفراح، ابن البلد الذي لا تجد له مثيلا في غير مصر الضاحك الكريم، ذلك القائل: حد الله بيني وبين الحرام.. ومش ممكن أولادي يأكلوا حاجة حرام، هو الذي يفتخر بلقب الحاج أو المقدس عن قناعة وإيمان، هو الذي يحتفل بشم النسيم وعاشوراء وسبت النور ومولد السيد البدوي، وقبلها وفاء النيل وبعدها 6 أكتوبر. هو الذي يطلق علي الموالد أسماء: سعيد، عواطف، كريم، صفاء، سامح، فاتن، مينا، عبدالرحمن، عبدالمسيح مع بدر وكمال وصليب ومحب وجميانة وصالح وشريفة وقدسي، بينما غيرنا يطلق: صدام، عبدالجبار، أسد، قاسم، سيف.. وحتي قذاف الدم!! هو الصاخب الضاحك المترفع عن الصغائر صاحب الأيادي البيضاء برغم كل شيء.. العاشق لتراب بلده، مصر الأنبياء والرسل، القاهرة للغزاة بلد علم الغير مبادئ التوحيد، يكرم الضيف ويحترم المضيف ضمن التزام بالأصول وأعمال حقوق، مصر الناي والأرغول والطبلة والمزمار، المآذن والمسحراتي وعروسة المولد وكعك العيد، مصر الحضن الدافئ لكل زائر والقلب الرحيم لكل لاجئ.. أرض الكنانة التي حباها المولي بالكثير.. هي مصر.. وكفي.. أم الدنيا بحق.. أرض الأسياد بالفعل، حتي مع الفول والعدس والطابور، بل وحتي الفقر العابر. لم تكن تلك مقدمة طويلة عن بلد عبقري معجز، وإنما مجرد لقطات من أسطورة لا تنتهي، كما أنها لم تكن ردا عن مدعي فن يصور مصر مجموعة شوارع هرم أو راقصات بطن أو قطاع طرق أو غرقي في مراكب قرب سواحل إيطاليا، أو خادمات لدي ثري صدفة هي صور لشعب عملاق مهما جارت عليه الأيام.. وطالت معه الليالي.. فلا شيء يدوم، لا الثراء الطارئ، ولا مخزون الأرض، ولا تحويلات العملة.. أو تحويرات الحقائق.. ربما كانت المقدمة ردا علي صوت نشاز يتجاهل التاريخ والجغرافيا داعما لتبعية لا يقبلها المنطق واستسلام يرفضه الواقع، فالمصري سوف يظل دوما هو المصري، مهما جري، حتي مع هجومي شخصيا علي سلوك البعض منا.. حتي مع معارضتي لكثير من ممارسات آنية، لكنها أولا وأخيرا.. مشاعر حب وغيرة لبلد لا يتكرر.. أتمني مع غيري كل الخير له. يقول المهندس نبيل فيومي الخبير المعماري: مصر دي ربنا أعطاها ما تحلم به كل دول العالم، تستحق منا كل غال يستحق علمها كل إجلال، يستحق أهلها كل تقدير، تستحق كرامتها كل تقديس، علينا أن نستمر في غرس ذلك الاستحقاق في عقل وضمير كل طفل وتلميذ!! تاريخنا الذي يدرس في مدارس الابتدائي في الغرب، شعبنا الصابر المكافح المنتصر الواثق دعنا نفتخر عاليا نرفع علمنا.. رايتنا.. نبني أطفالنا، كلنا فخر بالأم المصرية الصابرة المكافحة التي لم تحظ امرأة غيرها بكل ما منحه الله لها: أخلاق وتدين وإخلاص ونقاء وقوة. دعنا نبدأ بالحضانة، بالمدرسة، بالشارع، ثم بالورشة والمزرعة والمصنع.. نحن لدينا مخزون لا ينضب، وثراء لا ينتهي. فالأمم العظيمة لا تهن أبدًا ولا تضعف مطلقا، سوف نظل نمنح نعلم ونسمو ونتقدم ونصحح.. سوف نظل أبناء الأرض الطيبة، قبل الرومان وبعد الأمريكان، نحن أهل حضارة جذورها عميقة متفردة، ولسنا سكان صحاري رملية أو بيئة جافة قاسية أو طبيعة بدوية أو بدائية.. نحن أبناء مصر، نحن من يطلق علينا البعض: فراعنة متصورا أن في ذلك دليل عنف أو خبرة تحنيط.. فقط لا غير، كانت تلك لقطات استدعتها للذاكرة كلمات موبايل الصديق وعشق نبيل فيومي لأم الدنيا. هي لقطات دائمة لشعب مستمر.. في البناء.. والغناء أيضا.. شعب مصر أحفاد الفرعون والنيل أبناء المحروسة شعب الرقي والتاريخ والعطاء والحضارة في كل حال وحين.