الحقيقة المرة والصادمة التي حاصرتني طوال أيام رحلة استغرقت نحو اسبوع الي قريتي في سوهاج وسمعت خلالها من شهادات وتقارير تشيب لهولها الولدان كما يقولون، هي أن الفساد الذي بدأه ورعاه حسني مبارك طوال ثلاثين عاما كان شاملا ومؤسسيا بل و»شعبيا«. بمعني أن له أنصار ومشجعين من فئات عديدة مستفيدة أو مُضَللَة، حتي تحول الي ما يمكن تسميته »مشروعا قوميا« لنشر وتربية ورعاية الفساد!!.. والمتأمل لأحوال الناس في الصعيد، وفي مناطق اخري بعيدة عن العين والقلب في مصر المحروسة ..ربما يشك في أن هذا البلد شهد ثورة عظيمة يتغني بها العالم وتهدد موجات المد العاتية »تسونامي« التي أطلقتها بإسقاط عروش طغاة ومستبدين في محيطنا العربي.. بل سيقف مشدوها وممرورا أمام المعارك التي انشغلت بها النخبة السياسية في القاهرة عن استكمال مسيرة الثورة وتحقيق التغيير والتطهير والعدالة الاجتماعية التي نادي بها الثوار منذ اللحظة الاولي لزحفهم المقدس..الاوضاع في سوهاج مثلا بدت لي وكأنها لا تزال »بحطة يد« راعي الفساد الاول حسني مبارك.. والمحافظ السابق الذي سكت عن فساد زكمت رائحته كل الانوف في مديرية التربية والتعليم وفي ديوان المحافظة وفي مديريتي الصحة والزراعة وغيرها من المصالح.. ناهيك عن الفساد في ديوان المحافظة ذاته حيث أهدر سكرتير عام سابق للمحافظة مبلغ مائة الف جنيه علي تجديد استراحة حكومية تطل علي النيل ثم اقام فيها مع عائلته بالمخالفة للقانون، ولم يحرك المحافظ السابق ساكنا.. ورغم أنني تفاءلتُ بحركة التغييرات التي بدأها المحافظ الجديد وضاح الحمزاوي في ديوان المحافظة، إلا أن عملية التغيير اقتصرت علي حد علمي، للاسف، علي إقصاء مدير العلاقات العامة في حين بقي كبار الموظفين الذي شاركوا في فساد العهد البائد في مواقعهم بديوان المحافظة..وفي مدينة جرجا، التي شهدت مؤخرا أحداث عنف نتجت عن الانفلات الامني الذي يضرب مصر من أقصاها الي اقصاها، يصدمك الاهمال والخراب من أول محطة القطار الي كل الشوارع التي تملؤها الحفر ولا تمتُ للحضارة بصلة بينما "التوك توك" هو سيد الموقف!!..أما عن الفساد في مركز دار السلام فحدث ولا حرج..الرشوة متفشية بصورة فجة وبشعة في الشهر العقاري وفي إدارة الكهرباء حيث يطلب بعض العاملين »المعلوم« علنا وإلا فإن الخدمات لن تنفذ والتيار لن يصل!!..هناك أيضا فضيحة مدوية في الصرف الصحي.. بل إن شئت فقل إنها جريمة من جرائم نظام حسني مبارك في حق هذا البلد ..فقد اسفر برنامج النهب المنظم لمقدرات واصول الشعب المصري والذي أدارته عصابة الوريث بتخطيط اللص الهارب وزير الاستثمار محمود محيي الدين، عن تقسيم اراضي مصر علي كبار المحاسيب وذوي النفوذ، إضافة الي خصخصة الخدمات الاساسية وإسنادها الي شركات خاصة ينشئها بعض محاسيب النظام (لواءات سابقون في الغالب) وهو ما أدي الي تدهور هذه الخدمات بصورة كارثية (النظافة وجمع القمامة) وزيادة الاعباء المادية علي المواطنين!!.. واليكم صورة كاشفة وفاضحة لهذا الفساد.. بدأت الحكومة تنفيذ مشروع عملاق للصرف الصحي في قري دار السلام وتم فتح بطن القري وتركيب مواسير ضخمة ذات مواصفات عالية في إطار مشروع متكامل لإقامة محطة لمعالجة مياه الصرف في الجبل وزراعة غابات لإنتاج الاخشاب وتحسين البيئة ..ولكن هذا المشروع الواعد توقف فجأة ليدفن مليارات الجنيهات تحت الارض من اجل عيون أكبر برنامج للسرقة المنظمة، أقصد الخصخصة، في تاريخ مصر.. تم إسناد عمليات الصرف الي شركة خاصة برئاسة لواء متقاعد أوكلت عملياتها من الباطن الي بعض المقاولين الذين يستغلون المواطنين دون حسيب او رقيب في ظل الغياب الكامل للحكومة ومجلس المدينة!!.. هناك صورة فجة اخري لجرائم حسني مبارك في حق هذا الوطن تحتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمي.. ألا وهي تدمير الاقتصاد الوطني عن طريق إستهداف عموده الفقري وهو الزراعة.. وهذه جريمة يشترك فيها جميع وزراء الزراعة الذين تولوا هذه الحقيبة الاستراتيجية في عهد اسوأ حاكم في تاريخ مصر..وهي جريمة يتحمل وزرها كذلك وزير الزراعة الحالي ورئيس الوزراء عصام شرف إذا لم يتحركا فورا لتوفير الاسمدة للمزارعين بكميات كافية مع إعطاء الاولوية والافضلية وكل الدعم للمحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والذرة والقطن.. والمشكلة التي يصرخ منها الفلاحون تتلخص في خلق طبقة من الوسطاء الطفيليين يتحكمون في عملية توزيع الاسمدة وفي تحديد الاسعار ..هل تتصورون أن السمسار من هؤلاء يصرف كيس السماد من المصنع بحوالي 75 جنيها ويبيعه للفلاح بما يزيد علي 180 جنيها!!.. والنتيجة الحتمية لهذا الاستغلال بل السرقة العلنية أن يترك الفلاحون الارض بلا زراعة أو يتجهون الي زراعة محاصيل استهلاكية لتعويض ارتفاع اسعار الاسمدة، وعليه يتم اهمال المحاصيل الاستراتيجية ويدفع الاقتصاد القومي ثمنا غاليا مما يلحق ضررا بالغا بالامن القومي.. والحل الوحيد لهذه الازمة هو عودة بنك التنمية والائتمان الزراعي الي تسلم الاسمدة من المصانع رأسا وتوزيعها علي الفلاحين مباشرة للقضاء علي أهم مشكلة تؤرق حياة الفلاح وتهدد الاقتصاد والامن القوميين بخطر كبير.. وأي تقاعس عن التحرك الفوري لحل هذه الأزمة، وهو حل سهل وبسيط كما يري الجميع، سيلقي علي كاهل جميع من يهمهم الامر مسئولية تعريض الأمن القومي لخطر عظيم.. وسيكون معناه أننا نقول للفلاحين »فلتذهبوا الي الجحيم أنتم ومحاصيلكم الاستراتيجية، ولتموتوا بغيظكم لأن سياسة مبارك ووالي القائمة علي الاقتصاد الطفيلي والاستيراد والسمسرة هي التي سوف تستمر.. وسلم لي علي ثورة 25 يناير«!!..