أفطرت وعقلي وكل جوارحي في حالة دهشة إذ إنها المرة الأولي التي أفطر فيها المغرب والشمس في كبد السماء! هذه واحدة من أغرب السفريات التي سافرتها في حياتي، ليس من حيث المكان فقد سافرت الولاياتالمتحدةالأمريكية عدة مرات من قبل ولكن من حيث توقيت السفر أولا حيث إنها المرة الأولي التي أسافر فيها خلال شهر رمضان لغير مكةوالمدينة، ثم من حيث ظروف الرحلة نفسها ثانيا، حيث تلقيت مكالمة عصر الخميس الموافق الثامن من يونيه الثالث عشر من رمضان وكان علي الطرف الآخر صديق عزيز قال لي بدون مقدمات:»أخبار تأشيرة أمريكا إللي معاك إيه خلصت ولا لسه؟ فقلت:»لسه مستمرة حتي 2020 فسألني علي الفور:»طيب تحب تسافر أمريكا بكره الصبح؟» ،في البداية ظننته يمزح لولا الجدية الواضحة في نبرة صوته حيث أكمل قائلا:»عايز الرد دلوقتي» فلما حاولت أن أحصل منه ولو علي دقائق معدودة للتفكير في الأمر رفض وبإصرار نظرا لضيق الوقت حيث لم يتم حجز التذكرة انتظارا لردي ولم يتبق علي السفر سوي ساعات قليلة حيث كان مقررا أن تقلع الرحلة السابعة صباح الجمعة، فقلت بدون تردد: أسافر، فضحك قائلا:أيوه كده وافق أولا واعرف التفاصيل بعدين وكانت المفاجأة الثالثة في تلك التفاصيل حيث عرفت أن الدعوة خاصة بحضور أكبر تجمع علمي طبي تشهده الولاياتالمتحدة سنويا ويشارك فيه آلاف العلماء من جميع أنحاء الدنيا فتحمست لتجربة جديدة في عالم الصحافة في مدينة جديدة لم يسبق لي زيارتها من قبل ألا وهي مدينة سان دييجو أو سان دييغو كما ينطقها أهل البلاد في ولاية كاليفورينا رغم زيارتي لكاليفورنيا عدة مرات من قبل . صيام في سفر طويل في غضون ساعات قليلة كان قد تم حجز تذكرة السفر وتسلمتها عبر الإيميل وفي الموعد المحدد كنت أمام موظف شركة الطيران لإنهاء إجراءات السفر إلي لندن حيث من المقرر أن أقضي بها حوالي أربع ساعات ترانزيت قبل استئناف الرحلة إلي سان دييجو والتي تستغرق أكثر من عشر ساعات.كان الموظف شابا بشوشا سألني عن عنوان الفندق الذي سوف أقيم به في سان دييجو كما سألني عن أي أجهزة كومبيوتر أو موبايل وفقا لتعليمات السفر لأمريكا التي تحظر علي مسافري عدة دول ومنها مصر اصطحاب أجهزة اللاب توب أو الآي باد داخل كابينة الطائرة والتأكيد علي وضعها في الحقيبة التي تدخل مخزن الطائرة، وسلمني » فاوتشر» لقضاء ماتبقي من وقت قبل الإقلاع في الكافتريا المخصصة لركاب الدرجة الأولي فحاولت أن أعتذر لأني صائم فضحك قائلا:»رايح أمريكا صايم؟ تعالي يا أستاذ اقعد مكاني هنا وكمل صيامك وأنا مستعد أروح بدالك وأفطر، فضحكت من قلبي قبل أن يقول لي:لماذا لا تستخدم الرخصة وتفطر؟ فقلت:»بصراحة أود تجربة الصيام كيف يكون في السفر الطويل. كان الصيام هو أول شيء فكرت فيه بالفعل منذ أن تلقيت دعوة السفر، أعرف طبعا كل الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي ترخص للمسافر بالإفطار ثم القضاء عقب العودة ومع ذلك لم أستطع أن أتخذ قرارا بالإفطار وأقنعت نفسي بالانتظار علي الأقل حتي الوصول للندن المقرر في الثانية عشرة ظهرا فإن وجدت مشقة في الصيام فليكن الإفطار في مطار هيثرو، لكني عندما هبطت الطائرة في لندن قررت عدم الإفطار حيث لم أكن قد شعرت بأي أعراض جوع أو عطش أو حتي إرهاق وقررت أن أتم الصيام إلي الليل عندما يحل الظلام في الرحلة الثانية من هيثرو إلي سان دييجو والتي تحركت في الرابعة عصرا بتوقيت لندن الخامسة عصرا بتوقيت القاهرة فطلبت شاكرا من المضيف الذي جاء لي بالطعام أن يأتيني به عند غروب الشمس فضحك وهو يخبرني أن الشمس لا تغرب عن هذه الرحلة أبدا حيث تبدأ في النهار وتستمر في النهار وتصل سان دييجو قبل غروب الشمس بحوالي ساعتين نظرا لفارق التوقيت بين أوروبا والولاياتالمتحدة ثم أردف قائلا بعد أن عرف أنني بالطبع مسلما:أمامك خياران إما أن تفطر علي