لست من هواة الجلوس أمام شاشة التليفزيون طوال الليل في رمضان الكريم لمتابعة طوفان المسلسلات الذي يفرض نفسه أو يتم فرضه علي المشاهدين!! أفضل في الشهر الكريم ان استغل ما يتوافر من وقت إضافي لقراءات احتاجها ولتسجيلات صوتية تمنحني الزاد والمتعة الروحية والقدرة علي احتمال ضغوط الحياة. لكني لا أفهم هذا الهجوم المسبق علي المسلسلات.. مرة بدعوي انها لهو رخيص (!!) ومرة بانها إسراف في غير محله (!!) ومرة بأن ما أنفق عليها؟ من الاجدي ان ينفق في اوجه الخير أو ان ما يتقاضاه النجوم من أجور عالية أمر يستحق الحجر عليه (!!). وبداية فأنا لست مع حشد كل هذا الكم من المسلسلات علي شاشات التليفزيون مرة واحدة في الشهر الكريم.. وكنت اتمني لو تم توزيعها علي مدار العام بدلا من تشتيت انتباه المشاهد و»حرق» كل هذا الكم من الابداع في شهر واحد، ثم ترك باقي السنة للعرض الثاني.. لكن هكذا أرادت سوق الاعلان التي أصبحت تتحكم في الشاشات الصغيرة.. بدءا من المسلسلات وحتي الاخبار مرورا ببرامج الرغي والطبخ وغيرها. لكن هذا شيء وما نقرؤه من هجوم مسبق علي مسلسلات التليفزيون التي ستعرض في رمضان شيء آخر.. ونترك حكاية اللهو عن العبادات جانبا فلا أحد يجبر مشاهدا علي الجلوس امام التليفزيون، ولا سبيل إلي إنكار أن بعض المسلسلات القديمة والجديدة فيها من المتعة الروحية والرسالة السامية ما يجعل الحديث عنها باعتبارها من »اللهو» الذي يتنافي مع الشهر الكريم كلاما لا يستحق إلا أن يوصف بالسخافة (!!) ففي رمضان رأينا »ليالي الحلمية» و»أبوالعلا البشري» و»الراية البيضا» و»رأفت الهجان» و»ذات» و»جراند اوتيل» ومئات الروائع وضحكنا من القلب مع نجوم الكوميديا عادل إمام وسمير غانم ومحمد رضا وغيرهم واستمتعنا بفوازير »نيللي» و»شريهان» و»فطوطة» وعشنا صفحات من التاريخ القديم والحديث وذكريات مع شخصيات رائعة في كافة المجالات في مسلسلات قدمت لنا حياة أمثال الشعراوي وقاسم أمين وأم كلثوم من القامات الشامخة في كافة المجالات.. ولم يكن كل ذلك من »اللهو» الذي ينبغي منعه، بل من المتعة والجمال والفن الذي يسمو بالنفوس ويغسل هموم الحياة. نترك ذلك وراءنا لنتحدث عن صناعة يعمل فيها عشرات الألوف وعن أموال ينفقها مستثمرون يعرفون أنهم يراهنون علي ما يضمن لهم أموالهم، وقبل ذلك كله عن فن نملك كل امكانيات التفوق فيه وهو بالتأكيد إحدي وسائل القوة الناعمة التي نتميز بها والتي تعرضت لأزمة طارئة تعافت منها سريعا الدراما التليفزيونية كما بدأ المسرح في التعافي، ويبقي الدور علي السينما المصرية الرائدة التي تحتاج لتضافر كل الجهود لكي تستعيد مكانها في المقدمة. ويبقي حديث الملايين التي يتقاضاها النجوم في سوق يحكي العرض والطلب ولا يغامر فيه المستثمرون من المنتجين بأموالهم الا ليربحوا.. وكم هو جميل أن أقرأ أن الرائع عادل امام ما يزال يتربع علي عرش الاجور بعدما يقرب من نصف قرن من الابداع وهو ما لا اظن ان نجما آخر عندنا