»ألقيت السلام علي ابن عم رسول الله، وزوج فاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام ووالد الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة» إنه العراق أخيراً بعد طول شوق وانتظار. أخيراً كُتب لي أن أسير في شوارع العراق.. كنت أشعر دائماً أن المعرفة لا تكتمل بغير زيارة بلاد الرافدين، وكنت علي يقين أن زيارة للنجف الأشرف، ولكربلاء تعادل قراءة عدة كتب ومراجع. لم أتردد للحظة واحدة في الموافقة عندما سألني صديقي الشاعر الكبير أحمد الشهاوي: عندك مانع تسافر إلي العراق، وتحديداً إلي بابل؟! من ذا يمكن أن يرفض زيارة بابل التي قيل في حقها من أراد أن يختصر العراق فليختصره بزيارة بابل.. الدعوة موجهة من الشاعر العراقي الكبير د.علي الشلاَّه رئيس مهرجان بابل للثقافات والفنون العالمية السابع، وفي نفس الوقت هو رئيس ما يسمي بالتيار الثقافي الوطني، وأحد المثقفين الذين دفعوا فاتورة خلافهم مع صدام حسين، وقضي جزءاً لا بأس به من حياته متنقلاً بين الأردن وسويسرا، إلي أن عاد إلي أحضان العراق.. لم أكن أعرف قبل أن أصل إلي »بابل» أن تنظيم داعش يناوئ المهرجان ويرصده ويسعي لإيقافه، بل إنه استهدف الأكمنة المؤدية إليه بتفجيرين، في دورتين متتاليتين، أحدهما خلف 34 عراقيا. إلي الحِلة استلزم الأمر بعض الوقت، جلسنا في مطار بغداد أنا والشاعر المصري سامح نجيب والروائية صفاء النجار في انتظار استصدار »الفيزا» الاضطرارية.. لم تنجح كلمات الترحيب في تسريع الإجراءات، ومضي الوقت ثقيلاً في مطار بسيط تتجاوزه مطارات فرعية في مصر بمراحل.. أخيراً خرجنا، كان علينا أن نتجه مباشرة إلي بابل التي تبعد عن بغداد أقل من مائة كيلو متر. سلكنا طريقنا بصحبة طبيب بيطري شاب اسمه كرار القيسي يعرف مصر، وزار شرم الشيخ أكثر من مرة مع شركات أدوية تنظم مؤتمراتها السنوية هناك في شرم.. بعد مضي قرابة الساعة في الطريق اختلط عليَّ الأمر، وبعد أن أخذتني سنة من النوم تصورت لفترة أنني أسلك طريق القاهرةالإسكندرية الزراعي في أحد أيام الخميس، نفس الزحام، نفس سيارات النقل التي تتغول علي الطريق، »وتكسر» علي السيارات الملاكي.. يا إلهي! نفس الباعة علي الجانبين، وحتي الذين ينتشرون بين السيارات قبل الأكمنة أو في مناطق الزحام.. يحملون »ترامس» الشاي وزجاجات المياه. الطريق عليه أكثر من كمين يسمونه »سيطرة أمنية» هنا الهاجس الأمني يسيطر علي الجميع ولهم ألف حق.. الأشجار هنا تتواري أمام النخيل الذي تراه علي امتداد البصر، حيث أرض العراق منبسطة.. المباني علي الجانبين تماما كما هي لدينا في الدلتا، لا يهتمون بشكلها الخارجي، تكثر الأرض »السبخة» كما تكثر المطاعم التي تقدم الأكلات العراقية الشعبية، لا فارق سوي في أسماء الأكلات مثل تكة الدجاج مع الكباب أو مع الهبيط والدهين، ولابد طبعا من الخبز العراقي أو »الصمون» وهو نوع آخر من الخبز. جريمة أثرية الإقامة كانت فريدة داخل منتجع بابل الأثري، لكي نصله لابد أن نمر علي عدة أماكن للسيطرة الأمنية، المنتجع يبعد عن الحِلة - بكسر الحاء، وهي قلب بابل - عدة كيلو مترات. مع إشراقة أول يوم عقب وصولي انطلقت في جولة داخل بقايا مدينة بابل الأثرية متسلحا بقراءاتي الأثرية والتاريخية.. أنت هنا في رحاب عاصمة البابليين الذين حكموا أقاليم ما بين النهرين أيام حكم »حمورابي» وبلغت حضارة مملكة بابل أوج عظمتها لمدة 3 قرون حتي 1594 ق.