توقيت مغرب لندن الذي يحين في التاسعة والنصف مساء وهي العاشرة والنصف بتوقيت القاهرة أي بعد خمس ساعات ونصف من إقلاع الطائرة من هيثرو أو انتظر لأفطر علي مغرب سان دييجو والذي يحين بعد حوالي ثلاث عشرة ساعة من الإقلاع من لندن،احترت لحظات وحاولت أن أتذكر أي فتوي تكون قد تعرضت لأي موقف مشابه من قبل لكني فشلت وطبعا كان من الصعب التواصل مع أي شيخ في أي مكان لمعرفة الفتوي في هذه الحالة فقررت الإفطار علي توقيت لندن حيث كان معني الانتظار لموعد الإفطار في سان دييجو أنني سأصوم أكثر من ثلاثين ساعة متواصلة، وبالفعل جاءني المضيف في تمام التاسعة والنصف بوجبة الطعام مؤكدا لي أنه حان الآن موعد آذان المغرب في لندن التي لازلنا أقرب إليها جغرافيا بكثيرمن سان دييجو رغم مغادرتنا لندن منذ عدة ساعات فنظرت من النافذة حيث كانت الشمس ساطعة ومع ذلك أفطرت وعقلي وكل جوارحي في حالة دهشة إذ إنها المرة الأولي التي أفطر فيها المغرب والشمس في كبد السماء! المدينة كاملة العدد هذه هي المرة الأولي التي أصل فيها إلي أي مطار أمريكي دون أن يسألني ضابط الجوازات عن سبب زيارتي للولايات المتحدة حيث كان من الواضح أن مدينة سان دييجو لا تستقبل منذ عدة أيام سوي ضيوف مؤتمر الجمعية الأمريكية لمرضي السكر ،حتي سائق التاكسي الذي أقلني من المطار للفندق ظن في البداية أنني طبيب متخصص في السكر من ضيوف المؤتمر وعندما أخبرته بأنني صحفي جئت لتغطية المؤتمر قال:مرحبا بك في سان دييجو فنحن ننتظر هذا المؤتمر سنويا، ولم يكن الرجل في حاجة للشرح فقد بدا واضحا أن سان دييجو تشهد في فترة المؤتمر رواجا غير مسبوق يتمثل في استضافة حوالي عشرين ألفا من الأطباء والعلماء المتخصصين في مرض السكر جاءوا من جميع أنحاء العالم للوقوف علي أحدث ماتوصل إليه العلم لعلاج السكر الذي يعاني منه حوالي ثمانية ملايين من المصريين.وقد كنت الصحفي العربي الوحيد الذي شارك في تغطية فعاليات المؤتمر مع زملاء من أوروبا وآسيا والولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد لاحظت خلال الطريق من المطار للفندق أن كل شيء في سان دييجو ينبيء عن استعداد المدينةالأمريكية لاستضافة المؤتمر، وقد أخبرني السائق أن كل فنادق المدينة تكون كاملة العدد طوال فترة المؤتمر ، وكعادة الأمريكان ظل السائق يشرح لي كل المعالم التي مررنا عليها، الأمريكي يدرك أنه يمكن أن يخدم بلاده بكل الوسائل حتي لو كان سائقا للتاكسي فهو يتقمص دور المرشد السياحي ويظل طوال»التوصيلة»يخبرك بالأماكن التي يمكن أن تزورها في مدينته خلال تواجدك فيها،ولعل أهم دعاية يقوم بها لبلاده هو عدم استغلال الغرباء والأجانب، فعندما وصلنا للفندق وسألته عن المبلغ المطلوب مني فوجئت بأنه لم يتعد العشرة دولارات وهي قيمة العداد مع الضريبة المقررة دون أي استغلال أو ابتزاز وهو مايفتقده السائح في بلادنا مع الأسف الشديد،أتذكر منذ سنوات أن التقيت في المملكة الأردنية بمواطن سوري قال لي أنه من حبه الشديد لمصر صمم علي قضاء شهر العسل في أسوان وخلال جولة له هو وعروسه في المدينة طارده طفل صغير يبيع بعض الاكسسوارات المصنوعة من مادة الألباستر فاختار العريس عقدا لعروسه بدأ البائع السعر بمائتي جنيه ولكن بعد عدة جولات وصولات من الشد والجذب تمكن السائح السوري النهاية من شراء العقد بخمس جنيهات وربما لو ضغط أكثر من ذلك لحصل عليه بسعر أقل!! قالها الرجل في مرارة وهو يسألني: كيف يمكن أن أثق بعد ذلك في أي شيء وهل يمكن لأي سائح يتعرض للاستغلال أن يعود مرة أخري؟ ليت كل من يعمل في المجال السياحي وبالذات في الصعيد يدرك أن سلوكياته هي أهم انطباع يخرج به السائح عن البلد كلها ونحن في حاجة شديدة لسلوكيات تحافظ علي من يزور بلادنا خاصة في ظل تراجع أعداد السائحين في الفترة الأخيرة وهو مايؤثر علي الحالة الاقتصادية لأبناء الصعيد قبل غيرهم. شطارة التسويق سياحة المؤتمرات التي تعتمد عليها سان دييجو سنويا تجلب لها ملايين الزائرين وذلك النوع من السياحة لا يرفع فقط نسبة الاشغالات في الفنادق ولكن كل ما في المدينة يستفيد من هذا الكم الهائل من الزائرين فتري مطاعم المدينة كاملة العدد طوال اليوم وكذلك جميع المزارات السياحية التي تندهش وأنت تري شطارة الأمريكان في التسويق لها رغم تواضعها من الناحية التاريخية وهو ما يتم تعويضه بأشياء أخري مثل النظافة والتجميل وغيرها من العوامل التي تجذب الناس حتي لو لم يكن للمكان أي تاريخ يذكر لذا وجدت نفسي أقارن بين وضعنا السياحي مع تاريخنا الكبير وكنوزنا الأثرية التي لا تعد ولا تحصي والوضع في مثل هذه المدن الأمريكية التي لا تملك شيئا ملموسا ولكنها تقدم خدمات يطلبها جميع السائحين ويدفعون فيها مليارات الدولارات، ناهيك عن براعة فن »الشوبنج» أي الشراء الذي يجبر أي سائح مهما كان المبلغ الذي معه علي أن ينفق أغلبه في شراء كل مايلزمه وما لايلزمه من السوق الأمريكي،بالإضافة إلي الموقع والمناخ المتميز صيفا وشتاء لمدينة سان دييجو التي تقع علي المحيط الهادي جنوب ولاية كاليفورنيا علي بعد ساعتين بالسيارة من لوس انجلوس وخمس ساعات من لاس فيجاس وثماني ساعات من سان فرانسيسكو وتقع علي الحدود مع المكسيك التي تبعد عنها مسافة عشرين دقيقة بالسيارة، والطريف أن المول الأشهر في سان دييجو يقع علي الحدود مباشرة مع المكسيك لدرجة أنني عندما وصلت للمول فوجئت برسالة علي موبايلي ترحب بي لوصولي إلي المكسيك،الطريق للمول استغرق 35 دقيقة بالقطار وقيمة التذكرة سبعة دولارات وخلال الدردشة مع البائعين في المول فوجئت أن أغلبهم من سكان المكسيك ويعبرون الحدود يوميا من وإلي العمل داخل الولاياتالمتحدة، وقد عرفت أن الدخول للمكسيك من خلال معبر سان دييجو سهل جدا ولكن مع عدم ضمان نفس السهولة في العودة من المكسيك مرة أخري فخشيت المغامرة خاصة بعد أن عرفت أن السلطات الأمريكية يشكل لها هذا المعبر صداعا مزمنا وتشكو من كثرة المتسللين منه لداخل أمريكا لدرجة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يريد إقامة جدار عازل في نفس هذا المكان ويريد أن يتحمل الجانب المكسيكي تكاليف إقامة الجدار،ترامب لا ينسي لحظة أنه رجل أعمال في المقام الأول وأن حسابات الربح والخسارة المادية هي همه الأول حيث لم يتقن حتي الآن فن السياسة التي تأخذ في اعتباراتها أشياء أخري لا تمت بأي علاقة لحسابات المكسب والخسارة المادية. عبير العريني نموذج مشرف التقيته خلال زيارتي لمدينة سان دييجو جعلني اقول فعلا أن مصر بخير طالما ظلت قادرة علي إفراز مثل هذه النماذج الرائعة،أتحدث عن عبير العريني مديرة العلاقات العامة بشركة »نوفو نورديسك مصر» مصر والتي شارك عدد من علمائها في المؤتمر.عبير رغم صغر سنها إلا أنها نجحت بكفاءتها في أن تتولي إدارة مهمة في شركة دولية كبيرة ورغم أنها خريجة مدارس وجامعات مصرية إلا أنها تتحدث الإنجليزية كما يتحدثها أصحابها حتي أن بعض الأمريكيين ممن التقينا معهم كانوا يندهشون من إتقانها للغة وثقافتها العريضة. عبير لم تدع أي فرصة تمر دون أن تشرح لكل من تلتقي به من الأجانب خلال المؤتمر حقيقة الأوضاع في مصر خاصة من النواحي الأمنية التي يسأل عنها الأجانب باهتمام شديد وكانت توضح لهم كيف أن مبالغات الإعلام الغربي الذي يركز علي أي مشاكل حتي ولو كانت بسيطة هي السبب الرئيسي في عدم وضوح حقيقة الصورة عن مصر في الأوساط الغربية. بعد تسعة أيام بالتمام والكمال انتهت رحلتي لسان دييجو ولم تنته من ذاكرتي العديد من الأحداث التي تستحق الرصد والكتابة سواء عن المدينة نفسها أو تنظيم المؤتمر والأبحاث التي تمت مناقشتها ونتائجها ولعلنا نتناولها في يوميات أخري بإذن الله.