فجأة تذكرها المطربون والمطربات هذه الأيام لتحقق نجاحا يفوق نجاحها عند اطلاقها قبل نصف قرن أتابع بقدر المستطاع حفلات مهرجان الموسيقي العربية كل ليلة من علي شاشة التليفزيون المصري ساعات من المتعة الصافية مع الابداع الفني الجميل الذي يشارك فيه نجوم مصر والوطن العربي، تعوضنا عن حالة التلوث السمعي التي تحاصرنا منذ سنوات والتي تحول فيها الغناء الي مهنة من لا مهنة له، وكان علي الاصوات الغنائية الحقيقية ان تكافح لتبقي ولكي تنجو بنفسها من موجة الهبوط التي كادت تخنق كل شيء جميل في حياتنا. تضع حفلات المهرجان الذي تقيمه دار الاوبرا المصرية أمامك بانوراما رائعة للغناء العربي. ابداع أجيال وراء اجيال يتسع المجال عاما بعد عام للانتاج الجديد لنجوم الغناء لكي يبقي تراثنا الغنائي شامخا ويبقي انتاج العمالقة هو الملاذ لعشاق الغناء الجميل. تأخذك ألحان هذه الأجيال للتفكير في قدرتهم المذهلة علي الابداع الجميل في ازمان لم يكن يعرف للفنان دوره ولا يعطيه ما يستحق. اتذكر كيف كان اعظم موسيقي انجبته مصر والعالم العربي وهو سيد الموسيقي العربية سيد درويش يمشي في شارع عماد الدين الذين كان شارع الفن في عصره، فيري كل المسارح مضاءة بنور فنه، وبالاوبريتات الرائعة التي ابدعها فيقول لاصحابه ان مصر كلها تغني ألحانه بينما يمضي هو مفلسا!! هذا المبدع العظيم الذي رحل مبكرا ولم تستمر سنوات ابداعه الا قليلا ومع ذلك فقد كان ما ابدعه في سنوات لم تتعد اصابع اليدين هو الأجمل في تراثنا، وهو اساس نهضة الموسيقي العربية. يكفي ان اقول لك ان رياض السنباطي بكل عظمته قال قبل ان يرحل عن دنيانا بتواضع عبقري: نحن لم نضف الا القليل لما تركه سيد درويش!! ولعل ما يقصده السنباطي العظيم ان من جاء وراءه او بعده من المبدعين ساروا في الطريق الذي حفره العبقري سيد درويش وانه لولاه لكانت الموسيقي ما زالت في رحلة »اللي أمان» التي ثار عليها سيد درويش وسار الجميع وراءه ورغم الحروب التي لقيها في عمره القصير لتكون هناك موسيقي عربية تجسد روح شعب مصر واشقائه العرب وتغني للناس وليس للسلاطين وتحتفي بآلام وأفراح الشعوب وليس بافراح الباشاوات وطهور الأنجال. كانت هناك أجيال وراء أجيال من المبدعين لم تتوقف مصر يوما عن اهداء الدنيا صانعي الجمال والبهجة بعد سيد الموسيقي العربية الخالد جاء الشيخ زكريا والسنباطي وعبدالوهاب والقصبجي صاحب التطوير الاكبر في الاغنية الفردية بعد سيد درويش وحتي الان. ثم تتابعت الاجيال: جيل محمد فوزي والشريف وفريد الاطرش ثم جيل الموجي والطويل وبليغ حمدي والرحبانية وبعدها كانت محاولات لكنها لم تصمد امام موجات التغريب من ناحية والتخريب من ناحية اخري. يأخذني الحديث الي اجيال الملحنين الذين اثروا حياتنا لأنهم الاساس في نهضة الاغنية او كبوتها لدينا الان اصوات غنائية رائعة ولدينا مواهب شابة تنتظر الفرصة ولدينا شعراء رائعون يكتبون ارقي كلمات للاغنية. لكن المشكلة ان الملحن