م.. ولا يمكن الحديث عن بابل بدون الحديث عن الملك الكلداني الأشهر »نبوخذ نصر».. وبقي من هذه الحضارة العظيمة بوابة عشتار التي سرقت وتعرض الآن في برلين.. دارت الأيام دورتها وأوحي رجال الحاشية لصدام أن يتخذ من المنطقة الأثرية قصرا له، هو ليس أقل من »حمورابي» أو »نبوخذ نصر» لكي يخلده التاريخ، فقرروا أن يبنوا له قصراً منيفا في حرم المنطقة الأثرية، ولكن الأرض منبسطة، سيبقي القصر مهما كان منيفاً لا شيء أمام عظمة آثار حضارة هزت الدنيا.. فكان القرار بعمل جبل صناعي جمعوا ترابه من المنطقة المحيطة، وراحوا يدكون التربة، حتي علا البنيان، ثم صنعوا القصر الذي لم يأته صدام إلا مرة واحدة. في نفس الوقت الذي جرت فيه هذه الجريمة، وقعت جريمة موازية، حيث قام جهلة أرادوا التقرب إلي صدام زلفي، بتجديد أكرر تجديد المنطقة الأثرية، ووضعوا طوبا جديدا حفروا عليه اسم القائد المغوار صدام حسين فظهرت المدينة جديدة براقة، لكنها ليست أثراً، ونتيجة لهاتين الجريمتين أخرجت »اليونسكو» آثار بابل من قائمة التراث العالمي. النجف الأشرف أول شيء قررت زيارته، بمجرد أن وُجهت إليَّ دعوة زيارة العراق، هو زيارة النجف الأشرف، وكربلاء، من لديه حد أدني من الثقافة الإسلامية، وملف الشيعة، يعرف أهمية هاتين البقعتين للمسلمين الشيعة ولكل باحث، وأيضا صحفي. إلي النجف الأشرف كانت الزيارة الأولي بصحبة الشاعر المصري، رفيق الرحلة سامح نجيب وشاعرين عراقيين شابين، أحدهما سني والآخر شيعي، جمعهما حب العراق، ورفضهما لميراث الصراع الطائفي الذي أغرق العراق في دوامة دموية مازالت تعاني من ويلاتها إلي اليوم.. أحدهما قال: نحن نحسد عليكم السيسي، زعيم وطني وشريف، والأهم أنه قوي، وجيش وطني لا يعرف الطائفية، لذلك أنقذ الله مصر من مصير العراق وسوريا واليمن، وليبيا. الطريق من الحِلة إلي النجف الأشرف ليس بعيداً، ولكن »السيطرة الأمنية» أكثر تشدداً، تدقيق في كل شيء، ومراجعة لجوازات السفر من أين، وإلي أين..؟ إنهم يخشون تسرب »الداعشيين».. أخيرا وصلنا إلي النجف الأشرف، حيث مرقد الإمام عليّ كرم الله وجهه رابع الخلفاء الراشدين، وأول الأئمة وفق المذهب الشيعي.. داخل النجف الأشرف أكثر من دائرة أمنية تفضي بك إلي داخل الحرم.. أنت هنا في مسجد له جلاله، واحترامه، وقدسيته لدي الشيعة، أعمدة، وأبواب من شرائح الذهب، زخارف خاصة، تكاد تكون موحدة في كل مساجد الشيعة يغلب عليها اللون الفيروزي، واللون الأخضر الغامق، الرايات السوداء والحمراء في محيط المسجد تنادي، وتناجي الحسين، وعليا رضوان الله عليهما. كان هناك من ينتظرنا في العتبة العلوية المقدسة لمرقد الإمام عليّ، صحبته أتاحت لي ولأعضاء الوفد التقاط صور تذكارية قبالة المرقد.. ألقيت السلام علي ابن عم رسول الله، وزوج فاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام، ووالد الحسن، والحسين سيدي شباب أهل الجنة.. ودعوت الله ما شئت مولياً وجهي في اتجاه القبلة، بعيداً عن المرقد الذي تعلق