هنا وفي هذا المكان، دعونا أكثر من مرة إلي الاهتمام بقضايا المصير المشترك مع افريقيا، وقلنا إن هذه القضايا التي طال اهمالها لايمكن ان تترك لاجتهاد هذه الوزير أو ذاك، وطالبنا بالنظر إلي هذه القضايا باعتبارها مسألة أمن قومي، لابد ان تخضع لاستراتيجية عليا تقوم كل اجهزة الدولة بتنفيذها، واقترحنا ان يكون هنا مجلس أعلي تابع لرئاسة الجمهورية يضع هذه الاستراتيجية ويكون جاهزا للتعامل مع الازمات الطارئة ومؤهلا لتقديم المقترحات والحلول لتجاوزها. لكن سياسة »التطنيش« الرسمية استمرت كما في الكثير من القضايا، حتي فوجئنا- كما فوجئت الحكومة - بالأزمة مع دول المنبع في حوض النيل، التي رفضت في اجتماع شرم الشيخ ضمان حقوق مصر والسودان في مياه النيل، واعلنت انها ستمضي في توقيع اتفاقية تتجاهل هذه الحقوق، في تصعيد خطير للموقف من جانب دول المنبع التي تعرف جيدا ان مصر التي تعتمد علي مياه بنسبة 95٪ من احتياجاتها، والسودان التي تعتمد علي هذا المياه بنسبة تقترب من نصف احتياجاتها لن تقبلا أي مساس بحقوقهما في مياه النيل. هذا الموقف المتعنت من جانب دول المنبع قد يكون وراءه رغبة في المساومة من اجل الحصول علي منافع مقابل المياه.. وهذا أمر يمكن ان نفهمه والتعامل معه. وقد يكون وراءه تحريض من قوي خارجية تلعب في المنطقة من أجل مصالحها، أو من أجل الضغط علي مصر وتهديد امنها. لسنوات طويلة كانت مصر هي الشقيقة الكبري للدول الافريقية، وكانت مساعداتها لشعوب افريقيا وهي تناضل من أجل الاستقلال في الخمسينات والستينات محل تقدير هذه الشعوب. ولم تبخل القاهرة - رغم قلة الامكانيات - بدعمها لهذا الدول وهي تبني نفسها من الصفر. ارسلت الاطباء والمهندسين والمدرسين، وقدمت المعونات الاقتصادية ودربت الجيوش الناشئة. ومدت جسورا لتعاون اقتصادي كانت تعلم انه يمثل ركيزة للمستقبل، واقامت سدا امام التغلغل الإسرائيلي الذي كان يصارع مستندا علي نفوذ أمريكا واموال الصهيونية العالمية. انتهت كل تلك الايام، وجاءت مرحلة اخري وضعنا فيها 99٪ من اوراق اللعبة في يد أمريكا، واعتبر بعض واضعي السياسة لدينا ان العرب والافارقة يقيدون خطواتنا نحو تحقيق الرخاء الذي وعدت به امريكا قبل اكثر من ثلاثين عاما، وانتظرنا سنوات لنكتشف الحقيقة.. وقد انتهت سنوات القطيعة العربية التي مازلنا - نحن والعرب جميعا - ندفع ثمنها. اما البعد الافريقي فقد ظل بعيدا عن الاهتمام رغم جهود ومبادرات قام بها الدكتور بطرس غالي حين كان وزير دولة للشئون الخارجية وتولي الملف الافريقي. تركز الاهتمام وقتها علي دول حوض النيل ولكن الجهود لم تكتمل. بل حتي ملف السودان تركناه لسنوات في عهدة وزير الزراعة الاسبق الدكتور والي بجانب ملفات زراعة الفراولة والكانتالوب بديلا للقطن والقمح.. ولك ان تتصور النتائج في كل هذه الملفات!! والمهم الآن ان ملف العلاقات الافريقية انفتح، وان الجميع يدرك اننا امام قضية امن قومي تتعلق بحياة الوطن ومستقبل ابنائه. وبعيدا عن تصريحات غير مسئولة أو مزايدات لامعني لها، فإننا بحاجة إلي استراتيجية كاملة للتحرك تنطلق من نقطة اساسية وهي اننا لسنا امام صراع حول المياه، بل امام وضع ينبغي ان نبني فيه اوسع شبكة