من المعروف والمستقر عليه أن لكل مجال أو نشاط أو مؤسسة في الدولة لها نصيب أو حصة في الميزانية العامة للدولة تقترحها الحكومة ويناقشها البرلمان ويصادق عليها، ثم يراقبها بشكل مباشر أو عبر أجهزة رقابية من بينها أو في مقدمتها الجهاز المركزي للمحاسبات. ومن بين هذه المؤسسات، المؤسسة العسكرية والمؤسسة الشرطية، وهما جناحا القوة في المجتمع، حيث الأولي للدفاع عن حدود الدولة في مواجهة الاعداد وتوفير الأمن للدولة والشعب، بينما الثانية فهي تقوم بتوفير الأمن والطمأنينة للشعب في ضوء القوانين. وقد تكون ميزانية المؤسسة الشرطية المختصة بالامن الداخلي (داخل حدود الوطن) مكشوفة الي حد كبير للرأي العام والبرلمان وليس من حرج في تعقب تفاصيل هذه الميزانية في ظل مجتمع ديموقراطي أو حتي »نصف« ديموقراطي، إلا أن ميزانية المؤسسة العسكرية ليست مكشوفة الي هذا الحد للرأي العام، ويخضع جزء كبير منها الي السرية خصوصا ما يتعلق بالتفاصيل. فقد تجد ميزانية هذه المؤسسة رقما مطلقا وما يعادله من نسبة في ميزانية الدولة، ولا تجد التفاصيل. ولي تجربة خلال العام الاول 5002/6002 لعملي في البرلمان كنائب عن الشعب عند مناقشة الميزانية، فتحدثت في شأن ميزانية الرئاسة وتفاصيلها، وميزانية الداخلية وميزانية القوات المسلحة وميزانية المخابرات، وتفاصيل هذه الميزانيات، وكنت أهدف الي المعرفة والالمام بكل التفاصيل وكذلك حدود النقاش في هذه الميزانيات ودرجة الحساسية. وحدث ما توقعته، حيث وصلتني ردود أفعال حول هذا الموضوع لا حصر لها، ومكالمات تليفونية من اصدقاء في هذه المؤسسات، أبلغوني القلق مما ذكرته تحت قبة البرلمان، وأدركت علي الفور حساسية اثارة هذا الموضوع، وان البرلمان ليس مكانا ملائما للنقاش فقط وليس المحاسبة وفقا لوظائف البرلمان. كما أن السيد المشير حسين طنطاوي، حاول أن يرد بطريقة عملية عن أوجه صرف القوات المسلحة علي وجه التحديد، وعائد الصرف، بأن دعاني مع نواب آخرين من لجنتي الأمن والدفاع بمجلس الشعب لحضور مناورات عسكرية في الهايكستب ثم في قيادة الجيش الثالث والاطلاع علي ما يجري من نشاطات تقوم بها القوات المسلحة، واعتبرت ذلك ردا محمودا ومقبولا وبه من الرسائل المطمئنة كما أنني لاحظت دورا مجتمعيا قامت به القوات المسلحة في انقاذ مصر عندما تفجرت أزمة العيش، ودخلت علي الخط، لتؤكد أنها قادرة علي التدخل في الوقت المناسب، ولكنها كشفت الي حد كبير ضعف وفساد حكومة نظيف. كما لا يمكن نسيان دور القوات المسلحة في شراء بعض الشركات الاستراتيجية مثل الترسانة البحرية وغيرها، عندما أصرت حكومة نظيف علي بيعها بأبخس الأثمان فاشترتها من زاوية أنه تفريط في مؤسسات استراتيجية هي ملك الشعب. ولعلني أقول ذلك، ولدي ما هو أكثر، وتقديري للقوات المسلحة فائق الحد، الا انني من أشد الناقدين لأداء المجلس العسكري في ادارته للفترة الانتقالية لثورة الشعب المصري، لأن طموحنا في تأسيس نظام ديموقراطي حقيقي هو أقصي