تمثل التعددية الحزبية عموداً أساسياً للنظام الديمقراطي الحديث ، حيث يقوم النظام الديمقراطي علي تداول السلطة بين أحزاب سياسية حقيقية عبر الانتخابات الدورية الحرّة النزيهة. وعرفت مصر الحياة الحزبية منذ أكثر من قرن من الزمان، ولكنها كانت مقيدة بالظروف التي نشأت فيها وعاشت في ظلالها. لقد كانت مصر ولاية عثمانية في ظل الخلافة الإسلامية العثمانية ولم تكن هناك حياة حزبية حقيقية باستثناء بوادر مبشرة لم يكتب لها الاستمرار، فعرفنا الحركة العرابية بزعامة أحمد عرابي باشا والتي قادت الثورة العرابية العظيمة ائتلاف قيادات عسكرية وأخري دينية وثالثة من الأعيان أو رجال الإعلام تريد أن تحقق للمصريين دوراً في اختيار حكامهم وتحديث جيشهم واتخاذ قراراتهم المصيرية، وكان الاحتلال البريطاني القادم بطلب من خديو مصر الذي انفصل عن الشعب وطموحاته واستسلم لنزواته في الحكم والسيطرة وبصمت أو موافقة عثمانية او قل بالأحري لضعف وعدم قدرة علي التدخل لمنع الاحتلال الذي فرض أوضاعاً جديدة علي البلاد. ونشأ حزب جديد واعد أسسه الزعيم مصطفي كامل باشا وارتبط الحزب بالجامعة الإسلامية يؤيد دولة الخلافة ويربط مصر بالإطار الأوسع الذي استظلت به لقرون وكان يشكل عاطفة المصريين جميعاً وكان ذلك الحزب هو مظلة الوطنيين المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي البغيض الذي ارتكب مذبحة " دنشواي " بحق الفلاحين المصريين ثم انتقل مصطفي كامل إلي الرفيق الأعلي وخلفه محمد فريد باشا زعيماً للوطنية المصرية ومحارباً ضد الاحتلال البريطاني حتي تم نفيه خارج البلاد.. وجرت تحت الجسور مياه حتي نشأت الحركة الوطنية الحديثة بقيادة سعد زغلول باشا ورفيقيه عبد العزيز باشا فهمي وعلي باشا شعراوي عندما قدموا طلب الاستقلال إلي المعتمد البريطاني وتم نفيهم خارج البلاد فقامت الثورة المصرية العظيمة في مارس 1919م.. تأسس الوفد المصري الذي تحول من حركة وطنية شعبية إلي حزب سياسي وتعرض للانشقاقات في تاريخه وتولدت منه معظم الأحزاب السياسية التي عرفتها مصر قبل عام 1952 باستثناء حركة الإخوان المسلمين والحركة الشيوعية المصرية.. وعانت الحياة الحزبية وقتذاك من 3 عوامل مدّمرة أعاقتها عن التطور والنمو الطبيعي. أولها: الاحتلال البغيض الذي تلاعب بالأحزاب والحزبيين والساسة أجمعين. ثانيها: القصر الذي كرّه الوفد كحزب للأغلبية ينافسه علي حب المصريين . ثالثها: العوامل الشخصية وحب الزعامة والاختلافات بين الزعماء. ولم تتطور تلك الأحزاب لتحقق لمصر حياة سياسية وحزبية مستقرة، فلم يحكم الوفد إلا قرابة 7 سنوات ونصف من حوالي 28 سنة (1924 - 1952 ) وهو حزب الأغلبية بلا منازع نتيجة تقلب السياسات والتلاعب في الانتخابات وتغيير الدستور. واستمر الوفد علي طبيعته التي نشأ عليها ، إطاراً واسعاً يضم جميع المصريين أيّاً كانت آراؤهم وتوجهاتهم الفكرية أو يعمل من أجل الاستقلال والدستور ووحدة وادي النيل. وعارض الوفد أصحاب المصالح الاقتصادية الكبري ، من الأعيان وملاك الأراضي أو الصناعية الجدد أو المرتبطين بالاحتلال الانجليزي روحياً وفكرياً واقتصادياً. وعلي هامش ذلك الصراع السياسي نمت وتطورت الحركات الأيديولوجية العقائدية.. وفي مقدمتها الإخوان المسلمين بعيداً عن ذلك الصراع السياسي الذي دمّر صورة النخبة السياسية والاقتصادية والفكرية المصرية في عيون الشعب المصري. ثم جاءت حركة الجيش لتؤمم كل شئ في حياة المصريين وفي المقدمة الحياة السياسية الحزبية عن عام 1952 إلي 2011م. واليوم ونحن علي أعتاب مرحلة جديدة في حياتنا السياسية بعد ثورة يناير نتطلع إلي حياة حزبية جديدة تستفيد من أخطاء الماضي ومن تراث المصريين، ومن ثقافتنا العربية والإسلامية ومن تجارب الدول الكبري العريقة في الحياة السياسية والحزبية. ولقد ظهرت حتي الآن قرابة ال 45 حزباً سياسياً تمثل كل التوجهات الشعبية والفكرية والاقتصادية والعقائدية. ورغم اعتراض البعض علي شروط تأسيس الأحزاب إلا أننا نلاحظ أن تلك الشروط لم تقف عقبة