أو في العالم كله استطاع ان يفعله. فعلها الرائع عادل امام بذكاء فني هائل، وبموهبة عرف كيف يحافظ عليها وبإصرار قهر كل الظروف علي ان يكون الأفضل. يبقي عادل في المقدمة، وتتبعه كوكبة من النجوم تحصل علي بعض ما تستحقه. كلهم جزء عزيز من ثروة مصر الفنية التي ينبغي الحفاظ عليها ومنحها الفرصة لتعطي افضل ما عندها فليأخذ هؤلاء اعلي الاجور وليمنحوا الناس فنا جميلا بقدر ما يستطيعون وليؤدوا للدولة حقها في الضرائب مثل أي مواطن. وأيا كان عدد المسلسلات التي ستعرض في رمضان فأنا شخصيا أتمني أن يتضاعف العدد وأن يرتفع مستوي الانتاج وان تتوزع المسلسلات علي مدار العام وان تحمل المتعة الجميلة والرسالة النبيلة كأي فن عظيم. ويبقي خاطر لا أعرف كيف يتحقق.. وهو أن يجد نجومنا الكبار طريقة لكي تكون مشاركتهم في المسلسلات التليفزيونية وسيلة لعودتهم للسينما ولعودة السينما المصرية إلي ما يليق بها من إنتاج.. سواء من حيث عدد الأفلام أو جودتها. أعرف أن النجاح في السينما بالنسبة لنجومها لا يوازيه نجاح. سحر السينما شيء آخر. وإذا كانت الظروف قد جعلت النشاط السينمائي يتراجع في السنوات الأخيرة، وجعلت النجوم يلجأون للتليفزيون.. فإن السينما تبقي الحب الأساسي، ويبقي علي الجميع- وأولهم النجوم أنفسهم- أن يساعدوا بكل امكانياتهم علي عودة الروح إلي ستوديوهات السينما. لا أعرف الطريقة المثلي لتحقيق ذلك، لكن النجوم- بلا شك- ستكون لديهم أفكار بهذا الشأن من واقع خبرتهم، وستكون لديهم القدرة علي الإسهام في تنفيذ هذه الأفكار ونقلها للواقع. كل الأمنيات بأن تكون الدراما التليفزيونية أفضل حالا هذا العام، وأن يكون فيها ما ينشر المتعة ويبعث البهجة ويسمو بالنفوس. وألا تتحول الدراما إلي مجرد فواصل بين الاعلانات.. ورمضان كريم علي الجميع. إعلان الحرب علي صلاح الدين!! فجأة.. تم إعلان الحرب علي صلاح الدين الأيوبي!! والقصة- في أساسها- ليست جديدة. وصلاح الدين مثل أي شخصية تاريخية كان علي الدوام موضع خلاف. خاصة أنه اقترن بحدثين كبيرين في تاريخ الأمة: الحروب الصليبية من جانب، وسقوط الدولة الفاطمية من جانب آخر ليتحول الأزهر الشريف إلي المركز الأكبر للمذاهب السنية. مثل أي شخصية تاريخية كان لصلاح الدين أعداء كالوا له كل ما يمكن من اتهامات. وكان له أنصار أبرزوا الجانب المضيء في شخصيته، ووقفوا طويلا عند معركة حطين وتحرير القدس من جيوش أوروبا التي حاولت أن تحتمي زورا بالصليب لتبرير استعمارها للأرض العربية. الدكتور يوسف زيدان خبير بالمخطوطات التاريخية وقارئ جيد لكتب السيرة. وقد اختار منها ما استند إليه ليقول في أحد البرامج التليفزيونية إن صلاح الدين واحد من أحط الشخصيات في تاريخ الإنسانية!! وكان لابد أن يثير الأمر بعض الاهتمام لأن للرجل تاريخه العلمي من ناحية، ولأن ما قاله استدعي تصريحات سابقة له نفي فيها حدوث الإسراء إلي القدس الشريف، واستخلص - من نفس المخطوطات- أن المسجد الأقصي الذي جاء