يبدو من الوهلة الأولي غياب ابتسامة الرضا عن وجوه المصريين، خاصة بعد الإعلان عن تشكيل هذا المجلس الاستشاري الذي لا يعبر حقيقة عن ضمير الثورة واندفاعها نحو مستقبل أفضل للوطن بأسره. ولا يساورني شك في أن فكرة وجود مجلس مدني يقود المرحلة الانتقالية قد تأخر تنفيذها كثيرا، بل وإنه قد فات الأوان وأصبح هذا المجلس بتركيبته تلك معبرا عن عثرة أخري للمجلس العسكري، فمن منا يرجو نفعا من وراء مجلس لا صلاحيات واقعية له، ولا قاعدة شعبية تؤازره وتؤيده لأنه جاء خاليا تماما من شباب الثورة الحقيقيين كما جاء في بيان »أمناء الثورة« المذاع بين الناس، ومما يدعو إلي الريبة من حوله، ذلك التوقيت الذي خرج فيه، حيث إن عملية انتخاب أعضاء لمجلس الشعب تدور هناك علي الجانب الآخر، وتؤكد صعود التيار الإسلامي بقوة وتراجع الأحزاب والتيارات السياسية الأخري التي جاء رؤساؤها وممثلوها علي قمة قائمة هذا المجلس العجيب. وكنت أربأ بهؤلاء الذين طرحوا أنفسهم كمرشحين محتملين للرئاسة وأن ينأوا بأنفسهم عن هذه الكبوة التي أوصلتنا إليها آراء متخبطة ومنها المتعسف الذي أربك حركتنا الطبيعية إلي مستقبل أفضل، وهم يعلمون أن انضمامهم لمجلس وُلد بهذه الطريقة قد يعني بالنسبة للناس افتقاد الكثير من رصيد مصداقيتهم خاصة بعد الأحداث الدامية المتتالية التي تورطت فيها وزارة عصام شرف وخرج ولم يحاسبه أحد علي ما فعل، وكثير من الأصوات الحرة في الإعلام والعمل المدني أخذ علي هؤلاء تجاهلهم أو عزوفهم عن مجرد الحديث في هذا الأمر.. ثم ان هذا المجلس الاستشاري المولود قسرا، قد وقع في ضمير الثوار منه ما يجعلهم يزدادون يأسا من الوصول إلي حلول مرضية مع المجلس العسكري الحاكم الفعلي للبلاد، وهو ما كنا نخشاه ولانريد له أن يستمر أكثر من ذلك، وألا تزداد الفجوة بين المجلس العسكري من جانب والثوار وما يمثلون من قطاعات عريضة من الشعب علي جانب آخر. تشويه الثوار عيب كبير هل الذين يقفون الآن أمام مجلس الوزراء خونة وعملاء باعوا وطنهم بحفنة دولارات، ويريدون شرا بالمصريين، وهل الذين ماتوا منهم وفقئت أعينهم وبُترت أعضاؤهم، قد خانوا هم الآخرون، أم أن الافتراء قد وصل مداه وتعدي حدوده فصار سلاح الثورة المضادة، هو اتهامات باطلة علي غرار حديث الإفك الذي دار من قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، أما ما يدور الآن من أحاديث الإفك فهو عيب كبير، وسقطة أرجو الله ألا يقع الشعب فيها مع من سقطوا ومضوا يرجفون في أرجاء الوطن ويهرفون بكلام فارغ، كل القصد منه تشويه الثوار وتلطيخ الثورة العظيمة، وإني علي يقين ان الذين أشاعوا حول هؤلاء الشباب الانقياء ما أشاعوا من إفك وافتراء سوف يلعنهم اللاعنون يوما ما حين تكتب يد العدل والإنصاف أحداث هذه الثورة وما قدمه هذا الشباب من تضحيات ومثل سيظل يلهم العالم مددا طويلة وأزمنة عديدة معاني الحرية وقيم الكفاح السلمي النبيل، كفوا عنهم أيها الطاعنون الكاذبون واتركوا لهم الغد أيها القادمون من مخازن النظام المستبد العقيم. نجيب محفوظ.. وبائع الصبر أذكر حين كنت ساهرا منكبا علي كتب الطب في تلك الليلة، فعندي امتحان الماجستير، أن فاجأني خبر فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ولم أملك نفسي من البكاء، أجهشت به وكأني لم أعد ألامس الأرض، فكان ذلك مدي الفرحة العارمة الصاخبة تصب في دمائي شعورا طاغيا، لم أعرفه في حياتي، بالفخر، ثم رن التليفون بجانبي طويلا ولم أفق بعد فصمت وعاود الرنين، وجاء صوت الأستاذ سامي خشبة الناقد والمفكر الراحل ليخرجني من هذه الحالة بصعوبة شديدة، فلم أتجاوب معه في الحديث كما ينبغي، وعلل هو بدوره انه هو الآخر منذ سماعه خبر نوبل لنجيب محفوظ لم يتمالك نفسه حتي الآن، ودار حديث قصير لم يزد عن دقيقتين، طلب إليَّ الأستاذ سامي أن أكتب مقالا في الحال لكي ينشر علي »اسبوعيات الأهرام«، هذه الافتتاحية الثقافية للعدد الاسبوعي يوم الجمعة، وانتهت المكالمة، وتركني في حيرتي، ماذا أكتب خاصة ان الأستاذ نجيب كان ينشر روايته »قشتمر« في نفس الصفحة التي ينبغي أن ينشر فيها مقالي هذا، وكتبت بعد لأي وتمزيق متكرر لكل ما كتبت، لقد كنت في أكبر حيرة في حياتي، لطالما كتبت عن نجيب محفوظ، لكن اليوم قد اختلفت الأمور وأصبحت الكتابة عنه شيئا عسيرا، كدت أنفجر من حيرتي لكن الله ألهمني عنوانا ما ان خطه قلمي حتي انسالت كلمات المقال بعد »بائع الصبر«، وحين نُشر مقالي بجوار »قشتمر« نجيب محفوظ اتصل بي الأستاذ ثروت أباظة »رحمه الله« ثم سكرتيره الحاج صبري السيد والذي ظل يقرأ لنجيب محفوظ حتي رحيله، ان الأستاذ نجيب استمتع بالمقال، هكذا أبلغهما وأنه يريد أن يراني، لكن الامتحان الذي كان ينتظرني أجّل هذا اللقاء، وصحبت معي كتابي »أطباء نبغوا في الأدب«، وأصر الأستاذ نجيب محفوظ ان يعاود قراءة المقال وأنا معه، حتي بث في نفسي خصلة حميدة مازالت تعيش معي حتي الآن هي التأمل وتذوق حلاوة اللغة، لقد قال لي وأنا أختبر طريقي في بدايات الانتشار، انها كلمات شاعرة بحق أن تكون بين يدي الناس ليتذوقوها.. وتابعني نجيب محفوظ وتابعته في صمت دون أن يغريني الضجيج عن حضرة نجيب محفوظ المبدع الرقيق، بائع الصبر في صمته العجيب.