الاتجاه شرقا - في تقديري - هو الملاذ الآمن لمصر خلال الفترة المقبلة، ليس فحسب لأن العملاق الصيني، والمارد الهندي، والنمور الآسيوية هم الذين يملكون مفاتيح المستقبل في ظل شيخوخة حتمية تصيب أمريكا، وتراجع ناموسي يضرب في عروق الغرب الأوروبي. إنما أيضا لأن هذه الدول تمتلك حضارات كحضارتنا، وعادات وتقاليد أقرب إلي عاداتنا وتقاليدنا، وهذا يمنحنا سبباً وجيهاً للاتجاه شرقاً، بدلاً من الارتماء في أحضان الغرب، رغم امتصاصه لدمائنا، واستنزافه لمواردنا، واستغلاله لضعفنا طيلة قرون. وكانت - وما زالت - الدعوة إلي الاتجاه شرقا هي دعوتي التي أصر عليها، ولم أكتفِ بمجرد إطلاقها من هنا، ولكنني ذهبت إلي كوريا الجنوبية منذ أكثر من خمس سنوات، وأسهمت في تأسيس أول مركز كوري للثقافة العربية والإسلامية علي أرضها، واليوم أتوقف أمام الصين، هذا العملاق المتنامي في شرق آسيا، الذي يمد يد الصداقة بودٍّ ورغبة في تبادل حقيقي، لكننا لا نمد يدنا إليه، رغم ترحيبنا بوجوده بيننا! وتاريخ العلاقات المصرية الصينية عريق عراقة حضارتيهما، فلكل من البلدين حضارة ما زالت آثارها شاخصة للعيان. وقد تواصلت الحضارتان عبر طرق التجارة، قبل أكثر من ألفي سنة، أما في العصر الحديث، فقد صنعت الصين معجزتها الصناعية دون أن تتخلي عن تقاليدها العريقة، وتمكنت من غزو أكثر بلاد الدنيا، في حين سارت مصر إلي الخلف متأخرة عن ركب التقدم، ولكن هذا لم يفصل بين البلدين؛ فقد كانت مصر أول دولة عربية حرصت علي وجود تمثيل دبلوماسي مع الصين عام 1928، كما بادرت بالاعتراف بجمهورية الصين الشعبية عام 1956، وهو ما أسهم في إقامة البلدين لعلاقات تعاون تجارية وثقافية، ثم تكللت بالعلاقات الدبلوماسية الرسمية في الثلاثين من مايو عام 1956، وشكلت هذه الخطوة انعطافاً مهماً في خريطة العلاقات الدولية، بالنظر إلي مكانة مصر عربياً وإفريقياً وإسلامياً، كما فتحت الباب أمام الصين لإقامة علاقات رسمية مع دول عربية وإفريقية أخري، وقد شهدت علاقات الصداقة والتعاون بين الصين ومصر تطوراً متواصلاً علي مستوي القيادات السياسية، إضافة إلي تعزيز التعاون بين الدولتين اقتصادياً وعلمياً، وكان من المفترض أن تحل الصين ضيف شرف علي معرض القاهرة الدولي للكتاب مطلع هذا العام قبل إلغائه بسبب تداعيات الثورة. وتحتفل الصين هذه الأيام بمناسبتين مهمتين، الأولي مرور 62 عاماً علي تأسيس الجمهورية الشعبية الحديثة، والثانية مرور 55 عاماً علي إقامة العلاقات الدبلوماسية مع مصر. ولعل هذا ما جعلني أبادر بزيارة المركز الثقافي الصيني بالقاهرة، لألتقي الدكتورة "تشين دونغ يون"، المستشارة الثقافية ومديرة المركز، التي نعرفها في مصر باسم "ديما"، و"ليون ين فانغ" الملحق الثقافي، المعروفة باسم "ليلي"، وهي عادة صينية لا تثير دهشة من تعامل مع الصينيين، حيث يختار كل صيني - أو صينية - اسماً عربياً يُنادي به، ولا أظن أن هذا التقليد له علاقة بالعادة الفرعونية التي كانت تفرض إطلاق اسمين علي المولود أحدهما سري والآخر معلن خوفاً من السحر، وأتصور أن التقليد الصيني "الذكي" هدفه تقريب المسافات وتذويب الحواجز بينهم وبيننا. ورغم شكله العصري - معمارياٍ - إلا أن المركز الثقافي الصيني الذي أنشئ عام 2002، يضم بداخله "غرفة صينية" - هذا هو اسمها - بها مقتنيات تساعد في التعرف علي الثقافة الصينية وتمثل مرآة للحضارة العريقة، كما يضم المركز - الذي زرته برفقة الدكتور محسن فرجاني أستاذ الصينية بكلية الألسن، والدكتور عبدالبديع عبدالله الأستاذ غير المتفرغ بجامعة بورسعيد - مكتبة كبيرة، تحوي كتبا بالصينية والعربية والإنجليزية، منها علي سبيل المثال كتاب ثروت عكاشة عن الفن الصيني، وكتب تعليم العربية للصينيين، والصينية للأجانب، بالإضافة إلي الكتب المترجمة من العربية إلي الصينية والعكس، ولعل أحدثها كتاب "فن الحرب عند سونبين" الذي صدر مؤخرًا عن هيئة قصور الثقافة، من ترجمة الصديق محسن فرجاني، الذي حرص علي إهداء أولي نسخه إلي مديرة المركز. وينظم المركز دورات تدريبية لتعلم الصينية، وتقوم الصين بإيفاد أساتذة لتدريس لغتها في جامعاتنا، وقد أخبرني "هوا وين جيه" الملحق التعليمي الصيني، بوصول عشرة من هؤلاء المتخصصين للتدريس في مصر خلال العام الجامعي الجديد. والمثير للدهشة، وربما للأسي، أن كل هذا النشاط الصيني في مصر، لا يقابله نشاط مصري في الصين؛ فليس لدينا مركز ثقافي هناك حتي اليوم!، وكأننا لا نعي أهمية أن نبادل الصين - العملاق المرشح لهز العرش الأمريكي اقتصادياً.