بكتاب الله ليس هو الأقصي الذي بالقدس!! ومن يومها ونحن نصحو كل يوم علي اضافة جديدة لكي تبقي القصة قيد التداول، ولكي يبقي الضجيج تحت دعوي تصحيح التاريخ. فصلاح الدين قتل المسلمين السنة والشيعة ولكنه والي الفرنجة وخضع لليهود!! وصلاح الدين خان وتآمر وارتكب كل الموبقات في سبيل الحكم!! وصلاح الدين كان »اختراعا»، لم يظهر للوجود إلا في الستينيات من القرن الماضي مع المد القومي والعربي ومع الحلم بتحرير فلسطين واستعادة القدس!! وفيلم صلاح الدين الشهير لم يكن فيلما سينمائيا بل كان جزءا من المؤامرة شارك فيه نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي والسباعي مع المخرج الكبير يوسف شاهين والمتآمر الأكبر أحمد مظهر!! ولو استمر الأمر فربما سنري كيف أن صلاح الدين هو المسئول عن أحداث سبتمبر وعن جرائم داعش وعن كل ما نعانيه من كوارث تجتاح العالم العربي والإسلامي، ومن أزمات داخلية تبدأ بارتفاع الأسعار ولا تنتهي بانتشار التوك توك!! ولا يتسع المجال هنا إلا لنقطتين أساسيتين في هذه القضية: • الأولي تتعلق بالفيلم السينمائي الذي حفظته ذاكرة أجيال عديدة. فهو - مثل أي فيلم سينمائي- ليس تسجيلا للتاريخ، ولكنه رؤية ابداعية تحمل وجهة نظر أصحابه. وقد قدم يوسف شاهين مع نخبة المبدعين التي شاركت في كتابة الفيلم وتنفيذه صورة رائعة لإسلام يدعو للمحبة ويعلي القيم الإنسانية، ولعرب ومسلمين يدافعون عن أوطانهم ويتمسكون بقدسهم، ويرفضون استعمارا جاء يحاول تبرير جرائمه بأن يحمل الصليب، فكان المسيحيون العرب أول من وقف في وجهه. ولا أظن هنا أن قامات إبداعية بحجم نجيب محفوظ والشرقاوي ويوسف شاهين، يمكن اتهامها بأنها كانت مجرد أدوات دعائية لمشروع سياسي. ولا أظن أن التذكير بالقدس كان خطيئة، ولا أن تقديم صورة إنسانية للعرب والمسلمين تتمسك بالحق وترفض التعصب والكراهية.. هو إثم من عمل الشيطان!! والنقطة الثانية هي أن مكانة صلاح الدين في التاريخ يحددها انجازه كحاكم سياسي وكقائد عسكري في ظل الظروف التي عاشها والقيم التي حكمت عصره. والسؤال هو عن دوره في تحقيق التكامل بين جبهتي مصر في الجنوب والشام والعراق في الشمال في مواجهة الغزو الأوروبي. ثم في كيفية إدارته للصراع حتي انتهي بانكسار الغزو الاستعماري وباستعادة القدس وتحرير الأرض العربية. ولعلي أشير هنا إلي ما نشرته الزميلة »الشروق» قبل أيام منسوبا إلي أحد خبرائنا العسكريين المتقاعدين، والذي روي في ايجاز رائع كيف قدم لأحد أرقي المعاهد العسكرية في العالم التي كان يدرس فيها قبل أعوام دراسة تاريخية موثقة عن معركة »حطين» باعتبارها المعركة العسكرية الأعظم من حيث تأثيرها السياسي والعسكري.. وكيف أصبحت هذه الدراسة - بعد ذلك- جزءا من المنهج الرسمي لهذا المعهد. وكيف أثبت في هذه الدراسة أن صلاح الدين قد سبق نابليون بونابرت بستة قرون في اكتشاف وتطبيق احدي النظريات المهمة في العلوم العسكرية عن حشد كل الامكانيات واجبار العدو