من المصالح المشتركة بين كل دول حوض النيل، بحيث يتحول النهر العظيم الي مصدر خير للمجتمع، خاصة ان دول المنبع لاتعتمد علي مياه النيل الا بما يقل عن 5٪ من احتياجاتها، وان نسبة الفاقد من مياه الامطار في هذه الدول تبلغ اضعاف ما يتم استغلاله. ان استراتيجيتنا ينبغي الا تقتصر علي الحفاظ علي نصيبنا الحالي من مياه النيل، فمن الممكن زيادته في المستقبل بمشروعات مشتركة تعطي لشركائنا في حوض النيل ما يحتاجون من كهرباء ومن مشروعات للتعليم والصحة وتزيد التجارة المشتركة لحدها الاقصي، والتمويل سهل عربيا ودوليا.. بشرط ان نتعامل بجدية وباحترام كامل لتعهداتنا، والا نترك مصير هذه البرامج في يد بيروقراطية كسيحة أو في يد المغامرين الذين افسدوا قبل ذلك صفقات مع دول افريقيا من اجل مصالح خاصة.. كما حدث مع مافيا استيراد اللحوم. ولعل وجود شركة مثل شركة النصر للتصدير والاستيراد والدور الهام الذي لعبته في افريقيا اصبح مطلوبا من خلال انشاء شركة عملاقة تطرح اسهمها للاكتتاب العام وتكون هي رأس الرمح في معركتنا الاقتصادية الهامة في افريقيا. وتبقي نقطة هامة تتعلق بالقوي الخارجية التي تلعب في حوض النيل، والتي ينبغي ان تتلقي رسائل مصرية وسودانية مدعومة عربيا لكي تدرك الخطوط الحمراء التي لايمكن التسامح مع من يتخطاها.. واذا كانت هناك دول »مثل الصين« مستعدة للتعاون معنا ومع السودان من اجل تنفيذ مشروعات مشتركة تخدم دول الحوض وتحفظ حقوقنا، فأهلا وسهلا بذلك التعاون الذي ينبغي ان يلقي الدعم العربي. اما اذا كانت هناك اطراف »مثل اسرائيل« تحاول ان تمسك باوراق للضغط أو للابتزاز، فالرسالة ينبغي ان تكون واضحة: هذا خط احمر، وعلي اسرائيل ان تدرك ان ثمن تجاوزه سيكون كبيرا وخطيرا. اننا امام ازمة خطيرة قد تنتهي باتفاق سريع وقد تستمر لسنوات. وفي كل الاحوال ينبغي ان تستمر »نوبة الصحيان« التي اثارها الشعور بالخطر.. لتحمي مياه النيل وتمد جسور المحبة والمصالح المشتركة بين شعوبه. آخر كلام رغم صراخ احد الوزراء في البرلمان معترضا، نقول للمرة الرابعة أو الخامسة، ان علي الدولة، ان تستورد بنفسها السلع الغذائية الاساسية للفقراء. يكفي ما نهبته مافيا استيراد القمح التي ملأت بطون الغلابة بأرغفة الخبز المصنوعة من قمح فاسد دخل البلاد بشهادات مضروبة يحميها الفساد! ويكفي ما تناوله الغلابة من زيت الشلجم ومن شاي التموين المضروب! ويكفي ما فعلته وتفعله مافيا استيراد اللحوم التي لاتكتفي باستيراد زبالة اللحوم وبيعها بأغلي الاسعار، بل تضرب بمصالح الوطن عرض الحائط وتلجأ لكل المؤامرات لمنع الدولة من استيراد اللحوم الرخيصة والجيدة من دول حوض النيل.. ولاعزاء للفقراء ولا للوطن!! الحصانة البرلمانية متوافرة للنواب في كل ما يقولونه تحت قبة البرلمان، حتي لو كان من نوعية ما قاله النواب القصاص أبوعقرب ورجب حميدة عن مواجهة المظاهرات بالرصاص.. ولكن ماذا عندما ينقلون اراءهم الي شاشات التليفزيون. هنا الحصانة غائبة والمحاسبة القانونية »وليست السياسية فقط« مشروعة، حفاظا علي هيبة البرلمان وعلي سمعة مصر. وتأكيدا علي ان ما قاله النواب الافاضل مرفوض ومدان من الحكومة قبل المعارضة!! [email protected]