الموهوب غائب وان المناخ العام لا يشكل بيئة صالحة لحركة غنائية تمتع الناس وتجمل الحياة. في الاصوات ما زال جيل منير والحجار وهاني شاكر قادرا علي العطاء ولدينا شيرين وانغام والمواهب الصاعدة مثل آمال ماهر ومي فاروق وريهام عبدالحكيم وفي الاوبرا وخارجها عشرات الاصوات الجميلة القادرة علي الاداء الممتع لو وجدت الفرصة. وفي الشعر الغنائي لم يعد جيل جمال بخيت هو آخر العنقود في الشعر الغنائي الجميل، بل تتبعته اجيال تسير في نفس الطريق وتبدع ما يضيف دائما الي الشعر والغناء. ومع ذلك ينفتح الباب امام »اديني بوسة» ويغلق بالضبة والمفتاح امام من لا يجيدون صنع »الافيهات» او يبرعون في تقديم الشعر علي مقاس خصر المغنية.. اذا صح القول بان ما يقدم ينتسب للغناء!! لدينا الاصوات الجميلة التي تؤدي تراثنا الغنائي القديم والحديث بكل جمال ولدينا شعراء الاغنية الذين يستطيعون ان يملأوا الدنيا بالفرح والجمال، وأن يضيفوا لتراثنا الغنائي الاصيل الجديد الذي يثري حياتنا بدلا من هذا الرخص الذي يتم تسويقه او هذا الغباء الذي يتحول الي غناء مسموم!! لدينا الاصوات الجميلة، ولدينا الشعر الرائع ومع ذلك يبقي العثور علي اغنية جميلة تضيف لتراثنا الغنائي الرائع مسألة صعبة واستثنائية وتبقي المشكلة الاساسية عندنا في أمرين: الامر الاول والاهم.. اننا لم نقدم علي مدي سنوات طويلة ملحنا له قيمة يستطيع بناء تيار موسيقي جديد. بالطبع كانت هناك - وما زالت - محاولات في هذا الشأن، ولكنها كانت لا تواصل الطريق (كما حدث مع فاروق الشرنوبي) او تخضع لاعتبارات السوق كما حدث مع الكثيرين، او تكتفي باثبات الحضور بين حين وآخر فلا تترك اثرا حقيقيا، ولا تضيف ما يصنع الفارق بين غناء يميت القلب وبين غناء سيد درويش واحفاده من اجيال الابداع الموسيقي. والامر الثاني ان النهضة الغنائية لا تأتي من فراغ، وانما تتم في مناخ سياسي وثقافي يدفع للابداع في كل المجالات مع ثورة 1919 وانفجار الوعي الوطني.. كان سيد درويش يقوم بثورته الموسيقية، وكان مختار يعيد مجد الفن التشكيلي في مصر. وكان طلعت حرب يرسخ الاقتصاد الوطني في مواجهة السيطرة الاجنبية علي مصير البلاد. وكان »التلامذة» الذين خرجوا في المظاهرات هم نواة الحركة التي شكلت الطبقة الوسطي المحدودة التي قاومت سلطة الاحتلال وفساد الملكية، ومهدت الطريق للثورة الاهم التي غيرت وجه التاريخ في مصر والمنطقة في يوليو 1952. ومع هذه الثورة انطلق الفن في نهضة لم تحدث من قبل وعندما نرصد حركة الغناء المصري هنا فلا يمكن ان نفصلها عن المناخ العام في السياسة والاقتصاد والثقافة. كان هناك وعي كامل بأهمية الثقافة والفنون. لم يخرج هذا الجيل الذي صنع مجدا جديدا للاغنية العاطفية والوطنية من فراغ. كان جيل عبدالحليم حافظ والموجي والطويل وبليغ مع شعراء الاغنية الجدد وفي مقدمتهم صلاح جاهين ومرسي جميل عزيز وعبدالفتاح مصطفي، هم التعبير الفني عن روح جديدة وعن ثورة تنشئ قصور الثقافة ومعاهد الباليه والكونسرفتوار وفرق الرقص الشعبي.. في نفس الوقت وبنفس الاهتمام الذي تبني به السد العالي وتؤسس لصناعة مصرية متقدمة ونهضة علمية وتعليمية غير مسبوقة وفي نفس الوقت الذي تنفجر فيه نهضة مسرحية ما زلنا نحلم باستعادتها وسينما مصرية هي الاجمل في تاريخنا السينمائي وجيل يبدع في الشعر والرواية ما زال هو الابرز حتي الان. مع اندلاع ثورة يناير وبعدها ثورة 30 يونيو كانت هناك محاولات للشباب وما زالت ولكن الظروف كانت صعبة والمناخ كان قاسيا وكل شيء يذكرك بمقولة شاعرنا وكاتبنا الراحل عبدالرحمن الخميسي: كيف أغني وانا مشغول بالدفاع عن قيثارتي؟! كانت هناك صيحات تغني للحياة في وجه اعداء الحياة. وكانت هناك نداءات للصمود في وجه خوارج العصر وهم يعلنون الحرب علي كل شيء جميل في حياتنا وكان الفنانون والمثقفون في الطليعة من حركة المقاومة لجيوش التخلف التي جاءت مع حكم الاخوان الفاشية.. تنشر الرعب وتعادي الفن وتنادي بمحاكمة الابداع وتريد تحويل قاهرة الفن والجمال الي »قندهار» اخري. لكن ذلك كله لم يجد الفرصة حتي الآن، ليتحول إلي تيار جديد في الثقافة والفن، وإن كان قد مهد الطريق لذلك. ما زلنا في حاجة لإضاءة كل المسارح، ولإعادة الحياة لكل قصور الثقافة في الاقاليم. ومازلنا في حاجة لإطلاق طاقات الابداع لدي أجيالنا الجديدة. ومازلنا في حاجة إلي الإيمان بضرورة تقديم كل دعم ممكن للثقافة والفنون. ومازلنا في حاجة لعودة المسرح والموسيقي لمدرسة لم تعد كالمدرسة، ولجامعات لا تحتفي بالإبداع. لدينا طاقات فنية ومواهب شابة مبدعة في جميع المجالات. لكننا نحتاج إلي مناخ يحتضن هذه الطاقات ويحولها إلي تيار جارف ينحاز للتقدم ويعبر عن الأمل، ويفتح الأبواب للنهضة. فعلناها مع ثورة 19 وبعدها. وفعلناها مع ثورة يوليو وفي ظل رعايتها. ومازلنا ننتظر الجديد الذي يترجم أشواق جماهير ثورتي يناير ويونيو، ويغني معها للحياة والجمال. وفي انتظار القادم الأجمل دعونا نستمتع بهذا المهرجان الرائع وبهذه الباقة المتنوعة من إبداع أجيال في مهرجان الموسيقي العربية. ونسعد بأن الغناء الأصيل يستعيد مكانته، وأن القاهرة تحتضن فناني العرب جميعا كعادتها، وأن لياليها تزدهر بالفن، ومسارحها تضيء لتقول إن اعداء الحياة لن ينتصروا أبدا!! في محبة سيد حجاب كنت أرجو أن يزهو مهرجان الموسيقي العربية هذا العام بليلة جميلة »في محبة سيد حجاب» شاعرنا الكبير الذي أمتعنا لعشرات السنين بروائعه الغنائية، والذي رعي أجيالا من الشباب ملأوا الدنيا بإبداعهم الجميل، والذي كان بشيرا للثورة ورفيقا للثوار في ميادين التحرير، والذي كتب بمداد الحرية الديباجة الرائعة لدستور الثورة. كم كان جميلا أن يحتشد فنانونا ليغنوا لشاعرنا الجميل الذي غني لنا بكلماته الرائعة علي مر السنين أحلامنا وآمالنا وعبر عن همومنا وأوجاعنا. وقال كلمة الحق حين كان الكثيرون يخافون من قولها. وغني للحرية والعدل، وجعل مصر وحدها هي