ما نتمني ترجمته في الواقع العملي ويستلزم منا جميعا كل الجهود دون مجاملة لأحد أو مواربة أو توازنات.. الخ. لكنني لاحظت تصريحات رسمية صادرة عن قيادات في المجلس العسكري، بعضها في ذلك اللقاء الذي اجراه اثنان من المذيعين المعروفين مع اثنين من قيادات المجلس منذ أيام، تضمنت ان المجلس العسكري قرر دعم الحملة الانتخابية لمرشحين من الشباب في انتخابات مجلسي الشعب والشوري تشجيعا لهم، وان المجلس سيقوم بطبع مطبوعات هؤلاء في مطابع القوات المسلحة. كما سبق أن أعلنت قيادات المجلس في أحاديث حضرت واحدا منها، ان المجلس سيدعم عددا من أحزاب الشباب بالمال وتحمل تكاليف النشر في الصحف حسب قانون الاحزاب وتقديم كل سبل الدعم لها حتي تخرج الي النور. ولاشك أن هذا سلوك يبدو أنه طيب في ظاهره، ولكن في حقيقة الأمر هذا سلوك يحتاج الي مراجعة سريعة، للعديد من الاسباب هي: 1 خروج عن التصرف في ميزانية القوات المسلحة عن نشاطها الاساسي فالمعروف أن الميزانية مخصصة لأداء المؤسسة العسكرية ودورها في حماية الوطن، بينما هذا التصرف له طبيعة سياسية خارجة عن نشاطاتها الاساسية. 2 التدخل العسكري في شأن سياسي، وفي مجريات العملية الانتخابية من شأنه الانحياز لطرف علي طرف، وكذلك عندما يقوم بالصرف علي انشاء حزب دون آخر، الامر الذي يجعل من القوات المسلحة طرفا سياسيا لم نعهده من قبل. 3 خلق ولاءات غير مبررة للقوات المسلحة من خلال الدعم المباشر لأطراف سياسية أيا كانت هذه الاطراف، الامر الذي قد يؤدي الي استقطاب غير مبرر بين مؤيد ومعارض للقوات المسلحة، علي خلفية هذا التصرف أو ظهور هؤلاء المدعومين بأنهم حماة للقوات المسلحة دون غيرهم!! الامر قد يبدو في ظاهره مسألة بسيطة، وفي ظاهره دعم لشباب الثوار دون غيرهم من احزاب أخري، ولكنه في نفس الوقت يحمل اشارات خطيرة في مضمونها ومن بين هذه الاشارات، التدخل المباشر في عملية الانتخابات من جانب المجلس العسكري، والانحياز لبعض الاحزاب دون غيرها، وتصرف في مال هو مال الشعب وليس مال المجلس العسكري في غير الاغراض المخصصة او الواردة في ميزانية القوات المسلحة، وهو بصريح العبارة يقع ضمن ما اسميته من قبل في دائرة »الرشوة السياسية« المرفوضة فكرة وسلوكا، فقد سبق ان اتهمت الحكومة بتقديم »الرشاوي السياسية« لنواب الحزب الوطني لضمان تأييدها باستمرار داخل البرلمان، فأهدرت من مال الشعب مليار جنيه كان القصد منها دعم نواب الوطني في دوائرهم مما خلق تمييزا بين فئات الشعب، واضطهادا لمن لم يعط صوته للحزب الوطني، واتهمت الحكومة بالتسيب واهدار المال العام وبانعدام الجانب الأخلاقي للدولة باقدامها علي هذا العمل المشين سياسيا، وتحملت جراء ذلك الكثير ولم تثبط عزيمتي، واليوم اقول للمجلس العسكري وأدعوه للتراجع عن هذه الخطوة لما سبق ان أوضحت، فنحن لسنا في حاجة إلي المال السياسي المقدم حتي ولو لغرض حميد لانه يحمل مخاطر في المستقبل نحن في غني عنها.. ولازال الحوار مستمرة.