أكثر من مائة يوم مرت علي ثورة 25 يناير.. وتصادفت هذه الذكري المجيدة مع عيد الميلاد الثالث والثمانين للرئيس المخلوع حسني مبارك ..ولعلنا نذكر أن آخر عيد ميلاد له شهد كالعادة موجة عاتية من موجات النفاق في الصحافة والإعلام بلغت ذروتها بقول أحدهم " يوم ميلادك.. مصر ولدت من جديد"!!.. كان عهد مبارك عصرا من النفاق الفج المكشوف الذي لعبت فيه الصحافة والإعلام دورا خطيرا وكارثيا في تأليه رأس النظام وتنزيهه ، وكذلك تشويه مختلف القوي والشخصيات الوطنية التي عارضته وحاولت تقويم أو تصويب سياساته ..إنها الجريمة التي لا تزال ترتكبها كل يوم ، للاسف الشديد ، بعض وسائل الإعلام وخاصة ما يعرف ببرامج "التوك شو" بالتقاعس عن شرح أهداف الثورة وغاياتها النبيلة لبسطاء الناس الذين ضاقت بهم سبل العيش ولم يعد في مقدروهم ممارسة حياتهم اليومية بنفس وتيرة ما قبل الثورة ..فالنخبة أصرت علي الإلتصاق بمقاعدها في القاعات المكيفة بالقاهرة وتفرغت لمخاطبة نفسها ، في حين تحاول بعض القوي الدينية بانتهازية فجة ومفضوحة اختطاف الثورة لتحقيق أغراضها الخاصة دون مراعاة للمصلحة العليا والامن القومي المصري رغم أن الجميع يعرفون جيدا علاقة هذه القوي وتعاونها الوثيق مع جهاز أمن الدولة في نظام مبارك ، وأيضا ترددها في المشاركة في الثورة حتي آخر لحظة .. أما تحالف أو إئتلاف شباب الثورة أو من يسمون أنفسهم كذلك ، فقد تفرغوا للفضائيات والمؤتمرات الصحفية وتركوا الشوارع والميادين والاقاليم لقوي الثورة المضادة..وأكثر ما أخشاه ويثير قلقي وإنزعاجي هو كثرة الادعياء والانتهازيين الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الثورة والثوار وبدأوا يوجهون سهام النقد الي الجميع بمن في ذلك المسؤولون في المجلس الاعلي للقوات المسلحة وحكومة الدكتور عصام شرف التي اكتسبت شرعيتها من ميدان التحرير ..وسبق أن طالبتُ أكثر من مرة بأن يتم التوافق علي قيادة مؤقتة تتحدث باسم الثورة وتدفع في إتجاه تحقيق مطالبها واستحقاقاتها وتكون مرجعية مسؤولة أمام الشعب والحكومة والجيش ..واقترحت أن يُعقد لواء القيادة مؤقتا للجمعية الوطنية للتغيير التي قادت النضال ضد النظام البائد وتحمل زعماؤها ما لا يطاق من قمع ومطاردة في سبيل سعيها لمنع التمديد والتوريث وفتح باب الحرية أمام الشعب لتقرير مصيره ..وأخشي القول إن من يدعون أنهم "شباب الثورة" الآن ،يتحركون تحت مظلة فضفاضة ومطاطة ومضللة تسمح لكل من هب ودب بالإنضواء تحتها ..بل يمكنني القطع بأن القوي الحقيقية التي حركت ونظمت وشاركت بالنصيب الاكبر والأهم في أنشطتها قبل وبعد وأثناء أيام ميدان التحرير ، وأزعم أنني اعرفهم جيدا عن قرب ، هم الاقل وربما الأندر ظهورا في وسائل الإعلام ..وإذا فعلوا فإنهم يتحلون بنكران ذات وتواضع وحكمة يفتقر اليها معظم الادعياء من الشبان الذين بدأوا يستفزون الشعب وخاصة البسطاء وكبار السن ..وبلغ الامر حد أنني سمعت من يترحم علي أيام مبارك سواء ممن أزعجهم نزق وتهور البعض أو انتهازية التيارات الدينية والسلفية التي تحاول انتهاز فرصة ضعف الدولة لتمرير أجنداتها الخاصة أو القفز علي السلطة ، أو الانفلات الامني والفوضي التي يبدو أحيانا أنها متعمدة ومنظمة!!..وأكثر ما يدعو الي السخرية والحزن أن الفضاء الأليكتروني الذي كان عاملا رئيسيا في قيام الثورة ونجاحها أوشك أن يتحول الي ساحة خالية للثورة المضادة ..فقد قرأت يوم الجمعة خبرا علي موقع "اليوم السابع" بعنوان " شباب الثورة : لم يتحقق سوي 20 ٪ من مطالبنا" ..وعندما طالعت التعليقات علي الخبر فُجعتُ بأن جميع التعليقات ، وعددها 25 تسخر من الثورة والثوار وتتخذ موقفا معاديا يتمني العودة الي ما قبل 25 يناير ..أي حكم حسني مبارك بكل فساده وبشاعته ..ولا أُخفيكم أنه يؤلمني ويحزنني أن قطاعا عريضا من الشعب المصري لا يشعر حتي الآن بكل ما تحقق رغم أن ما حدث يكاد يلامس تخوم المعجزات..إذ نجح شعب مصر في إسقاط أبشع نظام ديكتاتوري في تاريخه عبر ثورة بيضاء أذهلت العالم وألهمته وجعلته يتغني بعبقرية أحفاد الفراعنة وحضارتهم ..ولكن المشكلة تكمن في النخبة ووسائل الإعلام التي فشلت في نقل روح الثورة وأهدافها النبيلة حتي الآن ..فوجدنا مصريين يتظاهرون من أجل رجل خرب البلد ودمر إمكاناتها ونهب أموالها وثرواتها هو وأسرته وحاشيته ..وكان يتعين علي هؤلاء المتعاطفين مع مبارك مراجعة موقفهم ليس فقط لأن سويسرا أكدت أنه لص سرق أموال الشعب وهربها وأنه كاذب أنكر أن لديه أرصدة في الخارج ..ولكن أيضا لأن مجرد سقوط نظامه كتب لمصر ميلادا جديدا ووضعها علي طريق استرداد المكانة التي تستحقها في الاقليم والعالم..ولعل أقرب وأوضح الامثلة علي ما أقول هو تحقيق المصالحة الفلسطينية برعاية القاهرة وهو التطور الذي وصفه المراقبون بأنه أولي ثمار ثورة 25 يناير ..ثم عودة الدفء الي العلاقات المصرية الاثيوبية التي دمرها نظام مبارك مما عرض حياة المصريين ووجودهم للخطر ..ناهيك عن قتل شهداء الثورة بدم بارد وهي جريمة عقوبتها الاعدام..لقد كان حكم مبارك حقبة سوداء في تاريخنا ويجب أن ينال اركان هذا النظام جزاؤهم العادل عن الجرائم السياسية التي ارتكبوها وذلك يعني أن براءة الذمة المالية لاشخاص مثل فتحي سرور ومفيد شهاب وفاروق حسني وعلي الدين هلال وغيرهم لا تكفي لإفلاتهم من عقاب مستحق علي جرائم إفساد الحياة السياسية والتورط في تخريب الذمم والضمائر والعقول وذلك أشد خطرا بما لا يقاس من نهب الاموال وتهريبها الي الخارج..