المنارة والدليل في كل ما يبدعه. وإذا كانت الفرصة قد فاتت في المهرجان. فلتكن ليلة أخري ومهرجانا خاصا في حب المبدع الجميل، تغني مصر كلها له ومعه، وتدعو له بالصحة والعافية ودوام العطاء. دمت لنا يا شاعرنا الجميل عاشقا للوطن وصانعا للجمال ومقاتلا من أجل المعاني النبيلة في حياتنا. أما براوة.. أغنية الموسم هي »أما براوة» التي لا يخلو منها حفل فني، الأغنية عمرها يقرب من خمسين سنة، غنتها نجاة الصغيرة من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان الموسيقار محمد الموجي، فجأة تذكرها المطربون والمطربات هذه الأيام لتحقق نجاحا يفوق نجاحها عند اطلاقها قبل نصف قرن. وقد كان حظ الموجي قليلا مع صوت نجاة، رغم انه قدم لها عددا كبيرا من أروع أغانيها. لكنه في السنوات الأخيرة من حياته قدم لها لحنه الجميل »حبيبي لولا السهر» الذي حقق نجاحا مدويا. ثم قدم رائعته من كلمات الأبنودي »عيون القلب» التي أصبحت من كلاسيكيات الغناء العربي الحديث. واليوم تعود »أما براوة» لتتصدر المشهد الغنائي. وهذا من اسرار الفن الجميل. يعيش اللحن سنوات في الظل أو في الضوء الخافت. ثم فجأة يكتشف الناس فيه مواطن جمال كانت خافية، او يجدون فيه نغمة تناسب العصر، أو بساطة جميلة تأسرهم، أو أصالة يفتقدونها في ألحان ال»تيك اواي» التي تحاصرهم الآن. حدث هذا مع ألحان كثيرة، وسيحدث مع غيرها. فالنجاح لا وقت له، والفن الجميل لا يموت مع الزمن. عادل.. والوسام التكريم الذي ناله الفنان الكبير عادل امام من الاشقاء في تونس العزيزة يحمل أكثر من رسالة. إنه تأكيد جديد علي أن ما بيننا وبين الاشقاء العرب أكبر من كل المؤامرات علي شعوبنا. وهو إشارة جديدة علي أهمية الثروة التي يمثلها المبدعون، والتأثير الذي يمكن ان يحدثوه في العلاقات بين الاشقاء في طول الوطن العربي وعرضه. مازال الفن في مصر يشع بنوره في الوطن العربي.. ومازال الفنان المصري في قلوب محبيه. ومازال ما قدمته السينما المصرية، وما أبدعه نجوم الغناء علي مدي أجيال محفورا في وجدان المصريين. وعلي الجانب المقابل تظل القاهرة هي عاصمة الفن العربي. ويظل قلبها مفتوحا لكل الفنانين والمبدعين العرب كما كان علي الدوام. مبروك لفناننا الكبير الوسام التونسي. وأكثر من مبروك علي محبة شعب تونس وكل الشعوب العربية له وتقديرها للفن المصري. وليتنا نعرف قدرنا، وليتنا نقدم لفنانينا ما يساعدهم علي أداء رسالتهم التي نحتاجها الآن، وأكثر من أي وقت مضي، ونحن نواجه طيور الظلام ومؤامرات التفرقة بين شعوب لا حياة لها إلا بوحدتها. آخر اليوميات من جميل إبداع والد الشعراء فؤاد حداد الذي لا يُنسي نستعيدها تحية لأرواح أغلي شهدائنا وهم يبذلون الروح فداء لوطن يستحق كل التضحيات:. عادي اللي يتكلم ولا يضحيش ولاسأل في حد غيره يعيش أنا شهيد حتي اللي ينساني ما يختلفش قلبي ولساني وما يختلفش سيفي.. وش وظهر قدمت روحي مهر لو تقبلين يامصر أولادنا عرسانك في يوم النصر