كان من المفترض أن أستكمل ما بدأته في الأسبوع الماضي من " توضيح لابد منه " . لكن لأن موعد نشر هذه المقالة يتزامن مع عيد الفطر ، رأيت أن من الأنسب أن أؤجل استكمال ما بدأته للأسبوع المقبل إن شاء الله. كانت منفلوط في منتصف القرن الماضي ، عندما ولدت ، مدينة صغيرة محاطة بالأراضي الزراعية من جميع الاتجاهات . كنا نمشيها من أقصاها إلي أقصاها في أقل من ساعة . كانت بالنسبة لطفل مثلي ساحرة . وكانت حكايات السحر والساحرات مزروعة فيها . بل كنت أخرج في شرفة بيتنا قبل أذان الفجر لأري بعيني ساحرة في شكل امرأة طويلة ترتدي ثيابا سوداء تطارد أرنبا يعبر من " درب البستان " ويقطع شارع " الجمهورية " ليدخل الحارة التي أمام دربنا . كانوا يسمونها " المزيرة " ! وكانت دائما تخفي وجهها . لم تمسك الساحرة بالأرنب أبدا . عندما يؤذن الفجر يختفي الأرنب والساحرة . فبأذان الفجر يمتنع علي الساحرات الظهور وحتي ما بعد منتصف الليل . وكذلك طوال ليالي شهر رمضان . إنه حظر تجوال علي الساحرات . كنا نتحلق حول فرن الكنافة البلدي الذي يقيمه عم " سيد " بجوار كشكه علي ناصية دربنا الذي يتقاطع مع الشارع الرئيسي في البلدة . كنت أقعد مع عدد من أطفال الجيران بجوار الفرن ، أحمل فانوسي بيدي . حتي نسمع صوت طبلة المسحراتي آتيا من بعيد فنجري نحوه . ونسير وراءه وهو يقف أمام البيوت مناديا علي صاحب كل بيت باسمه . وأحيانا تطل عليه واحدة من البيت لترمي إليه ب " لفة " فيها طعام أو بقرش صاغ . وكنا نري المسحراتي نفسه يأتي إلي بيتنا بعد صلاة ظهر يوم العيد ليحصل علي " عيديته " من أمي رحمها الله . وكنا نراه يوم العيد في جلباب أبيض جديد ، حاملا بين يديه أيضا " طبلته " . ربما ليؤكد لنا أنه " المسحراتي " . قبل ليلة العيد بليلتين تبدأ الليالي الساحرة فعلا بالنسبة لي ، حيث يبدأ العمل علي سطح بيتنا من بعد العشاء. كان لدينا علي سطوح منزلنا غرفتان مبنيتان بالطوب اللبن وتفتحان علي بعضهما . غرفة للفرن البلدي المبنية أيضا بالطوب اللبن والمطلية من الداخل والخارج بخليط من الطين والتبن ، والغرفة الأخري لتربية الدجاج والأرانب . تأخذ السيدة " أم رمضان " رحمها الله ، التي كانت تساعد أمي في أعمال البيت ، في نقل الدقيق وبعض المعدات والأدوات إلي غرفة الفرن علي السطوح . وتبدأ في إعداد العجين. كانت كل ليلة من الليالي الثلاث مخصصة لصناعة نوع من مخبوزات العيد . تبدأ بليلة البسكويت ، تليها ليلة "الفايش والمنين"، وأخيرا ليلة "الكعك والغريبة". يا سلام علي هذه الليالي الجميلة وبخاصة ليلة " البسكويت " حيث أساعد أمي في تشغيل الماكينة اليدوية التي تعده . وأشعر بالفخر بعد ذلك عندما يقدمون هذا البسكويت للضيوف القادمين لتهنئتنا بالعيد ، وأقول لهم : "أنا اللي عملته"! في ليالي الشتاء تشعل " أم رمضان " الفرن ويتم كل شئ بجواره داخل الغرفة . وفي ليالي الصيف نعد كل شئ خارج الغرفة في الهواء الطلق ونترك " أم رمضان " لوحدها تسوي المخبوزات . وفي كل الليالي كنت أستمتع بالنوم علي رجل أمي بعد أن يهدني التعب . وأشعر بها تحملني قبل الفجر وهما نازلتان بعدما انتهيتا من العمل . في ليلة الوقفة يحرص أبي رحمه الله علي شراء "بيجامة" جديدة لي أو "جلابية" . لماذا "بيجامة " ؟ توصلت فيما بعد أنه لم يكن من المعتاد في بلدتنا أن يشتري الأهل للأولاد الصغار قمصانا أو بنطلونات . المعتاد هي "الجلاليب" . وربما كان أبي يظن أنه يميزني عندما يشتري لي بيجامة " فاخرة " . وعلي كل حال كنت ألبسها وأتيه بها وأنا أمشي في شوارع منفلوط . إلا يوم العيد ذاته. إنها الفرحة الكبري، والاحتفالات الخالدة. تبدأ طقوس يوم العيد بالصلاة في مسجد " أبو النصر " القريب من بيتنا. وهو مسجد عائلة المرشد الأسبق للأخوان المسلمين السيد " محمد حامد أبوالنصر". ثم التوجه لقبلي البلد حيث يبدأ تجمع "المحمل". ينطلق من أمام مقبرة كل شيخ أو إمام من أصحاب الكرامات في البلدة جمل يحمل شاهدا كبيرا يرمز إلي هذا الشيخ . وتتجمع هذه الجمال في ساحة كبيرة. يسبقها جمل يحمل شاهدا عليه " كسوة الكعبة " . وتتجمع معها جمال أخري يأتي بها أصحابها لتأجيرها لمن يريد . وجملان يركبهما ضاربون علي الطبول والدفوف . لينطلق بعد ذلك موكب خرافي مهيب من كل هذه الجمال يطوف بشوارع منفلوط . عندما أصبحت صبيا سمح لي أبي بركوب جمال " المحمل " . كنت أري شرفات البيوت مزدحمة بالناس، بخاصة البنات والسيدات والأطفال يرموننا بالزغاريد والمن والكعك ويرشون علينا الملح منعا للحسد. كانت منفلوط تشتهر ب "محملها" . وكان الجميع يحتفلون بهذا المحمل مسلمين ومسيحيين . كان المسيحيون أول من يهنئ المسلمين بأعيادهم . وكان أول من يهنئ أسرتي السيدة "أم عوني" وأبناؤها ، وهم جيراننا المسيحيون الذين تربيت معهم. اليوم لا محمل في منفلوط بعد أن منعوه منذ سنوات بسبب انتشار التطرف الديني والإرهاب. وانقطعت عن زيارتها بعد أن انتقل أبي بأمي إلي رحمة الله ، وبعد أن تحولت شوارع المدينة من حلم إلي كابوس.