6 أيام مضت علي آخر زيارة لأمي، فقادني شوقي إليها لأراها، وليتني ما فعلت.. لقد وجدت بابها مغلقا من الداخل، وطرقت الباب حتي تعبت يداي، فما فتحت ولا كلمتني. فعاودت الطرق بعنف أشد، فسمعت صوتها يصرخ: من الطارق.. من الطارق؟ فقلت: أنا ابنك يا أمي.. فقالت: إليك عني.. إليك عني.. ابعد، واتركني لهمي.. لقد أدركت حينئذ أن أمي متعبة، مرهقة، ربما من عدم نوم، أو لحزن ما في قلبها.. فزادني ذلك إصرارا علي أن أحدثها ولو من خلف الباب.. ولم أجد شيئا يسليها ويهّون عليها أكثر من ذكر أمر زواجها، وأنني تلقيت بعض اشارات من بعض خطابها، الذين خافوا أن يقابلوني، ووجلت أنا من السعي إليهم حتي لا أبدو كمن »يسوق البايرة«.. وفجأة علا صراخ أمي من خلف الباب لدرجة أنني لم أعد أفسر ما قالت.. ثم انفتح الباب قليلا ووجدتني أُجذب إلي الداخل.. ويا لهول ما رأيت.. رأيتها شاحبة، ناضبة، هزيلة لا يُري من وجهها إلا عينان التف حولهما السواد.. ما هذا يا أمي؟.. هكذا قلت ولم أكمل.. فوجدتها تلقي بجسدها النحيل الضامر فوق مقعد مكلل بالسواد، وتحدثت بصوت أسمعه بالكاد.. انني حزينة.. لماذا فعل زوجي هذا بنفسه وبنا؟.. لماذا أضاع خاتمته، وبدد أحلامنا.. لماذا؟.. لماذا...؟ لماذا؟.. وهنا وجدتني أقول دون تفكير أو ترتيب أو انتقاء للكلمات:.. لماذا تفعلين أنت ذلك.. ألم تخبريني بالأمس القريب عما فعله بك.. لقد استرقَّك، أذلك، أهانك، أشقاك وأضناك.. سرق كل ما لديك بل وصلت به الحال إلي خسة لم نرها في الرجال.. لقد حاول أن يشرك أصدقاءه فيك، باعهم أرضك وعرضك.. ليتداولوها في الأسواق.. ألم يتركك لأبنائه يعرضونك في سوق النخاسة.. أليس كل هذا من سمات النجاسة؟!.. ردت أمي: نعم.. ولكن متي؟! بعد سنوات عدة قضيتها معه، كان فيها الفارس والنبيل والشجاع. وعادت أمي برأسها إلي الوراء لتلامس به أعلي مقعدها.. ثم قالت: لقد دافع عني بعد أن أهانتني جارتي الحاقدة الطامعة في وفيكم.. لقد ضربتني علي رأسي يومها. وأخذت خصلة من شعري لتجسد بها هزيمتي وانتصارها.. فإذا به بعد سنوات عدة يركب جواده الطائر، ويدخل به بيت جارتي فيحلق لها شعرها.. ويحطم رأسها.. ويخلع عنها ثيابها ويتركها صلعاء عارية محطمة ويأتيني بكل ذلك فأعرضه في سوق العالم فأُعز بعد هوان، وتذل هي في يوم الغفران. ألم يرفع راية شرفي علي سارية مجدي عند آخر متر من ترابي في طابا.. ألم و... وهنا وجدتني وقد قلبت الآية رأسا علي عقب، فرفعت صوتي في مواجهة صوتها المنخفض ووقفت وهي جالسة، وأشحت بيدي وهي ساكنة ماذا تريدين اليوم.. بالأمس طلبت مني الزواج.. والآن تندبين ما فعله بك زوجك السابق.. نعم يا أمي.. عندما فعل ذلك كان فارسا شجاعا، وشهما معطاء، ولكن خمر النصر والسلطة أطاحت برأسه، فترك أمرك لسواه، وكلف غيره برعاية مخدعك.. ثم هو عندما فعل ذلك كان هذا بأمر وتخطيط من زوجك الأسبق، الذي اقترنت به بعد سابقه الذي حررك من جواري قصور الملوك والسلاطين.. ألم تكوني مستباحة في القصور، ينهش من لحمك الغربان والنسور، أليس المحرر أولي بالذكر من السارق؟!.. أليس المخطط أحق بالإشادة من المارق؟!.. نعم يا أمي »يا مصر« لديك اليوم حزن غير مبارك.. وألم غير مشارك.. ولكن حزنك كله قطرة من بحر حزن أبنائك وأحفادك ممن بلغوا الثلاثين.. ومأساتك اليوم »طوبة« وسط أحجار مآسي الملايين.. يا أمي.. زوجك أحاط به النصابون والمرتزقة والداعرون فصاروا علي رءوس الأشهاد.. تذكري ما كنت فيه قبل 11 فبراير الذي كان يوم الفراق.. ساعتها ستعرفين الفرق بين الوطواط والبراق.. كلاهما يطير.. ولكن ما الهدف؟!.. الفرق كبير بين مص الدماء والوصول إلي عنان السماء.. يا أمي حيرتني.. وسأقول لك قبل الذهاب.. إما ترك الجزع، وإما الانقلاب، فاختاري ما شئت: الغد المشرق، أو الأمس اليباب.