بقدر ما تري حجم أي إنجازٍ كبير، بقدر ما تكون توقعاتك لنتائجه، ولأن »ثورة 52 يناير« كانت إنجازاً تاريخياً مبهراً ومذهلاً، فقد كانت توقعاتنا هائلة، حتي أننا قلنا لأنفسنا إن توابعها المتوقعة كأي ثورة »وهذا ما تشهده به صفحات التاريخ« لن تعوق إنطلاقتنا الكبري. هذا مع أننا أدركنا مقدماً أن ثورتنا سوف تستهلك وقتاً أطول في تجاوز تداعياتها المتمثلة في حالات الارتباك والفوضي واختلال الموازين، لأنها ببساطة أسقطت نظاماً ظل جاثماً علي الصدور أكثر من ثلاثين عاماً ومن ثم ضربت جذوره الفاسدة في أعماق الأرض، وتضخمت أعداد الذين استفادوا منه داخلياً وخارجياً، ومن البديهي أن اقتلاع تلك الجذور، ومواجهة الذين ارتبطوا بالأسرة الحاكمة وحزبها وحكوماتها عملية معقدة لا تنتهي في يوم وليلة ولا بعد شهر أو عشرين شهراً، وبالرغم من هذه الحقيقة الصارخة احتفظت أنا شخصياً بقدر كبير من التفاؤل اعتماداً علي ان النجاح المدوي لأولي مراحل الثورة كفيل بأن يجعلنا نختصر الوقت ونقفز سريعاً إلي استكمال نجاحاتها وتحقيق كل أهدافها، لكن الواقع جاء مغايراً وصادماً حيث ظهرت الفوضي، وتضاربت الآراء والمواقف وسادت حالة ضبابية محيرة ومزعجة، حتي أنني كتبت منذ اسبوع فقط مناشداً كل الإئتلافات والحركات والكيانات والأحزاب بأن يتنبهوا إلي المخاطر التي تحدق بالثورة، واستحلفتهم بالله أن يتحركوا جميعاً وسريعاً علي »طريق التوافق الوطني« طريق وحدة الصف والهدف التي بدونها لن ندخل الحقبة الجديدة الرائعة التي فتحت الثورة أبوابها وقلت فيما قلت إن »التوافق الوطني« يحكمه صوت الأغلبية التي يلتزم بها الجميع امتثالاً لمعني وقيمة »الديمقراطية« التي كانت من أبرز شعارات وأهداف الثورة، قلت لهم ذلك، وقاله غيري كثيرون من المهمومين بقضية الوطن وثورته الكبري وتوقعت، وتوقع غيري كثيرون، ان نستعيد جميعنا المستوي الرائع المبهر الذي ظهرنا به في 52 يناير، والذي جعل ثورتنا موضع انبهار العالم، وناديت، ونادي غيري كثيرون أن نحفظ لهذه الثورة النبيلة وجهها الجميل الرائع لنحقق من خلالها لمصرنا الغالية ما تطلعت اليه، وتلهفت عليه باحتلال موقعها اللائق في صفوف المقدمة بين الأمم انتاجاً وابتكاراً وابداعاً وتألقاً في مناخ الحرية والديمقراطية، لكن كل المناشدات والتوضيحات والنظريات اصطدمت بحالة من السيولة الغريبة فزادت الفوضي وتشرذمنا شيعاً وفرقاً وأحزاباً واشتعل تضارب الرؤي والمواقف ما بين مظاهرات واعتصامات واحتجاجات واتهامات ومحاولات لفرض رأي هنا ورأي هناك وبلغت المأساة ذروتها حين فقدت »الجمعة« العظيمة بهاءها ورونقها وتحولت الي سوق تتعالي وتتصادم فيه الأصوات المنادية بمطالب مختلفة متباينة وظهر »زعماء المنصات« التي أقيمت في ميدان التحرير علي عجل، كلُ يدعو لحزبه أو ائتلافه أو جماعته أو حركته، حتي اختطلت الأمور، وغامت الصورة وابتعدت المسافة بين الثورة الحقيقية وما تشهده الميادين المختلفة، ثم لطمتنا »جمعة العباسية« التي لحق بها »السبت« لنجد أنفسنا أمام مضاعفات جديدة، ومفترق طرق خطير، بذلك الصدام العبثي بين المتظاهرين الذين قرروا التوجه الي وزارة الدفاع للتقدم بمطالب عاجلة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة، ورغم انهم اكدوا مراراً علي سلمية تحركهم، الا انهم لم يدركوا حجم المخاطر التي يمكن ان تنفجر، وحدث ما حدث من بعض سكان العباسية، ومن البلطجية، ومن الفلول الذين تسللوا وسط المتظاهرين ليشعلوا العنف والصدام مع القوات المسلحة، وكان من الطبيعي أن يسقط مئات الجرحي بالرغم من التزام الشرطة العسكرية بعدم التعامل معهم، ثم اكتملت صورة الارتباك بتصريح »اللواء الرويني« الذي ألقي بقفاز العمالة والخيانة في وجه »حركة 6 أبريل« لتندلع البيانات المضادة، وتشتعل برامج الفضائيات بما يلقي بمزيد من الوقود علي نار الخلافات والانشقاقات، وهكذا وجدنا انفسنا جميعاً أمام أخطر ما يهدد ثورتنا ويجهضها ويغتال أحلامنا وآمالنا حتي ان قادة النظام السابق تنتابهم الآن مشاعر الفرحة والسعادة ويتهامسون بأن الضربة الأخيرة للثورة قادمة قريباً، لكن الاستسلام لليأس والاحباط يؤكد لا قدر الله هذا المصير المخيف لثورتنا، ولذلك فإنني أدعو إلي التشبث بالتفاؤل خاصة ان ما حدث مؤخراً يمكن ان يدفع كل الأطراف الي مراجعة مواقفهم للخروج من المأزق الراهن وإعادة التوازن للثورة حتي تستكمل أهدافها ولنبدأ بائتلافات وحركات الثورة التي يتعين تنقية صفوفها، وتجمعها في اطار واحد، وتعاملها مع الواقع الذي لا يسمح بتحقيق كل المطالب دفعة واحدة وبالسرعة الفائقة، ولا يعني ذلك التخلي نهائياً عن بعض المطالب بل يتم الاحتكام إلي مبدأ الأولويات، ثم نصل الي »المجلس الأعلي للقوات المسلحة« ومع تجديد الشكر والتقدير له نتطلع إلي ضرورة استيعاب ما يفرضه ايقاع الثورة، وأهمية العمل علي تحقيق ابرز المطالب كمحاكمة الرئيس السابق ورجاله، والمتورطين في قتل واصابة الثوار، بعد ذلك يأتي دور »الحكومة« التي عليها ان تثبت قدرتها علي تحقيق ما تحمله من النوايا الطيبة والوعود المرغوبة بالسرعة المطلوبة، ويتبقي ما ننتظره من »الإسلاميين« بأن يتعاملوا هم ايضاً مع الواقع ولا يحاولون تعويض ما فاتهم وما تعرضوا له بالقفز إلي أوضاع ومكاسب قد تثير ردود فعل تضر بالجميع. انني أعتقد أن »مفترق الطرق« الذي وصلنا إليه سوف يفرض هذه المراجعات حتي يطل علينا من جديد نور الثورة النبيلة، ويتأكد أنه »ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج«!.