الكتب كالناس تمامًا، منها ما لا تتحمل لقاءه لأكثر من خمس دقائق، ومنها الذي لا تقوي علي الاستمرار في مطالعته بعد بضع صفحات، وهناك كتب تأخذك من نفسك، وتسلبك أوقاتك، وتجذبك إلي عالمها بعيدًا جدًا عن شواغلك، كالبشر تمامًا، فمنهم من لا تمل من جلسته، أو تسأم من حديثه، ومن الكتب ما يمنحك روحه كاملة ويسلمك نفسه في القراءة الأولي، ومنها ما هو عصي علي كشف أغواره، وإفشاء أسراره، إلا بعد قراءات متعددة، ومحاولات مضنية لفض مغاليقه، وهتك ستور سطوره، وهناك ذلك النوع النادر من الكتب الذي يضيف إليك جديدًا كلما قرأته مجددًا، وفي كل مرة تجلس إليه فيها ينتابك شعور قوي بأنك تكتشف فيه جديدًا علي الرغم من أنك أنهيت مطالعته العديد من المرات، مثل هذا الكتاب » الطريق إلي مكة » الذي صدرت منذ سنوات عديدة عن دار الشروق ترجمته العربية، وهو في الأصل بقلم دبلوماسي ألماني، عمل سفيرًا لبلاده في أكثر من بلد، حيث حاول المفكر د.مراد هوفمان بسط تجربته الفريدة في رحلة الحج بعد أن اهتدي إلي الإسلام دينًا ومنهجًا وقيمًا وروحًا وتساميًا ورقيًا، ففي حيرة حياته الشاقة وصحراء عمره القاحلة رأي ذلك الضمير الأوروبي الظامئ إلي الحقيقة هذا الجسر العجيب يتدلي وحيدًا بين الطرق الصخرية الوعرة، حيث بدا الجسر المعلق بين السماء والأرض كطوق نجاة للأقدام التي أدماها طول المسير في الدروب القاسية، وما أروع أن يجد الشريد طريقه الحانية أخيرًا، فيتنفس الصعداء، وما أمتع أن تصحب حائرًا، وهو يحكي تجربته بعد أن استقر واهتدي، لذا أعدت قراءة كتاب »هوفمان» مرات، ومع نسمات حج المشاعر المقدسة عدت إلي »هوفمان» وكتابه » الطريق إلي مكة» مجددًا منذ أيام، لأكتشف أوجهًا لم أرها في المرات السابقة، فما أفدح مشقة غياب الهدف، وتعطل البوصلة، إنها الجحيم بعينه، ومراد هوفمان، ضمير أوروبي منصف بحث - بتجرد - عن الحقيقة فاهتدي إليها، وليت المتطرفين والغلاة يتواصلون مع تجربته، حيث انبهر الرجل بعمق الدين الهائم بعيدًا عن القشور وانجذب إلي البساطة والسماحة المذهلتين!