نطوي صفحة في رواية صغيرة فنكتشف أننا طوينا سنة من العمر ، ننظر للقادم في أمل وللماضي في رجاء ، نحاول أن نتذكر كم صفحة مضت ، كم بطلا مر من هنا ، كم اسما سقط وكم حدثا كان ، نفر ماتبقي من صفحات الرواية بين أصابعنا ونتصور أن في صفحة ما قادمة هناك السر الذي يخفيه كاتب الرواية ، أن البقية لم تأت بعد لكنها سوف تحمل مفاجآت مذهلة وإجابات طال انتظارها ، نضع فاصلاً بين صفحتين .. صفحات قرأناها وصفحات نستعد لنقرأها ، نستريح قليلا فتمر الذكريات بين عيوننا المغلقة ، يطل وجه كان هنا وغادر في سنة ما ولم يعد ، هكذا يقفز ركاب القطار دون توقف في المحطات ، كثيرون لانعرف لماذا غادروا روايتنا القصيرة ولا إلي أين ذهبوا ، كنا نظن أنهم جزء من القصة حتي نهايتها ، قليلون من يبقون معنا حتي النهاية ، يتعلقون بالحرف والسطر والصفحة ، يختفون أحيانا لكنهم يظهرون دائما ، تتبدل ملامحهم وتتغير أفكارهم وربما موقعهم منك ، يقفزون في الوقت المناسب وأحيانا في الوقت غير المناسب علي يوم من عمرك فيغيرون الأحداث إلي أبعد مدي أو يكملون عبارة لم تكتمل . ماذا في صفحات الرواية التالية ؟ فارس وسيف ونبلاء ، لص وقناع وعصابات ، أصدقاء تحتمي بهم أم أسماء تقف لتبيعك علي أول طريق بأقل الأسعار ؟ أمل وأحلام تتحقق ، يأس وكوابيس تطارد كل حرف وكل نقطة وكل فاصلة ؟.. فصل جديد يبدأ علي كل الأحوال ولانملك سوي أسنان بيضاء تضحك في سعادة وتعلق ملايين الأمنيات ، عمر كل أيامه معنا ، صفحاته تبدو أقرب إلي مسودة بقلم رصاص قابلة للشطب والكشط والتعديل .. بوابة عمر يبدأ علقنا عليها آخر مالدينا من أحلام سعيدة في حياة أصبحت صعبة وتعيسة ، حياة باردة تحكمها نشرات الأخبار بكل حوادثها ومعاركها ، لكنها الرغبة في الحياة تدفعنا إلي أمال جديدة كلما تصورنا أن مالدينا قد أوشك علي الانتهاء.. بين صفحتين نكتب علي الهامش قصتنا كما نتمني أن نكونها في فصل جديد ، نصلي لله أن نعيش ونعرف ماخفي علينا ، نجدد طموحنا ونشمر عن ذراعين نزرع بهما لونا أخضر وننتظر حصادا.. فصل آخر يبدأ ، يكتب المؤلف في مقدمته هذه العبارة : أهنئ نفسي أنني قاومت كل حالات الخوف وواصلت الكتابة حتي هذا الفصل دون أن أهرب ، ساعدني أن أكمل القصة ، ولا تتركني وحدي أضع حروفي علي ورق لن تقرأه . ماذا نفقد من أنفسنا مع مقدمات الفصل الجديد ؟ كل صفحة نفقد شيئا.. لنكتسب أشياء ، ودائما نقول : كم كان جميلا ماكان معنا ! هذه مرحلة الحرية ، هكذا يصفها المنجمون الذين يملأون صفحات الجرائد والمجلات وقنوات التليفزيون ، سنوات الحرية تبدأ ؟ .. بماذا وصفوا السنوات التي مضت ؟ لا أتذكر .. لكن جميلا منهم أن يتنبأوا كذبا أنها سنة الحرية .. سنة من الحرية .. أن نبدأ بهذا التخيل ربما يمد في عمر القلوب المجهدة والأصابع المتشابكة علي أمل ، نحن في حاجة إلي ملايين المنجمين بأكاذيبهم النبيلة التي تمنحنا وقتا استثنائيا من الأمل في الحرية المسئولة ! نحلم حتي إشعار آخر ، نحلم لعل الحلم يختشي علي نفسه فيأتي ويقيم ويبقي ويصنع لنا بيتا وسفينة ويرسم لنا شمسا وقمرا. بين زمنين ، نودع عمراً ونستقبل آخر ، نبكي ونضحك ، مساحة صغيرة لكنها تحمل كل متناقضات الحياة ، مسافة قصيرة إلي كل مانملك من عمر وذكريات ، نقف علي عتبة زمن ، فنشعر أن هذه السنوات ماهي إلا زهرة تولد مع ندي الفجر وتموت مع برد الليل . أتمني لكم زمنا سعيدا مهما كانت أحزانكم ، لاتذهبوا بها ياأصدقاء إلي عمر جديد ، لاتقلبوا الصفحات المقروءة من الرواية ، لاوقت للإعادة .. القادم ربما أجمل ، أو يجب أن نتصوره أجمل ، عمر سعيد أيها الأعزاء ، حققوا نبوءات العرافين ولو كذبوا !