أعرف إن كان من واجبي أن أعتذر عن غيابي الاثنين الماضي أم أن أعتذر عن حضوري في هذا اللقاء الأسبوعي. كان المشهد في التحرير أكبر من كل كلام، وإذا عرفنا أو لم نعرف كالعادة من أصدر الأوامر؛ فالمدهش كان حجم الوحشية التي تسلح بها حاملو الهراوات. من أين جاءوا بكل هذا الحقد ضد الذبائح المنهارة تحت أقدامهم؟! ذلك المشهد أصاب قلمي بالحصر فغبت، وهذا خيار أقل رهقًا من حضور نندفع إليه كما تندفع الفراشات إلي الضوء، نعيد ونزيد وما من مجيب. الكاتب في بلادنا، إن كان لا يبغي اللعب، يشبه النافخ في القربة المقطوعة، لا يناله إلا التعب والاتهام بالجنون. وقد عدنا وزدنا القول في أن ما يطلبه الثوار بسيط، وسأترجم عنهم إن كانت لغتهم غريبة وغير مفهومة -نظرًا لارتباطاتهم الأجنبية!- لم يطلبوا أو يتوقعوا أن يمشي موكب للمجلس العسكري علي الصحراء فتخضر، ولا أن يصبح دخل الفرد مساويًا لنظيره الفرنسي. كل ما كان مأمولاً أن يشعر الناس بأن العقيدة السياسية للنظام قد تغيرت. ثرنا علي نظام لم يكن يري في مصر أكثر من ألف شخص بين ملياردير ومليونير، يمنحهم مقدرات البلاد بالمجان ثم يتسول منهم ومن الدول الأجنبية لرعاية الفقراء! وكان أبسط ما يجب أن تفعله الثورة هو أن يصبح الثمانون مليون مصري مرئيين من النظام الحاكم. وإذا تبادر إلي ذهن أحد بأن المطالبة بأن تري الحكومة الشعب، تعني أن تقدم الرعاية لمجموعة من العجزة الذين أصبحوا فقراء قضاء وقدرًا؛ فهذا يعني أنه ينتمي إلي العقيدة السياسية القديمة. والمصريون ليسوا حشدًا من الأفواه، بل هم سواعد وعقول ولديهم مدخرات معطلة بفعل فاعل بحيث لا يكون أمام رءوس الأموال الصغيرة إلا الضياع في الاستهلاك أو السير الحتمي في طريق نصابي توظيف الأموال ولصوص البورصة الفاسدة. وكان ينبغي أن تتغير هذه العقيدة الاقتصادية، وأن تنظر حكومات ما بعد 25 يناير إلي المصريين بوصفهم قوة فكر وسواعد وقدرات مادية معطلة بفعل فاعل، حيث كانت التجارة حقا للألف ملياردير ومليونير، وليس للشعب إلا دور الزبون إن كانت لديه أموال أو متسول إن لم يكن لديه ما يشتري به. خلال عام من الثورة تتابعت ثلاث وزارات في كل منها فوق الثلاثين وزيرًا أي أننا رتبنا علي خزانة الدولة معاشات مائة وزير سابق من دون أن يفعلوا شيئًا. وليتنا نعرف ماذا كان يفعل وماذا يفعل الآن وزير الزراعة أو الصناعة عندما يذهب إلي مكتبه كل يوم وفيم يمضي ساعات عمله الرسمي؟! هل انتبه أي مجلس وزراء إلي ضرورة الالتفات إلي المنتج الصغير في كل مجالات العمل بمصر واستغلال إمكاناته المهدرة في ظل حكم الأب والابن والأم والأصدقاء؟! هل انتبه أحد إلي حجم الاقتصاد السري المطرود من جنة نظام لا يري المصريين؟ هل حاول أحد خلال العام أن يسأل عن حجم الأموال التي تختنق بها قري يحترف أبناؤها السفر ويعودون بأموال تمنعهم التعقيدات البيروقراطية من استثمارها؟ هناك مستوي من التنمية يتطلب استثمارات جديدة في القطاع الزراعي، وهناك بالتأكيد ضرورة لتغيير العقيدة الاقتصادية للنظام بحيث يكون ري فدان الأرز أهم من ري ملعب الجولف، لكن الموجود قليل والمهدر كثير. لدينا، علي سبيل المثال، 11 مليون نخلة لا نستفيد بواحد بالمئة من إنتاجها. لا أحد في مجلس الوزراء يعرف أن سعر البلح الطازج الحياني ينخفض إلي عشرة قروش مما يجعل تركه للذباب أرخص من جنيه. هذا قطاع وحيد من قطاعات الإنتاج المصرية لا يراه النظام بينما من الممكن أن يكون بابًا لعشرات الصناعات من تعليب التمور والعسل والأعلاف والأخشاب المصنعة التي يأتينا مثلها ومن ماليزيا وتركيا بأسعار خرافية. استهلكنا أطنانًا من حبر وورق الصحف في نشر تصريحات مبارك علي مدي ثلاثين عامًا عن انحيازه لهؤلاء العجزة الفقراء، وفي الحقيقة فإن سياساته كانت هي التي تفقرهم وليس القضاء والقدر. وقد استمرأ النظام واستسهل مد يده للآخرين، وهي عادة أسس لها السادات مع توقيعه كامب ديفيد واستكانته للمعونة الأمريكية. وعامًا بعد عام كان النظام يتخلي عن حيائه وعفة نفسه ويستسهل مد اليد. وتعمقت هذه العادة في سنوات مبارك الأخيرة، فكانت الحكومة مجرد قبضة أمنية أما علي صعيد الاقتصاد فهي مجرد وسيط يتلقي المنح من المانحين الدوليين أو يتسول من رجال الأعمال ليمرر ما يجود به هؤلاء وهؤلاء إلي شعب من الفقراء والمحتاجين. وها هو الجنزوري، ثالث رئيس وزراء في سنة سوداء طويلة يتكلم، فإذا به يشكو من عدم وفاء المانحين الدوليين بوعودهم. خبير التخطيط الذي قيل إنه اختلف مع مبارك علي فوضي الخصخصة يبحث عن "الكاش" علي طريقة أحمد نظيف. وليته اشتكي من عدم عودة الكاش من جيوب اللصوص نزلاء منتجع طره السياحي.