قبل شهور كنت أقود سيارتي في شارع عماد الدين، زحام معتاد في ساعات الصباح، وإشارات شبه منضبطة علي غير العادة، فجأة ظهر رجل مرور وسط السيارات، أشار من علي بعد طالبا مني الرخص، أضاءت الإشارة باللون الأخضر، ففتح باب السيارة وجلس بجانبي، وطلب مني أن أتحرك، أخبرني أنني ارتكبت مخالفة عدم ربط حزام الأمان، أشرت إلي السيارات المحيطة، وطلبت منه أن يدلني علي قائد سيارة واحد يربط الحزام، كنا نمارس »حوار الطرشان» ببراعة، لا يسمع أي منا الآخر، وكل طرف يحاول تحقيق هدفه، أكد أن الضابط قد يصر علي تحرير مخالفة، وألمح إلي أنه يمكن أن ينهي الموضوع. أوقفت السيارة بحدة وسط الطريق وطلبت منه الذهاب إلي الضابط، فوجئ بإصراري فقفز منها وابتعد. أتذكر هذه الواقعة بشكل شبه يومي، خلال رحلة كفاحي المتكررة عبر شوارع ترفع غالبا شعار »ممنوع السير»! وألمح الكثير من عساكر المرور وهم يحاولون بكل جهدهم فك الاشتباك بين السيارات، بعد أن أعلنت الإشارات الضوئية »الحديثة» تمردها وسط المدينة! واكتفت باللون الأصفر المتقطع. يمكن لإشارة واحدة أن تكون معطلة، لكن عندما تتخذ إشارات المسار كله نفس الموقف يصبح الأمر مثيرا للدهشة، ويزيد الطين بلة اختفاء رجال المرور في بعضها، فيتأزم الموقف، وتعتمد أولوية المرور علي البلطجة فقط! الرحلة في الشارع أصبحت أشبه بالملاحم الإغريقية، خلال الانتقال بين نقطتين يخوض كل منا سلسلة من المغامرات حتي يبلغ هدفه، يتعامل مع وحوش حديدية تهاجمه من كل اتجاه، وتشل حركته أحيانا بوقوفها في عرض الطريق، وتصدر أصواتا تلهب الآذان، ما بين »كلاكسات» هستيرية وما تيسر من ألفاظ السباب! الوقت عنصر مهدر، والثمن ندفعه من أعصابنا التي تتآكل، وعند الوصول إلي العمل تكون طاقتنا قد تعرضت للاستنزاف. الغريب أن الشوارع المصابة بداء »الوقوف المتكرر» تصبح انسيابية فجأة في حالة مرور مسئول كبير بها، مما يعني أن الأزمة ليست مستعصية، لكن بمجرد اختفاء الموكب تختنق الطرق من جديد، يغيب التواجد المكثف لرجال المرور، فتعود مواقف الميكروباص العشوائية للظهور، أماكنها معلومة للجميع، لكنها لا تجد من يتعامل معها بحزم إلا وقت »اللزوم». الوقوف المفاجئ لالتقاط زبون أو إنزال راكب لا يجد من يردعه. السير عكس الاتجاه ينذر بكوارث، والفصل بين اتجاهين أصبح يحتاج إلي قوات حفظ سلام، تفرض هدنة ولو مؤقتة بين السيارات المتداخلة، وبينما تكتفي دول العالم بخطوط بيضاء لضبط إيقاع الحركة نحتاج إلي أرصفة أشبه بالأسوار، لكنها تنهار بدورها أمام »فهلوتنا»! أري أن أي رغبة صادقة لضبط إيقاع المرور تتطلب تفعيل مخالفات السير عكس الاتجاه تحديدا، وأعتقد أن ذلك سيدر دخلا بمئات الملايين لمدة عام علي الأقل، بعدها ستتراجع هذه النوعية من المخالفات إلي حد كبير، لأن من يدفع ثمن خطئه لن يكرره، هنا سنكون قد كسبنا ملايين مؤقتة ونظاما مزمنا، بالإضافة إلي توفير مليارات الجنيهات، تضيع في حوادث وأعطال يصنعها الزحام، ووقت مهدر، وطاقة مستنزفة تجعل الكائن البشري غير صالح للاستخدام في العمل، ومرفوعا من الخدمة في المنزل! لكن الرقابة ستظل هي الأساس، كي لا تتحول المخالفات الضخمة إلي »سبوبة» لبعض ضعاف النفوس من رجال المرور. أدرك أن غالبيتهم من الشرفاء، لكن »القلة المندسة» يمكن أن تسبب الكثير من الخلل.