في طريق تأسيس ذلك العدد الضخم من الأحزاب. ويغلب علي تلك الأحزاب حتي الآن الطابع النخبوي فلم يلحظ المراقبون انضمام أعداد غفيرة من الشعب إلي الأحزاب الجديدة، بل إن الأرقام المعلنة عن المؤسسين وتلك التي يسربها بعض الأحزاب حول العضوية تنبئ أن حجم المشاركة من الشعب في تلك الأحزاب لا يتعدي حتي الآن المليون مواطن. وستظهر الانتخابات القادمة حجم وجود تلك الأحزاب وانتشارها ومدي التأييد الشعبي لها في أول جولة انتخابات نزيهة تخضع لمعايير دولية في الشفافية وتتم تحت إشراف قضائي تام ودون تدخل من أي جهة للتأثير في اتجاهات التصويت . وفي نظرة سريعة إلي الأحزاب القائمة الآن نستطيع أن نصنفها بأكثر من طريقة : أولاً: أحزاب نشأت بعد الثورة وأخري مستمرة من قديم باستثناء الحزب الوطني الذي حكم البلاد لمدة 33 سنة ( 1979 - 2011م) وهذه الأحزاب القديمة أمام اختبار صعب جداً لإثبات وجودها وجدارتها في الاستمرار في الحياة الحزبية، ولا أتوقع استمرار الكثير منها في ظل توقف الدعم المادي الذي كانت تحصل عليه من النظام القديم . ثانياً: أحزاب ناضلت طويلاً من أجل الحصول علي الرخصة الحزبية دفعها النظام السابق أي أنها كانت قوي سياسية منظمة في الشارع ولكنها محجوبة عن الشرعية القانونية، وهذه أصبحت فرصتها الآن كبيرة لإثبات أحقيتها في تمثيل الشعب المصري وفي مقدمتها "الحرية والعدالة" والذي يمثل رؤية الإخوان المسلمين ومنهجهم و"الوسط" و"الكرامة". ثالثاً: أحزاب خرجت من رحم الحزب الوطني الذي تم حله بحكم قضائي، وهي الآن حوالي 5 أحزاب سياسية. رابعاً: أحزاب ذات مرجعية إسلامية نشأت لتعبّر عن تيارات إسلامية حركية أو فكرية مثل "النور" ، "البناء والتنمية" و"الأصالة" و"الفضيلة".. الخ. خامساً: أحزاب نشأت بسبب انشقاقات حزبية قديمة "التوحيد العربي" وغيره مما لا يحضرني اسمها الآن. سادساً: أحزاب تعبر عن توجهات حديثة لم يكن لها تعبير سياسي قديماً عن طريق أفرادها مثل "المصريون الأحرار"، "المصري الديمقراطي الاجتماعي". سابعاً: أحزاب تمثل رؤية شبابية وخبرتها السياسية تتراكم مع مرور الوقت وبالاحتكاك "العدل"، "الحضارة"، "الوعي". ثامناً: أحزاب يصعب علي المراقب أن يصنفها ونشأتها عجيبة في ظل حالة السيولة الحزبية التي نراها الآن ، وسنكتشف مع الوقت، هل هي تمثل قوي اجتماعية أم قوي اقتصادية أم قوي قبلية وعائلية.. الخ. تمثل الانتخابات القادمة أهمية كبيرة للتعرف علي تلك الأحزاب جميعها عن طريق: قدرتها التنافسية وترشيحاتها للانتخابات. قدرتها التمويلية في الدعاية لمرشحيها. انتشارها الجغرافي علي التراب الوطني. التحالفات الانتخابية البينية فيما بين تلك الأحزاب ومدي تقاربها الوطني أو الفكري. قدرة تلك الأحزاب علي تقديم رؤية برامجية واضحة للخروج بمصر من وضعها الحالي إلي وضع يحقق آمال الشعب في حياة حرة كريمة . وسيكون الحكم علي تلك المعايير كلها في نتائج الانتخابات ، حيث ستمثل ثقة الشعب في تلك الأحزاب عبر مرشحيها أول محطة للحكم عليها ومدي قدرتها علي البقاء في الساحة السياسية والحزبية والبرلمانية. ولعلنا كساسة وحزبيين ومفكرين بحاجة ماسّة إلي التأمل في سؤال هام: كيف نضمن لمصر وللمصريين حياة حزبية قوية ومستقرّة تمثل أطياف المجتمع المصري كله وتحقق الانتماء الوطني الخالص وتمنع الاختراق الأجنبي للحياة الحزبية كما تمنع الاستقطاب الحاد بين الشعب المصري وتمنع تلاعب أصحاب المصالح الاقتصادية بمشاعر وأصوات الغالبية العظمي من الشعب؟ وهنا يمكننا الاستفادة بتجارب دول حولنا تعرف حوالي 4 أو 5 أحزاب كبري تتداول علي السلطة وتتآلف وتتحالف فيما بينها أو تتنافس بصورة طبيعية وتحافظ جميعها علي المصالح العليا للوطن دون السماح بانهيارات أو تحولات خطيرة تهز استقرار المجتمعات. ستكون الانتخابات القادمة كاشفة للخريطة الحزبية الحقيقية في مصر، بحيث تستطيع الأحزاب القادرة علي البقاء إجراء حوار جاد ومسئول عن مستقبل البلاد تحت قبة البرلمان وفي أروقة الحكم ومن خلال مؤسسات الدولة.