به المريدون، تماماً كما يحدث في مسجد الحسين بالقاهرة، هناك من يبكي ويسأله الوسيلة، ومئات يرمون نذوراً في داخل المرقد المصنوع من الذهب والفضة والزبرجد والزمرد، والقبة التي تعلوه آية من آيات الجمال، العمارة والزخرفة.. هناك من يبكي، ويقبل العتبات والأبواب.. في أطراف المرقد هناك من يرتدون زياً خاصاً، ويمسكون في أياديهم عصيا في آخرها ريش نعام أخضر اللون، يوجهون الزوار، ويمنعون الخروقات، وتحديدا التصوير. سألت ما شئت، وانتحيت جانبا وصليت وعندما لمح أحدهم أنني لم أضع »الشقافة» المصنوعة من طين كربلاء لكي أسجد عليها كما يفعلون.. قام بوضعها أمامي، ولكني لم أسجد إلا علي السجاد. لم أشأ أن أتكلم في أمور العقيدة مع أي من الشيعة الذين تقابلت معهم إلا من منظور علمي بحت، لأنه في أمور العقيدة لا منطق، ولا عقل. زيارة كربلاء زيارة كربلاء كانت مختلفة، هنا كل شيء مختلف.. أرض كربلاء مقدسة لدي الشيعة، علي أرضها جرت المأساة الكبري، وتمثل المركز والقلب لكل الشيعة في العالم، والأهم أن أرضها تحتضن الحسين الذي تُشد إلي قبره رحال كل الشيعة في مشارق الأرض ومغاربها.. وعندما تدخل محيط المسجد فأنت في مكان يعادل أو يناظر المسجد النبوي أو الحرم المكي، أنا هنا لا أقرر أمرا ولكني أرصد ما رأيت، الدوائر الأمنية أشد صرامة، وعددها أكثر، والمحاذير أكثر.. بدأنا الزيارة بدعوة غداء في مضيفة الحسين، حيث تقدم »الحوزة» من حيازة العلم الطعام مجانا لحوالي 4 آلاف من زوار سيد شباب أهل الجنة، ويرتفع العدد إلي 6 آلاف يومي الخميس والجمعة.. دخلنا المرقد الحسيني الأكثر بهاء وروعة وجمالا من حيث الزخارف والنقوش إضافة إلي استخدام فريد للمرايا لم أره علي الإطلاق في أي من مساجد الدنيا، وذلك في الأسقف مع الثريات المبهرة.. تجولنا وسلمت علي الشهيد الحسين حفيد رسول الله، وابن بنت رسول الله، ألقيت عليه السلام، وانتحيت لكي أصلي، لفت انتباهي عدم الحرص علي عدم المرور أمام المصلين.. دعاني المرافق العراقي لكي أنال شرف المشاركة في نداء العقيدة في الثانية ظهرا.. وهو نداء يقوم به خدام العتبة الحسينية في كربلاء المقدسة لدي الشيعة يبدأونه بالاتجاه صوب مرقد الحسين، ويعطون ظهورهم إلي القبلة، ويبدأون السلام علي الحسين.. السلام عليك يا أبا عبدالله، السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين.. السلام عليك يا ابن فاطمة الزهراء إلي آخر النداء.. اعتذرت واستأذنت لأصلي الظهر والعصر جمعاً. تذكار مقدس الزيارة الخاصة، أتاحت لنا زيارة متحف الحوزة الحسينية، هنا تأريخ كامل من وجهة نظر الشيعة للمأساة الكبري في التاريخ الاسلامي من لحظة استشهاد الإمام الحسين إلي اختفاء آخر الأئمة وانتظار ظهوره في آخر الزمان.. كل شيء هنا له قدسيته، استوقفني في مدخل المتحف مجسم لعمود خرساني، العمود متحطم من جانبيه، ويلتقي في نقطة التقاء تحافظ عليه وتبقيه علي قوته، واستقامته.. هذه النقطة وضع فيها برواز مزخرف بالياقوت، وتسلط عليه الإضاءة مكتوب عليه يا حسين!! قبل أن ننصرف أهدتنا إدارة المهرجان كيسا فيه جزء من خرقة خضراء، وحبات من الأرز.. هذه بركة من الحسين سيد شباب أهل الجنة!! انتهت الزيارة وبدأت الأسئلة.