علي القتال في الوقت والميدان الذي يجبر عليه.. وهو ما يعرف عسكريا ب »الفن التعبوي»!! ماذا يعني ذلك؟! يعني أن أكبر المعاهد العسكرية في العالم يدرس »حطين» باعتبارها المعركة العسكرية الأعظم في تأثيرها السياسي والعسكري. ويدرس صلاح الدين باعتباره عبقرية عسكرية سبقت نابليون بقرون في أهم انجازاته الاستراتيجية.. بينما البعض عندنا يعلن الحرب علي الرجل بأثر رجعي، ويصفه بأنه أحط شخصية في التاريخ، ويكاد يطالب بمحاكمة من أبدعوا فيلما جميلا حمل اسمه، ويذكرنا بأن تحرير القدس لا يعني شيئا لأنه رأي في المنام أو في أحد المخطوطات أن المسجد الأقصي ليس هو المسجد الأقصي (!!).. وعليك أن تمد الخط إلي آخره، ثم تنتظر »اتهام اليوم» الذي سيتم توجيهه إلي الناصر صلاح الدين!! السنباطي.. و»إله الكون» أعشق رياض السنباطي مطربا. كان في صباه يسير في طريق احتراف الغناء ربما قبل التلحين. مرض الربو أبعده عن ذلك وجعله يتفرغ للتلحين فيصبح هذا العملاق الذي وصل للذروة في ألحانه الرائعة لأم كلثوم. لكن الحنين للغناء لم يبارحه. فقدم بصوته العديد من التحف الغنائية. لا أمل شخصيا من سماع قصيدة »فجر» التي كتبها له أحمد فتحي أو قصيدة »أشواق» التي كتبها مصطفي عبدالرحمن. وأغالب الدموع وأنا استمع إلي رائعته »إله الكون» التي تتجاوز كونها واحدة من أروع الاغنيات الدينية إن لم تكن الاروع، إلي تفردها بالسباحة في جو انساني بديع يصور حيرة البشر في حياة يغمرها الجمال الذي أبدعه إله الكون، والصراع الأبدي بين قلوب تخفق ونفوس تشعر بالجمال، وعقود تتدبر أمور الدنيا والدين. واحدة من أجمل وأرق ما كتب حسين السيد طوال حياته، وأكثرها شاعرية. رافقها هذا اللحن الأخاذ الذي يجمع بين العذوبة والمهابة، ثم هذا الأداء المبهر في تصوير ضعف الانسان وحيرته. إنه نفس الأداء الذي تجده مع السنباطي وهو يغني علي العود لحنه البديع لأم كلثوم »رباعيات الخيام». بالطبع ليس في صوته جماليات صوت أم كلثوم ولا قوته. ولكن فيه هذا الضعف الجميل الذي يتجلي في تضرعاته إلي الله وهو ينهي رباعيات الخيام، فيمنح الأغنية فيضا من الانسانية. وتبقي »إله الكون» درة فريدة بين الأغنيات الدينية. ربما لا ينافسها في »التفرد» عندي إلا لحن جميل آخر أبدعه الفنان محمود الشريف وأدته المطربة »أحلام» من كلمات للشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفي يقول فيها: جميل ربي وماله مثيل ولا يشبه جماله جميل إنها تحفة غنائية أخري، لا تشبه غيرها من الالحان الدينية. كأنها تسبيحة حب في خالق الأكوان، وقصيدة عشق جمال ما أبدعه. .... ثم تسمع مأفونا يقول لك إن الغناء حرام!! آخر اليوميات في تحفته الرائعة »إله الكون» يقول شاعر الأغنية حسين السيد: إله الكون أنا عابد جمال الخلق والقدرة بشوفهم في الجبال قوة وفي عيون الأمل نظرة وأشوفهم في الفضا عزة وفوق خد الهوي شعرة وليا عيون إذا شافت تحب تشوف كمان مرة وذنبي في الهوي قلبي يحب يعيش ولو بكره